بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

كتابة الفلسفة و قراءتها

An essay on Philosophy
Philosophy: Reading and Writing
By: Ahmed Khalis Shalan
مقالة في الفلسفة ...
... كتابة الفلسفة و قراءتها
أحمد خالص الشعلان


              
يُظن أننا حين نكتب تكون الغاية الأولية من ذلك إرضاء هاجسٍ ما في داخلنا، لربما مصدره حاجة سيكولوجية، و هي في الغالب تكون لاشعورية، الغاية منها تلمس وقع أفكارنا في نفوسنا و هي على الورق. و النفس الصافية هنا لا بد أن تتحسس، بطبيعتها، من طريق هذا الصدى، مقدار ما يتوفر من وضوح في عرض المرء لأفكاره، أو ما ينتابها من تشوش، فيعمد آنذاك إلى ما لا بد منه من تعديل أو تصويب لتلك ألأفكار، أو ما يفرضه الحال من تصحيحات يتطلبها السياق المنطقي للفكرة المعروضة. و آنئذ، و بعد أن يصل الكاتب إلى قناعة بما كتب شكلا و مضمونا، تبرز الحاجة عنده تلقائيا باتجاه عرض أفكاره على ألآخرين. و على القدر الذي تكون عليه الغاية عند الكاتب هذه المرة شعورية، يكون كذلك انتظاره و شوقه لمعرفة ردود أفعال ألآخرين على ما يكتب، لأن ألإنسان بوجه عام يطمح إلى تحقيق ما ينتظره الآخرون منه. و عند الكاتب، يكون الآخرون في تجربة الكاتب مرآته التجريدية التي ينعكس فيها صدى فعل التفكير.

          و إذا كانت الحاجة إلى معرفة صدى ما نكتب لدى نفوسنا سيكولوجية خالصة، فان معرفة صدى ما نكتب لدى ألآخرين هي سايكو- اجتماعية، تحمل من بين ما تحمل في طياتها، محاولة فتح طريق نحو ألأخر للاتصال به و عرض أفكاره عليه  (و أنا شخصيا لا أميل إلى تصديق مزاعم أولئك الذي يزعمون أنهم يكتبون لأنفسهم، و إلا فلم ينشرونه لكي يقرأه الآخرون إذن!)، و هذا فعل يحمل ضمنا، من بين ما يحمل، قبولنا بأن يقوم الآخر بعرض أفكار ألآخر علينا. أليس هو ما يحصل على الإنترنيت حين ننشر افكارنا و يروح القراء معلقين مؤيدين أو معارضين لمقولاتنا؟

           و معرفة صدى ما نكتب عند ألآخر ليست هي بالتأكيد نهاية المطاف، بل يضاف اليها اختبار استعمالنا لعدد مما يمكن أن يسمى متطلبات الكتابة التي يمتلكها الكاتب، و منها مثلا مستوى اللغة التي يستعملها الكاتب مركبا لنقل رسالة يتوخاها في النص، و قدرة الكاتب على تطويع تلك اللغة، وصولا إلى غاياته المتوخاة تلك، و منها أيضا وضوح النص، او ما يسمى مجازا  بـ"مقروئية" النصintelligibility ، أي إمكانيات النص على كشف ذاته و إتاحتها للقارئ. و أعني بذلك، انفتاح مغاليق النص بقدر من الشفافية أمام الإمكانيات المتواضعة على القراءة عند القارئ المتوسط على أقل تقدير، و إلا فنحن لا نكتب لجمهور كله من الفلاسفة! و أزعم أن تلك ألإمكانيتين، أمكانية النص على إتاحة نفسه و إمكانية القارئ المتوسط، هما بالتالي ما يشكل المعيار العام  لـ"مقروئية " النص.

          و لا بد من التنويه هنا بحقيقة مهمة، و هي أن عزوف القارئ عن قراءة موضوع ما، لا يعد دائما إشارة أكيدة على صعوبة النص، و إنما قد يشير إلى، من بين ما يشير إليه، هوى القارئ في القراءة. فالقراءة و على الرغم من أنها تعد عموما وسيلة للمعرفة، فهي في جوهرها  أيضا، بخاصة في بدايات ميل ألإنسان إليها، ذات طابع ذاتي، يتمثل بهوى و ولع و شغف بنوع من اللعب الفكري. و هذا يعني أننا ربما نجد قارئا مولعا بقراءة الرواية، و آخر شغوفا بالشعر، و آخر هواه في العلم أو القانون أو السياسة أو الفلسفة (و هي غاية هذه المقالة)، لدرجة أن نجد عند قراء الفلسفة ما يسوغ لهم اقتصار قراءتهم على الفلسفة دون غيرها من حقول المعرفة لما تتمتع به من شمولية في التناول. و بذا، تمثل عندهم ذروة أنواع القراءة. و نحن نادرا ما نجد من بين القراء من يتعدى ولعه القرائي إلى مستويات متعددة من القراءة. و إذا وجدنا هذا النوع النادر من القراء، فهم دون شك تلك القلة التي يأتي منها، إن جاز لنا القول، الكتّاب و الفنانون و المفكرون و العلماء عموما، بسبب حاجتهم المتزايدة إلى إطلاع شامل على صنوف المعرفة يقتضيه مستوى الوعي الذي يطمحون إليه، و ألخصه هنا بمفردة "الموسوعية".

           و إذا ما عدنا إلى موضوع "المقروئية"، و بالتحديد "مقروئية الفلسفة"، نجد انه صحيح أن الفجوة التي حصلت في ذاكرة العراقي، و في آليات تفكيره، جراء تقييد معرفي دام عقودا، و هو ما أثر على قدراته في التعبير عما يريد كاتبا أو قارئا أو متحدثا، إلا أن المرء غالبا ما يصدم هذه ألأيام، حين يستمع إلى بعض المثقفين يتحدثون أو يكتبون، ففضلا عن التلكؤ نرى هذا البعض  يتشوش و يتخبط  في البحث عن مفردات مناسبة يصوغون بها عباراتهم، لدرجة أن الجمهور قد لا يفهم ما يريدونه بالضبط، و كأن أي منهم في عجالة من أمره، يريد أن يقول أكبر قدر مما يريد قوله قبل فوات الأوان، أو ربما ليعوض لاشعوريا خسارته لما فاته في سالف الأزمان!

          و ينطبق هذا على ما يكتبه عدد غير قليل من المثقفين الكتاب عموما.  فمن المعلوم أنه ثمة آليتان يتطلبهما فعل الكتابة، إحداهما، إن جاز لنا القول، معنوية و الثانية مادية. و هاتان الآليتان تعملان متلازمتين، و كلاهما لا تقل عن الأخرى أهمية في عملية إخراج النص إلى بر القارئ. و على الرغم من أسبقية ألآلية المعنوية في العمل زمنيا، إلا أنهما تتناوبان الوظيفة و الدور أثناء فعل الكتابة. و ما التشوش أو التخبط، الحاصل أحيانا عند عدد غير قليل من الكتاب، في التعبير عما يريدون، إلا محصلة لأحد نوعين من القصور. و هو قصور ناجم أما من خلل في تسلسل حلقات ألآلية المعنوية لموضوع الكتابة و ترتيبها عقليا، و أقصد هنا ألأفكار أو المحتوى، أو من خلل في ألآلية المادية لطريقة الكتابة، و أقصد هنا جهل الكاتب بإستعمال أقسام الكلام المعروفة (مدى تأثير كل منها في الموقع الذي يحتله في العبارة و تحريك هذا الموقع لضرورات أسلوبية)، فضلا عن جهله في استعمال أدوات التنقيط، التي بات أغلب كتاب هذه الأيام يتجاهلون استعمالها و لا يعيرونها إلتفاتاً، و كأن ببعضهم عداوة أو ضغينة يحملونها في جيناتهم لهذه الأدوات، أو قد نعزو هذا إلى جهلهم بقيمتها الدلالية!

           فنحن في حالات ليست نادرة، نجد أنفسنا أمام أربع حالات:
 في الأولى . . . نجد كاتباً جاهلا بالآلية المعنوية للكتابة، و لكننا نجده من ناحية ثانية ملما الى حد ما بالآلية المادية للكتابة.  فقد نقرأ عنده جملا تبدو لنا سليمة شكلا، و لكنها من النوع المضطرب دلاليا، و يسميها جومسكي "غير مستساغة" unaccepted، ما يعني إنها من نوع الزبد الذي يذهب جفاء.
في الحالة الثانية . . . نجد أنفسنا أمام كاتب جاهل بأغلب تفصيلات ألآلية المادية للكتابة، فنقرأ له كلاما مشوشا عن فكرة، قد يكون تجميعها في ذهنه جرى سلسا، لكنه أخفق في إيصالها بسبب فقر أدواته الكتابية!
في الحالة الثالثة . . . نحن أمام كاتب جاهل بالآليتين. فإذا اعتبرنا جدلا أن أيا من الكاتبين في الحالتين ألأولى و الثانية يتمتع بالمقروئية في حدها الأدنى، فإن كاتب الحالة الثالثة بالكاد يتمتع بأية نسبة من هذه المقروئية.
أما في الحالة الرابعة . . . فنحن أمام كاتب يمتلك الموهبة باستعمال ألآليتين، بهذا القدر أو ذاك لأن "الكمال غاية لا تُنال"، ما يؤهل نصه التمتع بقدر من المقروئية، تتقرر نسبتها باختلاف إجادة الكتّاب فرادى، و نباهة القراء فرادى.

          و على الرغم من التصور السائد عن صعوبة قراءة الفلسفة، فإن قراءتها تتولد غالبا من هوى و و لع قائم أساسا على التحدي. و قد يقتصر ولع قارئها أحيانا عليها دون سواها. و هذا الأمر مرده الى حقيقة تنبع من واقع قراءة الفلسفة، و ليس من التخمين. و هو واقع يضع كاتب الفلسفة في سباق مع قدراته و رهان عليها، بحيث يجب عليه ألا يكون على دراية كافية بأصول المنطق فحسب، و إنما أيضا يكون على دراية و فطنة باستعمال الآلية المادية للكتابة، لكي يضمن وصول فكرته إلى القارئ و هي على قدر كاف من الوضوح، و من جانب آخر، كي يوفر متطلبات متعة غير منظورة يسعى إليها القارئ من وراء قراءته، ناهيك عما يبحث عنه القارئ ضمنا من زهو أثناء سياق القراءة، مصدره تصور لاشعوري، بأنه يقرأ ما لا يقوى الآخرون على قراءته، ما يعني بالنتيجة إنه قادر أيضا على استيعاب ما لا يستطيع الآخرون استيعابه، بسبب تجريد المادة التي يقرأها و امتناعها. و  نسوق هنا مثالا، على هذا الأمر، تجربة جميع القراء الذين قرؤوا وول ديورانت في كتابه الجميل "قصور الفلسفةMansions of Philosophy"، الذي غير المؤلف عنوانه فيما بعد إلى "مباهج الفلسفةPleasures of Philosophy "، أو كتابه ألآخر "قصة الفلسفةStory of Philosophy ". هذان الكتابان اللذان كانا طيلة عقود، و ما يزالان، المدخل و الجاذب لقراءة الفلسفة عند عشرات آلاف، بل قل مئات آلاف القراء، و ربما الملايين، في العالم، لأنهما بأسلوب كاتبهما يحولان قراءة الفلسفة لا إلى متعة لا تضاهى فحسب، و إنما يحولانها أيضا الى حاجة عقلية لا يستغنى عنها القارئ أبدا.

          و عند القول أن على كاتب الفلسفة عندنا، أو المعلق عليها أو ناقدها أو مفسرها أن يكون ملما بأسلوب التفكير المنطقي و بالآلية المادية للكتابة على حد سواء، فإني اقصد بهذا أن عليه أن يتمتع بقدرة على عرض مضمونه بطريقة تيسر للقارئ مهمة القراءة، ما يعني ضمنا امتلاكه لدراية تامة باللغة التي يكتب بها. فشكل الحروف  و ما تحمله من إيحاءات سيميائية  خفية، و رسم الكلمات و ما توحي به من دلالات متنوعة و متناقضة أحيانا، و جرس لفظ الكلمة الذي يفرض نفسه عند القراءة تلقائيا، و ما تتميز به بعضها من رنين، و طول العبارة و الجملة إذا كان محسوبا بعناية، و استعمال أدوات التنقيط، كل ذلك مجتمعا و منفردا له أهمية و دور في تجزئة ألأفكار إلى حلقات تسهل فعل القراءة. فضلا عن أن لها جميعا وظيفة مادية في تجسيد ما هو مجرد.

           فإذا أحسن كاتب الفلسفة التدرج في عرض سلسلة مضمونه منطقيا، و لكن قصر في الوقت نفسه في استعمال الآلية المادية للكتابة أو عبث بها، و أقصد بذلك عدم توظيفه المناسب لأدوات التنقيط، و سوء اختياره للموقع المناسب لأقسام الكلام (اسم، فعل، حرف) و تفصيلاتها (صيغة الفعل، صفة، ظرف، نوع حرف الجر، أدوات الربط)، فضلا عن جهله بقواعد الإعراب، فإنما بذلك قد يكون بدد الكثير من جهده سدى، ناهيك عن جهد القارئ!
         
          إن على كاتب الفلسفة، و ليس غيره، عندنا بالذات، أن يدرك مقدما، بسبب التجريد العالي للمادة التي يتعامل بها، بأن اللغة العربية لغة مسهبة بطبعها، و أن أي اقتصاد غير مدروس يتجاوز المعقول في استعمال أدوات التنقيط، أو تجاهلها، أو الاستعمال الكيفي لمواقع أقسام الكلام و تنويعاتها، قد يؤدي في الغالب إلى تشويش القارئ، و من ثم إلى إخفاق الكاتب في إيصال الرسالة التي يسعى من وراء النص إلى بلوغها.

          صحيح أن من حق الكاتب السعي إلى تطبيق المبدأ القائل أن "خير الكلام ما قل و دل"، و إن من حقه أيضا اللجوء إلى ما يشاء من أساليب البلاغة، و لكن شرط ألا يحول كل ذلك النص إلى عبارات مبتورة تجهد القارئ دون جدوى في البحث عن روابطها المنطقية، فيتحول النص بذلك إلى شئ يسمى مجازا كتابة و لكنه لا يوحده مضمون!

          إن الغالب عندنا، هذه  ألأيام، في ميدان الكتابة المعرفية عموما، و ليس في حقل الفلسفة وحده (ربما بسبب الفيض في مساحات النشر المتوفرة)، هو تجاهل الكثيرين لإستعمال أدوات التنقيط. فما أكثر ما نقرأ، على صفحات المجلات و الصحف و حتى الكتب أحيانا، من أسئلة تغيب عنها علامات ألاستفهام، أو عبارات تعبر عن دهشة أو استنكار أو تعجب لا تنتهي بعلامة تعجب. أما تجاهل الفارزة فحدث عنها و لا حرج. حتى إني غالبا ما أقرأ جملة غابت عنها خاتمتها النقطة، فاندمجت بالجملة التي تليها التي تكون هي ألأخرى دون خاتمة. و هكذا تتداخل الجمل ببعضها إلى حد يدوخ به القارئ في إفراد و عزل المعاني و المكونات الدلالية عن بعضها البعض، و هكذا تتيه الفكرة و تضيع الغاية!

          و ربما ينجم هذا كله أما من جهل في استعمال اللغة و أدواتها، أو عن تأثر الكاتب، دون وعي بآليات الكتابة و أساليبها في اللغات الأخرى، أو بالترجمات الرديئة التي يقرأها من تلك اللغات، ناسيا، أو جاهلا، أو متناسياً، أن لكل لغة خصوصيتها في الكتابة. فأدوات التنقيط في اللغة ألإنكليزية، مثلا، لها وظائف دلالية يجهلها قارئ العربية، ما لم يكن مطلعا عليها. و تلك الوظائف لا يقتصر تأثيرها على حدود "نسبية"، و إنما يتعداها ليكون "كاملا" في كثير من الأحيان. و أقرب مثال على هذا هو استعمال "الفارزةcomma "، التي قد يؤدي  تغيير موقعها، في سياقات معينة، إلى تغيير كامل في معنى الجملة التي تسبقها أو تليها. و على الرغم من إني لست مختصا في اللغة العربية، ما يجعلني ربما جاهلا بحجم الوظيفة الدلالية لأدوات التنقيط في العربية، إلا أني أحس على الأقل، أثناء الكتابة، أن لأدوات التنقيط دور مهم في توضيح المعنى، و بذا أجتهد في استعمالها، على الرغم من الحقيقة التاريخية التي تشير إلى أن اللغة العربية المكتوبة  كانت أصلا دون نظام للتنقيط، و أنها استعارته لاحقا من لغات أخرى.
         
          نقرأ في المجلات و الصفحات الثقافية أحيانا، عدا النصوص الفلسفية المترجمة، نصوصا في الفلسفة لكتاب عراقيين تفسيرا أو تعليقا. و هذا النهج، في الواقع، يمثل دون ريب إهتماما بموضوع الفلسفة، التي طالما تجوهلت، أو غيبت ثقافتها طيلة عقود، لأسباب لسنا في وارد ذكرها هنا (و قد يستمر هذا الحال في الوقت الحاضر بسبب هيمنة الأيديولوجيات الدينية حاليا التي ترى في الفلسفة عدوا لدودا يضيق من رقعة الجهل عند جمهورها الميال للتلقين!)، ما أدى إلى غياب النص الفلسفي عموما، ناهيك عن ندرة كتابه أصلا، أو ندرة المهتمين به، تماهيا مع فكرة "تهافت الفلسفة" التي أتى بها عددٌ ليس قليل من أئمة اللاهوت الإسلامي! دون أن ننسى طبعا أولئك (من كل المذاهب) الذين إعتلوا مركب الفلسفة من أجل ليِّ عنق المنطق لترسيخ الخرافة إمتدادا لموقف الغزالي المتهافت نحو الفلسفة . . . و على القدر الذي أؤمن به بأهمية إشاعة قراءة الفلسفة، و تدريسها، و إشاعة منهجها في التفكير، فإني أرجو  في الوقت ذاته أن يأتي هذا ألاهتمام لدى الآخرين مستوفيا، على المستوى التقني، لشروط الكتابة عموما، و بضمنها  الكتابة الفلسفية، لكي يحقق هذا النهج تميزا يفضي به إلى الوصول إلى غايته المنطقية المعرفية، و هي إشاعة الثقافة الفلسفية، و بالتالي زيادة جمهور قراء الفلسفة.

          و إنه لشئ يبعث ألأمل في النفس، دون ريب، أن يقرأ المرء على صفحات المجلات بين آونة و أخرى نصوصا فلسفية لكتاب عراقيين. و مع أن كاتب هذه السطور صاحب محاولات متواضعة في ترجمة النص الفلسفي، إلا أنه لا يعد نفسه كاتبا في الفلسفة. و لكنه، لكي لا يبخس نفسه أشياءها، يعد نفسه قارئ متواضع القدرة في قراءة الفلسفة، و لكن على القدر الذي يتيح له أن يرى جيدا أن البون يظل شاسعا و المسافة بعيدة بين ما يزعمه المرء من قدرة على قراءة الفلسفة و فهمها و القدرة على الكتابة في مواضيع الفلسفة لما تطلبه الأخيرة من مواهب في التفكير، فضلا عن أن وعي الكتابة الفلسفية يختلف، في النوع لا في الدرجة، عن وعي قراءتها و فهمها. و أحاول هنا من هذا الباب أن أبيح لنفسي حق القول أن من بين النصوص الفلسفية التي يقرأها المرء، في المجلات و الصفحات الثقافية، ما هو سلس واضح الفكرة متيحا نفسه للقارئ الدءوب، و منها ما هو متعثر يفتقر إلى الكثير من آليات الكتابة الرصينة التي تليق بالفلسفة بوصفها الحقل الأكثر تجريدا من بين حقول المعرفة، ناهيك عن غموض مضمون أغلب ما نقرأه.

          لنأخذ مثالا على هذا أحد المواضيع المنشورة في واحدة من الصفحات الثقافيات اليومية المعروفة الواسعة الانتشار تحت عنوان "الفلسفة الموضوعية التاريخية ... " لكاتب لا أريد أن أذكر اسمه عزوفا عن التخصيص، و أقتطف منه ما يلي مثلما ورد بالضبط:
"و بما أن الفلسفة كينونة تمتلك الأبعاد الزمنية للمصداقية لهذه الكينونة فلا يمكن تزامنه لهذه الكينونة و خصوصية موضوع- الموضوعية التاريخية - و على تبرير آخر و هو –حالة التدفق المستمر-الخ و بما فيه من تجاوز على معنى الحياة المتمثل فيها التدفق الشمولي غير الموقوف إلا تبريرا يحول بين- الموضوعية التاريخية- و بين حالة التدفق المستمر و هو ما يحول بين الإدراك و بين تحويل الإدراك إلى فعالية لهذه القدرة و ما يمكن أن نعيه ...الخ"

أبيح لنفسي بوصفي قارئاً . . أن أسأل: ما هذا؟

و أنا لا أريد هنا أن أستعين، لفهم كل هذا أو جزءً منه، بقراء الفلسفة بل بكتابها! فهل يتفضل أحد أولئك و يوضح لي، أنا الجاهل، ما يعنيه ما ورد في النص المقتبس في أعلاه!

          إذا أردنا أن نضع نصب أعيينا ضرورة أن يكون للنص الفلسفي، المكتوب عراقيا في هذه الأيام، أهدافا تربوية و تعليمية، الغاية منها إشاعة التفكير الفلسفي و المنطقي، بإستجابة منا لواقع مسؤوليتنا الثقافية جميعا في واجب ردم الهوة و الفجوة و النقص الحاصل كله في الذاكرة العراقية، فإني أسجل على النص أعلاه تقصيره (و هذا هو شأن أغلب ما نقرأ) في توضيح مصطلح "الموضوعية التاريخية" و مصطلحات أخرى وردت في النص، فضلا عن غياب المصطلح الأجنبي المقابل فيه (و في أغلب النصوص من غيره)، و هو ما درجت عليه العادة، لأن حضور المقابل الأجنبي للمصطلح غالبا ما يسهل للقارئ سبل الخروج من فوضى المصطلحات و تداخلها. و لكن المرء يلاحظ، للأسف، كيف يتحول استعمال المصطلح في أحيان كثيرة إلى فوضى تقلل من قيمة النص المقروء، إن لم تنسف تلك القيمة من أساسها!

          و المرء يتساءل، أكان الكاتب يعني بـ"الموضوعية التاريخية" ما يعنيه المصطلح الإنكليزيhistorical materialism  الذي يعني وجود الشئ بوصفه موضوعا له وجود حقيقي خارج الإنسان، أو كان يعني وجود مضمون موضوعي في الذهن ألإنساني، أم كان يعني ما تعنيه الموضوعية في فكر هيغل مجرد اغتراب للروح المطلق في مرحلة من مراحل تطوره بوصفها وجود آخر للروح أو للمفهوم أو للفكرة؟ أم كان يعني بـ"الموضوعية التاريخية" ما جاءت به المادية التاريخيةhistorical materialism ، القائل بأن أحداث التاريخ لها وجهة مستقلة إلى حد كبير عن تأثير ألأفراد، و تسعى فيه إلى غاية لانهائية و تأثير وعي الفرد بها محدود جدا؟ أو أنه كان يعني إن لحركة العلم، تاريخيا، خصائص موضوعية تتراكم بموجبها حقائق العلم المستقاة من الطبيعة، حلقة فوق حلقة. و ما الدور الذي يؤديه العالم أو الذات الفاعلة هنا سوى كونها وعاء إكتشاف للتدليل على موضوعية تلك الحقائق و حتمية إكتشافها في مجرى الوعي الإنساني، ما يعني بالنتيجة بأن ما لم يكن قد اكتشفه "س" من العلماء لكان قد إكتشفه "ص" من العلماء في وقت لاحق، شئنا أم أبينا؟

إن المرء، في الواقع، لا يجد في النص كله لا هذا و لا ذاك! فماذا يريد الكاتب إذن؟ . . . فهل من العدل أن نلوم القارئ على عدم فهمه حينئذ إن لم يجد في النص سوى تكديس عشوائي لمصطلحات غابت فيما بينها الروابط المنطقية، بخاصة حين يكون عنوان المقال في واد و أسطره جميعا كل في واد، فيروح القارئ يجاهد للخروج من النص بمعنى، مهما كان ملتبسا، فيخفق!

           و أسوأ ما في الكتابة حين تغيب عنها غيابا شبه تام أدوات التنقيط ، ناهيك عن سوء استعمال أداة التنقيط الواردة في النص أعلاه، و هي الـ"dash  " الإنكليزية، التي يسمونها في العربية "الشارحة"، مع أنها لا وجود لها أصلا في منظومة الكتابة العربية، و إنما دخلت إليها من طريق الترجمة!

دعونا نقتبس مرة أخرى من النص نفسه للكاتب نفسه كي لا يظنن القارئ إنا ذهبنا بظنونا الى طرف قصي. يقول الكاتب (صورة طبق الصل من مقاله):
"ان ما ندركه و في كل الأحوال الدينامية الحياة الأساسية و بما حصل من متغيرات على اعتبار انها غير اساسية بهذا الفتراض او ذاك على الغاء تاريخ قد تتقاطع فيه الأمور و قد لا تتقاطع مما لا يمكن رفضه او الغاءه كموضوع رفض – هيجل -  تاريخ الشرق الأقصى القديم و هو دليل لخرق صلة اساسية لا يمكن رفضها على اعتبارات عقلية و مما لا يمكن و في كل الأحوال تبرير الصلة بتبرير الزمن باحداثه واقعية و لعل التقاطع الطبيعي بمقاييسه المتعددة هو ليس التقاطع الذي يشير الى الحقيقة لذا فتعريف التناقض المستنتج ما ذكرناه و يكشف حقيقته على هذه الشاكلة من الوضوح و التوضح كما ان الأحداث الواقعة لتختلف في اكثر من شكل و مجال كما في الكهربائية ....الخ" (إنتهى الإقتباس)

دعونا نسال مرة أخرى: هل هذه فلسفة؟ 

أهو استغفال للقارئ، بمحاولة إيهامه إن الكاتب إياه بإمكانه أن يسطر كلاما أعمق بكثير و أصعب مما بإمكان القارئ أن يفهمه ؟ ربما!

           إن الكتابة في الفلسفة ليست ترفا لغويا نزجي فيه أوقات فراغنا، و إنما هي منهج للوعي يهدف، من بين أمور عديدة، إلى الإرتقاء بالقارئ الإنسان إلى ما فوق وجوده البيولوجي، بل و حتى فوق ما هو مألوف و دارج و شائع من خرافات تريد بها الأديان تكبيل الإنسان و الحجر على عقله. و ليت ما نقرأه في النصوص الفلسفية، التي على شاكلة النص الذي اتخذنا عينة، تكون ترفا لغويا، لأننا حينئذ قد نقرأ جملا باذخة، تحاول أن توصل إلينا  فكرة  و لو بشئ من ألابتذال!

           ليست الغاية من الكتابة الفلسفية تغميض الواضح، بل العكس و هو توضيح الغامض، حتى إذا تطلب الأمر إطالة، فليست كل إطالة إسهاب. و المطلوب في الكتابة الفلسفية، قبل كل شئ، جزالة المنطق، أو ما يسميه اللغويون المعاصرون بـ "التماسك الداخليcoherence " للنص، و هو نوع من تلازم منطقي يضفي على النص صفة كلية راسخة المفاهيم، ناهيك عن "الترابط cohesion"، و هي خاصية تظهر بها العبارات، و كأنها في ميل دائم لإنجذابها نحو بعضها لضرورة داخلية تقتضيها دلالات الكلمات. إن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها في هذا الصدد هي ضرورة إمتلاك الكاتب لغة ميسرة مستفيضة تساعد القارئ على المضي قدما فيما يقرأه في النص. و هذه برأيي هي أكثر الطرق الناجعة أثراً لدفع جمهور أكبر أوسع لقراءة الفلسفة.

          أعلاه كانت وجهة نظر فيما نقرأ من نصوص فلسفية مكتوبة عراقيا بعيدا عن المجاملات و التهريج . و هل بالإمكان قراءة الفلسفة دون حس نقدي؟ . . و المرء ليأمل أن يتطور جهد الكتابة الفلسفية عندنا بمرور الزمن، مع إزدياد كاتبيها و قارئها، فيتبلور هذا الجهد و يتحول إلى تقليد راسخ في الثقافة العراقية، و عسى هذا عندئذ أن يسد ثغرة كبيرة موجودة حاليا، شئنا أم أبينا، في الوعي المعرفي لجمهور المثقفين العراقيين.

           و لأني أيضا لا أستسيغ نهج القراءة السلبية السائدة هذه ألأيام، بسبب ما تفتقر إليه من أبسط حلقات العلاقة الحية بين الكاتب و القارئ، و كأنها، بعبارة أخرى، علاقة بين أعمى و أصم (و معذرةً لقسوة التشبيه و شدته!). فعسى أن يكون ما كتبته هنا فاتحة لجدل فلسفي مثمر، يدور على الصفحات الثقافية، بين كاتب و كاتب، أو بين قارئ و كاتب، أو بين قارئ و قارئ، لأن جدلا من هذا النوع، إذا تحقق، هو الذي سيمهد، دون ريب، لإستواء صوت عراقي متميز في حقل الفلسفة.    

                

         

            


                   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق