بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

البير كامو و جان بول سارت... البحث عن معنى للوجود

 An essay on philosophy

 Albert Camus & Jean Paul Sartre … Seeking Signification for Existence

Ahmed Khalis halan
(This lecture was delivered in the French Cultural Center in Baghdad in March 2009)

مقالة في الفلسفة ...
               البير كامو  و جان بول سارت... البحث عن معنى للوجود
أحمد خالص الشعلان

A. Kh. Shalan
آلـبـيــر كــامــوAlbert Camus

كانت رحلة في سيارة سباق متينة متجهة من جنوب فرنسا صوب باريس، تلك التي فارق كامو بسببها الحياة عام 1960. كان عائدا من ضيعته التي قضى فيها احتفالات رأس السنة،  فكانت ميتته واحدة من أجلى صور العبث و اللاجدوى، بل و أكثرها عبثية على الاطلاق. و لكنها كانت  أيضا الأفدح خسارة للفلسفة و الفن و الأدب. حصل هذا و لم يكن قد مضى على فوز كامو بجائزة نوبل للأدب سوى ثلاثة أعوام، و هو في ذروة شبابه. كان آنذاك في رحلته تلك ذاهبا لإلقاء كلمة يتحدث فيها عن  الضمير في القرن العشرين، الضمير الذي غيرت مفاهيمه حرب في أوروبا دامت ثلاثين عاما من 1914 الى 1945، مع هدنة قصيرة في وسطها . و كان قبلها، أعني قبل موته، معروفا لدى العالم مقاوما للنازية، و بوصفه أيضا ممثلا مسرحيا، و محررا، و كاتبا مسرحيا، و روائيا، و بالإجمال  هذا  كله هو الذي جعل منه فيلسوفا. و ما أقل أولئك الذين يجمعون كل هذا و يغدون فلاسفة! قتلته شجرة إصطدمت بها سيارة السباق تلك في جو مطير، إنزلقت فيه عجلاتها، فانحرفت عن الطريق. تلك، دون ريب، ميتة درامتيكية لفيلسوف فرنسا الوجودي الشاب الذي فارق الحياة على ذاك النحو العبثي الدراماتيكي. فأعطت تلك الميتة مسوغا لمن نعت وجودية كامو  بالوجودية المتوحشة، و هو الفيلسوف الأكثر جدية في زمانه. و مع ذلك، فإن ميتته كانت الشاهد على منطقية و صحة أكثر المقولات الفلسفية التي راجت في تلك الآونة، و من بينها مقولة ان "الحياة عبث، لا طائل من ورائه، و لا معنى لها، و بأن أي شئ ربما يحدث لأي انسان، و في اي زمان دون مقدمات تذكر، أو تواتر، أو حتى  دون سبب منطقي". و لن يكون في موقف من هذا النوع، عند كامو، أي معنى لوجود إله، من أي نوع كان، يعزى اليه هذا العبث الذي لا طائل من ورائه، إلا إله  واحد لا غير إطلاقا،  هو إله الصدفة العمياء. فهل كان موت البير كامو صدفة عمياء من آلاف الصدف التي تمر، فتخطف من بيننا حياة أناس من طراز البير كامو؟   

الزمن و الصدفة هما المقولتان اللتان يتعاطى بهما البشر. و مع ذلك، فلطالما كان كامو يضع الأمور في النصاب الفلسفي الذي يراه مناسبا، و بموجب منطق ذاك النصاب، القائل من أنه صحيح أن للحياة قيمة، و لكنها تظل دوما  دون معنى. و هو بذا، يعلن تمردا متوحشاً ضد شيئين هما: أولاً الإنكار (أو ما يسمى nihilism) و هو الإعتقاد بالعدم nothingness، و ثانياً المبدأ المسيحي القائم على الاحتقار، الذي يعني إزدراء العالم و الإستخفاف به. و هو المفهوم الذي يجبر المرء على الإنصراف عن هذا العالم، و تكريه العيش في اللحظة الراهنة، و أن يصب الانسان إهتمامه، بدلا من ذلك، على زمن آت من المجهول.

إن ما كان كامو يعتقده عن الحياة هو انها ليست رحلة طويلة، الغاية منها الحج الى مكان ما،  و لا هي أيضا برنامجا معدا سلفا، و إنما هي في الأساس موقف attitude. و اذا أردنا ترجمة هذا بالإستعانة بلغةالمسرح: فهو يقول ان الحياة ليست عقدة، و إنما مشهد، ما يذكرنا بقول عميد المسرح المصري يوسف وهبي "ما الحياة إلا مسرح كبير!"، ما يهم فيه هي لحظة العيش الراهنة، لأنها الحاضر الموجود. و إذا كان كامو لا يؤمن بوجود اله، فلأنه إستقى جل معتقداته من نيتشة Nietzsche، و لكنه إستقاها من خلال قراءته لكيركيغارد Kierkegaard، و من ياسبرز Jaspers،  فتوصل الى مقولة أن العالم لا كفيل له unsponsored، و لا ضامن. و بذا، يروح ليوافق على ما يقوله نينشة،  بأن الإله في مفهومه القديم مات و تلاشى، إذ يقول نيتشة: "و ما سأقوله لكم هو أننا جميعا قتلناه، أنت و أنا. و جمعنا ما هو إلا جمع من القتلة . . الإله مات!". فكيف سيتسنى لنا نحن قتلةُ كلِ القتلةِ أن نريح أنفسنا؟ . . فما كان يعني للناس كونه الأكثر قداسة، و الأكثر قدرة،  من بين كل ما وجد في هذا العالم. ها نحن قد حززنا رقبته بسكاكيننا. فمن ذا الذي سيمسح الدم عن أيدينا الملوثة؟ و يدلو فرويد بدلوه هنا قائلاً: أن هذا الدم سيكون العبئ الذي يثقل كاهل القرن العشرين، القرن الذي أراد كامو أن يتحدث عما آل اليه الضمير في هذا القرن، قبل أن تميته تلك الشجرة الصدفة التي إصطدمت بها سيارته. و هكذا ستظل تلك الخطيئة كي تتحول الى ذنب ينحدر بنا نحن البشر نحو الهاوية. فيذكرنا بقول نيتشة البليغ "من ينظر في الهاوية تتطلع اليه!".

و نجد عند كامو تلك المشكلة الأساسية التي واجهها العديد من البشر على كر القرون. فهو حاله حال الذين سبقوه، أو بعض الذين عاصروه، لم يكن بإمكانه القبول بالفتوى المسيحية (و قد يصح الأمر على فتوى أي دين آخر، لأن الأديان تتفق على أساسيات لا تفرقها سوى المصالح) لسببين: الأول هي المشكلة القديمة للشر– ما يعني إذا كنا نحظى بإله يتمثل بقوة مطلقة و خير مطلق، كيف تسنى للشر يا ترى إذن أن ينوجد؟ و المشكلة الثانية هي أن المسيحية تتطلع الى المستقبل و تتجاهل الحاضر، و هي في هذا حالها حال كل العقائد التي تسوف الحاضر من أجل المجهول، فهي تتطلع الى مدينة الإله، و هي تجسيد لمبدأ الثواب و العقاب الموجود في طي المستقبل،  بدل التركيز على الحاضر على مدينة البشر رجالا و نساء. و يكتب كامو هنا قائلا: "يجري الأمر هكذا خلال كل يوم من أيام حياتنا حيث يحملنا الزمان، و لكن دائما تأتي اللحظة التي يكون فيها علينا نحن أن نحمل الزمان. فنحن نعيش على المستقبل – فالغد حين ياتي، و  قد بلغت من العمر عتيا، عندئذ ستفهم الأمر مليا. و نبوات (جمع نبوة و ليس نبؤة) من هذا القبيل، تبدو لنا مدهشة، فالأمر بعد كل شئ يتعلق بالموت. . فهل يا ترى يحاول كامو أن يضع الأمر على نحو، و كأنه يقول لنا فيه: أنظر الى نفسك! فعلى الرغم من أن اليوم يأتيك حين تلاحظ أنك، لنقل في سن الخامسة و العشرين، و بذا تؤكد صبوتك، و لكنك في الوقت نفسه تضع نفسك في علاقة مع الزمن، و تأخذ مكانك فيه، و كأنك تموضع نفسك في نقطة على منحن، أنت ملزم في أن ترحل صوب نهايته! فأنت عبد للزمن، بل و أنت عبد الى درجة فظيعة تمنعك من ادراك أسوأ أنواع أعدائك، و هو الغد . . الغد هو الفخ! . . فأنت و على الرغم من  تلهفك الى الغد، أنت في داخلك ترفض هذا الغد. و هذا العصيان من النفس الأمارة بالسوء ما هو إلا العبث بأكثر أشكاله سخفا.

لذا نجده يكتب الى صديق ألماني متخيل (و الإشارة هنا واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار) قائلا:

"... لقد إفترضت أنه بغياب أي رمز بشري أو الهي، لن نجد أية قيم سوى تلك                       التي إنحدرت إلينا من عالم الحيوان، أو بعبارة اخرى، أفعال العنف و الخبث. فأين يكمن الفرق بيننا أنا و أنت؟ . . يكمن الفرق، ببساطة، في أنك قبلت فكرة اليأس بنفس راضية، في حين لم أستسلم أنا إليه قط. و ببساطة، هو إنك نظرت الى موضوع اللاعدالة في ظروفنا على نحو و كأنك تريد أن تضيف الى هذا الإجحاف من لدنك،  في حين أنه بدى لي على نحو يلزم الانسان بإقرار العدالة، من أجل ان يقهر الظلم المستشري في داخله. و يحاول أن يخلق السعادة، لكي يحمي نفسه من التعاسة التي يفرضها الكون عليه. و لأنك حولت ياسك الى تطير، لأنك نجحت في أفلات روحك منه، بجعله قاعدة من نوع ما، فأنت راغب بتحطيم ما يقوم به الانسان و محاربته من أجل أن تزيد يأسه تعاسة. أما انا، فعلى الضد منك، أختار العدالة من أجل ان أظل على أيماني بالعالم. و أنا مستمر على الاعتقاد بأن هذا العالم لم تكن له غاية نهائية، غير أني أعلم بأن شيئا ما فيه لا بد أن يكون له معنى، و ذاك المعنى هو الانسان، لأنه الكائن الأوحد الذي يصر على الوصول الى هذا المعنى. إن لهذا العالم على الأقل حقيقة هي الانسان. و مهمتنا هنا هي العمل على تسويغ هذه الحقيقة ضد القدر نفسه، و ليس لها من تسويغ سوى الانسان ذاته. و من هنا، لا بد من إنقاذه إذا أردنا إنقاذ فكرتنا عن الحياة. و بإبتسامتك المستهزأة قد تسألني: ما الذي تقصده بإنقاذ الانسان؟ . . و سأصرخ بكل ما هو موجود فيّ من إنسان، بأني أقصد ألا نلصق بالانسان عاهات ليست فيه، و أن نعطي فرصة للعدالة التي لا يستطيع أحد غير الإنسان تصورها!".

 في مفهومه عن إنقاذ الانسان، و بوصفه فيلسوفا أخلاقيا معنياً بالوجود أيضا، ثمة هنا ما يجمع كامو من الناحية الفلسفية بتشكيلة من الفلاسفة يقف نيتشة في أقصى اليمين، بمفهومه عن الانسان المتفوق المثالي، و يقف ماركس في أقصى اليسار في مفهومه عن الانسان الواعي الواقعي، و نجد كامو في وسطها يضفر المثالية بالواقعية لإيجاد دلالة للوجود. و طالما كان الانسان المتفوق عند نيتشة مشروعا مثاليا، و عند ماركس مشروعا واقعيا،  فعند كامو يصبح كل شئ في صيغة مشروع؛ القانون مشروع، و الدين مشروع، و الفن مشروع، ما يعني أن الوجود نفسه مشروع. غير أن هذه المشاريع لا تكتسب وجودها الا من خلال تعريف الانسان لها. و ليست هي مشاريع ضمن خطة كونية، وضعها أحد في ما وراء فهمنا و إستيعابنا، أو تتعدى قدرتنا، لكي نحشر فيها حشرا، و إنما اشياء نحن نخلقها و نوجدها. و بذا، نكون نحن وحدنا القادرين على وضع تعريف للعدالة و الحب و الفن، و للحياة عموما على هذا الكوكب، و أينما يحل الانسان في الكواكب التي سيكتشفها لاحقا. و حتى إذا واجه الإنسان الفشل في تحقيق أي من هذه المشاريع، فمن الأفضل له، و بأي حال من الأحوال، "الإصطفاف الى جانب أولئك الذين اختاروا الحياة، و ليس الى جانب أولئك الذين إختاروا تدميرها".

هل كان كامو فيلسوفا اخلاقيا ؟ أجل ، دون ريب . ذلك ، لأنه كان يعتقد أنه ينبغي على البشر الا يبحثوا عن القيم في ما وراء السحاب ، و لا في اي عالم آخر من الموجودات الخيالية . و ما من احد ، أي كانت تسميته أو توصيفه ، و هبنا شيئا قط  . و القليل الذي نظفر به ندفع ثمنه غاليا،  موتا بالجملة دائما. ندفع الكثير لكي نكتشف علة شئ ما . و ليس من طريق أمامنا ، اذا كانت الظروف التي تحيط بنا مجحفة ، سوى ان نتغلب عليها بجعل كل شئ عادلا ، ان أمكن !    

و نعود لنطلِّع على ما كتبه كامو لصديفه الألماني المتخيل، إذ يقول

" ... إن اللحظة التي يجري بها تبرير تلك الأفعال ...

 (يقصد هنا التعذيب الذي يحل بالانسان و الحرب و الجرائم و إجحاف حق الغير، و زعم إمتلاك الحقيقة، و غيرها)

... حتى لو كان على نحو غير مباشر، لا يعود ثمة وجود للمبادئ و القيم؛ ما يعني أن دوافع تلك ألفعال الشريرة جميعا ستجد من سيصورها لنا على أنها خيرة. و الحروب، دون أهداف أو قواعد تضبطها، ستجيز، دون ريب، إنتصار العدم. و سنعود أدراجنا طائعين راغمين الى عهد الغاب ، حيث لا يسود سوى مبدأ واحد هو مبدأ العنف".

          فما أشبه اليوم بالبارحة بالنسبة لنا نحن عراقيي اليوم على الأقل! فقد كان كل هذا، الذي دق به كامو على باب إسرارنا الخبيئة، ناجما من تجربة له و لمثقفين آخرين، حصدوها بعد خروجهم من أتون حرب مات فيها ملايين البشر، و أقترفت خلالها الحضارة آثاما ضد نفسها، فأغرقت فيها أوروبا نفسها، و العالم معها، في رحلة عبثية للموت، بسبب إختلال ميزان العدالة الجمعية آنذاك، حين ظهر فوهرر فرد يمجد جنسه، على وفق مبدأ لا يختلف كثيرا عن مبدأ " ... و كنتم خير أمة اخرجت للناس"! الذي نخوض بسببه الآن،  أو بالأحرى منذ عقود،  في بحر من الدم. و كأننا بقراءتنا لكامو قبل خمسة أو أربعة عقود مضت، نحن القلة المثقفة في هذا البلد، كان قدرنا أن نعرف، من طريق كامو ما ينبؤنا به ، نوع الإختلال في العدالة و الموت العبثي الذي يمر علينا، هذه ألأيام، و تروح أرواح عشرات آلاف، بل مئات آلاف الناس ثمنا له، من أجل إله أثول و قديسين ديدنهم السرقة و القتل و الزنا. و ما أصدق كامو! . . . فقد دفعنا، و ما نزال ندفع، ثمنا باهضا لقاء القليل الذي نظفر به، هذا إن كنا فعلا قد ضفرنا بشئ!

ان الكتاب الذي ألفه كامو، و تجلت فيه فلسفته بأوضح ما تكون عليه، كان كتابه "أسطورة سيسيفس The Myth of Sisyphus".  و سيسيفس (أو سيزيف في الترجمات العربية قاطبة)، حسب الأسطورة الأغريقية، كان الأكثر حكمة بين بني الإنسان. و مع ذلك فقد أتهم ببعض الهزل تجاه الآلهة، لأنه سرق أسرارهم، و وضع قيدا في رقبة الموت. إذ حصل مرة، و الموت يقترب منه، أن أراد سيسفس إختبار حب زوجته له، فأمرها أن تـُلقي بجثته التي لم يدفنها أحد في ساحة عامة.  فإستيقظ هناك في الآخرة، و إنزعج من طاعة زوجته له، بما رأى أنه يناقض الحب لدى البشر. فأستأذن من الآلهة بالعودة الى الدنيا، لكي يعاقب زوجته. و لكن، ما أن رأى سيسيفس وجه الدنيا من جديد، و إستمتع بالماء و الشمس و دفئ الصخور و البحر، تمرد على العودة الى العالم السفلي. و لم تنفع معه النداءات و التحذيرات و علامات الغضب التي أطلقت اليه من ألآلهة. و أخيرا لم يكن أمام الإله ميركوري Mercury رسول الآلهة إلا أن يأتي بنفسه، و يمسك بسيسيفس و يجره الى عالم الأموات. و فرضت عقوبة عليه قوامها أن يظل يدفع صخرة الى أعلى التل،  ثم ينظر إليها تتدحرج عائدة الى الأسفل فيهبط معها. ليعاود الكرة صعودا معها من جديد. و هكذا يظل الى الأبد. بيد أن سيسيفس كان مدركا لبلواه. و ها هنا يكمن سر تراجيديته. فخلال لحظات هبوطه تنتعش عنده مجددا فكرة النجاح صعودا بالصخرة الى القمة. و هكذا يتبدد عذابه بتأثير حبه لاعادة الكرة. ان هذا الفهم الشفاف لقدره هو الذي يحول عذابه الى نصر!

و مع أننا قد نترك سيسيفس و هو في سفح الجبل ممرغا بالتراب، فيهزنا مصيره التراجيدي، إلا أن كامو يعلمنا هنا من طريق سيسيفس كيف نرفض العهدة للآلهة و لحمل الصخور معا! . . . فيا له من درس!

و هكذا صارت ثيمة كتاب "أسطورة سيسيفس" هي الأساس الذي إنبنت عليه أغلب أعمال كامو، و أفكاره عن الوجود، التي كانت تتبلور فيها جميع المقولات التي شاعت في تلك ألآونة حول وجود الانسان و مصيره على هذا الكوكب.

جان بول سارت Jean-Paul Sartre

باللإمكان أن نعثر على الفكرة الأساس لوجودية سارت في مؤلفه "الذات المتعاليةThe Transcendence of Ego"، الذي يبتدأ بمقولة "الشئ- في- ذاته the thing-in-itself" اللامتناهية و الفياضة. و يشير سارت الى أي وعي  قاصدdirect consciousness للشئ في ذاته على أنه "وعي ما قبل تأمليpre-reflective consciousness". و يسمي سارت أية محاولة لتوصيف، او فهم، أو أرخنة الشئ في ذاته على أنها "وعي تأمليreflective consciousness ". و ليس من طريق للوعي التأملي أن يدرج في جنباته ما هو قبل- تاملي. و بذلك، فإن التامل مقدر له أن يكون نوعا من "القلق anxiety"؛ و المقصود هنا هو الشرط الانساني human condition. إن الوعي التأملي بكل أشكاله (علمي، فني، أو ما الى ذلك) بإمكانه لوحده ان يقيد الشئ- في- ذاته بمحاولة لفهمه، أو توصيفه. و ما يتبع، بناء على ذلك، بأن أية محاولة لمعرفة الذات self-knowledge (وعي الذات – و هو وعي تأملي للاتناهي الفائض) ما هي إلا تركيب آيل للفشل مهما حاول التكون. إن الوعي ما هو إلا وعي الوعي لنفسه على القدر الذي يكون فيه وعيا لشئ متعال.

و بالإمكان أن يصح هذا على مقولة "الآخرthe other". إن " الآخر" (الذي يعني أي موجود أو شئ سوى الذات) ما هو إلا تركيب للوعي التأملي. و أية كينونة إرادية volitional لا بد لها ان تكون متأنية في فهم هذا على انه صيغة للتحذير و ليس بيانا وجوديا. و مع ذلك، ثمة تضمين هنا للأنانة solipsism التي يعدها سارت أساسية في أي توصيف متماسك منطقي للشرط الانساني. و يتغلب سارت على هذه الأنانة بنوع من الشعيرة ritual. فوعي الذات يتطلب وجود "الآخر" من أجل إثبات (استعراض) الوجود الخاص به. فهو لديه "رغبة مازوخية" ليكون مقيدا؛ ما يعني تقييدا بوساطة الوعي التأملي لموضوع آخر. و بالإمكان التعبير عن هذا مجازيا في سطر الحوار المشهور في مسرحيته "لا مخرج No Exit " الذي يقول  فيه: "الجحيم هو الآخرون".

و يوضح سارت بأنه "لكي أجعل من نفسي معروفا لدى الآخر، علي أن أجازف بحياتي. و المجازفة بحياة المرء،  في الواقع، يعني إفصاح المرء عن نفسه بوصفه متحررا not-bound من أي شكل للوجود الموضوعي، أو لأي وجود مقرر سلفا- ما يعني متحررا من الحياة"،  بمعنى إن قيمة تعرف "الآخر " عليّ تعتمد على قيمة تعرفي أنا على "الآخ" بالمعنى نفسه، إلى الحد الذي يدركني "الآخر" فيه كوني مقيدا بجسد منغمس بالحياة.  فأنا نفسي ما أنا الا "آخر" بوصفي ذات Ego.

إن الفكرة الرئيسة عند سارت هي أننا، بوصفنا بشرا، "مبتلون بالحرية Condemned to be free". و هذه النظرية تستند الى معتقده القائل بإنكار وجود خالق، و يصوغها مستعملا مثال السكين التي تفتح المظاريف.  يقول سارت اذا ما فكر أمرؤ بهذا السكين، سيفترض بأن صانعها لا بد أنه كانت له خطة بشأنها: أي جوهرا essence. و يقول سارت بأن البشر لا جوهر لهم قبل وجودهم، لأنه لم يكن ثمة خالق لهم.  و هكذا: "يسبق الوجود الجوهر". و يشكل هذا الأساس لتأكيد مقولته بأنه طالما كان الناس غير قادرين على تفسير أفعالهم و سلوكهم بالرجوع الى أي جوهر إنساني محدد،  يكونون بالضرورة مسؤولين مسؤولية كاملة عن تلك الأفعال. "فنحن تـُرِكنا لوحدِنا، دون أي مسوغ".

و ظل سارت، من ناحية ثانية، يصر على أن مفهومي الأصالةauthenticity  و الفردانية   individualityيجري إكتسابهما و ليس تعلمهما.  فنحن نحتاج الى تجربة الموت، و وعي الموت، من أجل أن نفيق و ندرك ما يستحق الإهتمام فعلا. إن ما يعد أصيلا في حيواتنا هو تجربة الحياة، و ليس معرفتها.

و مثلما كانت "سيسيفس" اللبنة التي إنبنت عليها وجودية كامو، كان لسارت لبنة إنبنت عليها وجوديته.  و كانت تلك اللبنة هي روايته "الغثيان Nausea" التي تصلح بيانا عاما للوجدوية. و لهذا السبب، ظلت هذه الرواية واحدة من أشهر أعماله، وأكثرها إقبالا من لدن القراء.  فهذه الرواية تصور باحثا محزونا هو "روكانت"، يعيش في بلدة تشبه الشق، حيث يغدو فيها واعيا بالكامل بحقيقة إن الأشياء، و المواقف العديمة الحياة مستمرة بلامبالاتها بوجوده. كما لو أنها تري نفسها مقاومة لأي معنى يحاول وعي الانسان أن يتصوره فيها. و هذه اللامبالاة من لدن "الأشياء في ذاتها" (يربطها سارت فيما بعد بفكرة "الوجود في ذاته" في كتابه الشهير "الوجود و العدم  Being and Nothingness") لها تأثير على إبراز الحرية الزائدة التي على "روكانت" تصورها و فعلها في هذا العالم؛ كيما يصبح بإمكانه أن يجد حالات مشبعة بالمعنى الذي يحمل طابع وجود في كل مكان يتطلع اليه. و من هنا يتأتى "الغثيان" المشار اليه في عنوان الكتاب؛ بمعنى أن كل ما يلاقيه في حياته اليومية يفيض بذائقة سريعة التفشي،  بل و حتى مرعبة – و تحديدا حريته. و الكتاب يستقي مصطلح "الغثيان" من كتاب نيتشة الشهير "هكذا تكلم زرادشت  Thus spoke Zarathustra"، حيث إستعمل فيه سياق الصفة الغالبة المغثية للوجود.  و لا يهم هنا  مقدار توق "روكانت" الى شئ آخر، أو الى شئ مختلف، فهو لا يستطيع أن يتحرر من هذا الشاهد المكدر على إنغماسه في العالم. و الرواية تفعل فعلها أيضا بوصفها تحقيق مرعب لبعض أفكار ايمانويل كانت الأساسية؛  بمعنى أن سارت يستعمل فكرة الإستقلال الداخلي للرغبة (بأن الأخلاق تشتق من قدرتنا على إختيار الواقع الذي نريد؛ ما يعني أن قدرتنا على الاختيار كونها مستقاة من حرية الانسان؛ فهي تتجسد بالمقولة الشهيرة "مبتلون بالحرية" بوصفها طريقة لنظهر بها لامبالاة العالم بالفرد. فالحرية التي يعرضها إيمانويل كانت هنا تشكل عبئا ثقيلا،  لأن حرية الفعل تجاه الأشياء هي عديمة الجدوى تماما، و التطبيق العملي لأفكار كانت يثبت أنه مرفوض بمرارة.       

أنا لست فيلسوفا كي يكون بإمكاني بسهولة إيجاد ما يربط مقولات كامو بمقولات سارت، أعني ما يجمع بين وجوديتيهما! و قد لا أجرؤ! . . و لكني سأقولها على طريقة الفرد بروفروك بطل ت. س. اليوت، إذ قال:

"أأجرؤ على إقلاق الكون!" . . . و قد لا أفعل! . .  و مع ذلك،  ينتابني الفضول لدرجة أني سأجرؤ على البحث عن روابط بين وجودية الفيلسوفين بعدتي القليلة الفقيرة، بوصفي قارئا و مترجما للفلسفة!

لنلاحظ أولا  أن كامو و سارت يتفقان في النظرة الفلسفية الأولية تجاه الوجود و الكينونات؛ و فحواها عيش اللحظة الراهنة إستنادا على الإرادة الحرة التي تنبع من داخل الإنسان، و ليس من خارجه. و  يتفقان أيضا على أن مصير الإنسان لا بد أن يوضع في يده هو، و ليس في يد أية قوة أخرى متعالية، سواء أكانت أرضية أو ما وراء الفهم . . من النوع الذي يبشر لها قديسون خرقى!

          وإاذا أنعمنا النظر قليلا، من ناحية أخرى، سنجد أن آراء سارت تتموضع مخالفة لآراء كامو في مواضع كثيرة، و بتفصيلات يستفيد منها الفن أكثر مما تستفيد منها الفلسفة، على الرغم من أنها تقربهما كليهما من نيتشة، بهذا القدر أو ذاك، لكل منهما. و تجنبا لإغراق أنفسنا  بتفصيلات تجريدية، سأستقي هنا مثالا حيا من عملين روائيين للفيلسوفين يضع كل منهما على طرف تفصله مسافة عن الآخر.

نجد في الطرف الأول "روكانت" بطل سارت السلبي في روايته "الغثيان" يعيش لحظات وجوده لحظة فلحظة، و بسبب نوع  "الكينونة النفسية selfness" التي وضعه سارت فيها من شدة إيمانه بالفردانيةindividualism ، يريد من كل الأشياء  أن تبالي به! لم على الأشياء أن تبالي به يا ترى إذا كان سارت قد موضع كل منها،  سواء أكان جمادا أو حيا،  كأنه "شئ في ذاته"، منغلق يريد هو الآخر أحدا ما أن يبالي به؟ و بالتالي، نجد أن هذه الموضعة للأشياء تدفع روكانت الى حالة من "الغثيان" أو الجزع من الوجود. و صحيح أن آراء سارت هذه كانت إفرازا لما مرت به أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين، لكن تأثيرها الثقافي، و الكل يعلم هذا، إستمر لما بعد عقابيل الحروب الأوربية، إستمر بفهم ساذج و بسيط، بل و أحيانا تافه، لمقولات سارت ألأصيلة عن "القلق" و "الإختيار" و "الإرادة" و غيرها، بخاصة في نواحينا و بين مثقفينا!

و نجد في الطرف الآخر ميرسو بطل كامو الإيجابي  في روايته "الغريبThe   Stranger" التي كتبها في الآونة نفسها التي كتب فيها "أسطورة سيسيفس"، و جسد فيها بأسلوب روائي بداية تشكل البطل العبثي، بأن أرانا ميرسو إنسانا يعيش في مجتمع ما عادت القيم تنفع فيه أحدا، إنسانا لا يجد لنفسه سواه. و من هنا، عليه، كحقيقة واقعة، أن يكتشف نفسه أولا، و هنا يكمن وجه الإختلاف بين "ميرسو" كامو و"روكانت" سارت. لذا، نجد كامو يكتب مرة ليؤكد إيجابية بطله فيقول:

"ليس من قبيل الخطأ ان حاولنا قراءة  "الغريب" بوصفها قصة عن انسان، خال مما يجعله بطلا، و مع ذلك فهو راغب بالموت من أجل الحقيقة. و إنه لمن المفارقة أن أقول مرة أخرى بإني حاولت أن أرمز ببطلي هذا الى المسيح الأوحد الذي نستحقه. و بعد تفسيري هذا، لا بد أن يكون واضحا بأني أقول هذا دون أي قصد بالتجديف، و لكن ليس دون هذا التأثير الطفيف للتورية التي من حق الفنان أن يستعملها للإحساس بما ينتاب الشخوص التي يخلقها.

لذا نجد أن "ميرسو" ، على خلاف "روكانت"، لا يحاول مطلقا تأكيد نفسه، و لا يتطوع للقيام بشئ. و لكي يحرره كامو من المجانية، فهو يوصف فنيا من خلال إستجاباته لمسائل يثيرها آخرون. و هذه الديناميكا يفتقر اليها "روكانت" بطل سارت. و تتكرر هذه الديناميكا مع بطل آخر لكامو في عمله "الطاعون The plague"، إذ نجد مدينة كاملة محكومة بالطاعون، يعيش فيها طبيب هو د. ريو، الذي يختار محاربته لوباء يجتاح المدينة إختيارا حرا، و ذلك بالبقاء في المدينة المطعونة من أجل "إنقاذ" ناسها. و لنلاحظ أن التناقض بين مقولات "الغثيان" و "الجزع" عند سارت، و  مقولات "إنقاذ" و "إختيار حر" ينسحب  على أعمالهما الأخرى الى هذا الحد أو ذاك.

          ختاما، إن فضيلة أدباء فلاسفة من طراز كامو و سارت يصح عليهما ما قلته مرة في مقالة لي عن ت. س. اليوت، في أنهم دائما يرتقون بنا الى حد  الوعي بالحافات الخطرة للهاوية التي يوصل البعض إليها مصير البشرية. فالعالم الذي يرينا إياه كامو ليس عالما عقلانيا، عالما نستطيع ان نعيش به الحياة التي نريدها آمنين، و إنما عالم  صغير ملقى به في اللامكان، و معرض لكل أنواع الشرور التي تقترفها قوى لا عقلانية، لا سلطان لنا عليها سوى ما نحلم به من عدالة، و محكوم علينا أن نعيش فيه بـ"جزع" و "قلق" و هما نتاج السقط meaninglessness و الإحباط frustration و الجدب futility التي نختبرها جميعا هذه الأيام في حياتنا نحن العراقيين.  فهل علينا، إذن، أن نعيش لحظتنا محاولين الوصول الى الحقائق الواقعية الصارخة للوجود الانساني، و أن نتعايش معها؟ و هل فعل كامو، يا ترى، أكثر أو اقل من هذا. و لكن . . . من أين لنا يا ترى قديس من طراز كامو يحدثنا، فيوقض فينا روحنا، دون إكراه من إله أثول و دون حديث عن القبور و النواح و الدجل و التحدث بإسم قوى لا وجود لها سوى في العقول الخرقاء!

   (ألقيت هذه المحاضرة في آذار 2009 في المركز الثقافي الفرنسي في بغداد في ندوة إستعادية لفكر آلبير كامو الفلسفي و أعماله الأدبية)  ... أستقيت هذه المحاضرة من المصادر التالية:

1 –  Areson, Arnold Camus and Sartre,
2 – Wikipedia, free encyclopedia, Jean-Paul Sartre,
3 – Lane, Bob. Albert Camus: The Absurd Hero, wikinfo.
4 – Sartre, Jean-Paul, Being and Nothingness  
5 – "الغريب" البير كامو
6 – "اسطورة سيزيف" البير كامو
7 – "الطاعون" البير كامو
8 – "الغثيان" جان بول سارت
     

     

علم الجمال عند ديفيد هيوم

On aesthetic … from (Stanford Encyclopedia of Philosophy)
                          David Hume’s Aesthetics
Translated by: Ahmed Khalis Shalan 
في علم الجمال ... (إقتباس من موسوعة ستانفورد للفلسفة)
                            ... عـلـم الـجـمـال عـنـد ديـفيـد هـيـوم
ترجمة: أحمد خالص الشعلان
David Hume 
A. Kh. Shalan
بإمكان المرء الإهتداء الى آراء ديفد هيوم في علم الجمال و فلسفة الفن من طريق البحث في ثنايا كتاباته في النظرية الأخلاقية و مقالات عديدة أخرى. و على الرغم من الميل المتزايد عند الباحثين للتأكيد على مقالتيه المكرستين للحديث عن الفن، و هما: "في مقياس الذائقة Of the Standard of  Taste "  و  "في المأساة  Of  Tragedy"، فإن آراءه عن الفن و الحكم الجمالي غالبا ما ترتبط، على نحو وثيق، بفلسفته الأخلاقية، و بنظرياته حول الفكر الانساني و العاطفة الانسانية. و بذا، لا تتميز نظريته في الذائقة و الجمال Beauty   بنصيب كبير من ألأصالة، مع ان الحجج التي يسوقها تنحو بوجه عام الى عرض تحليل مباشر، يعد نموذجا لأفضل ما في أعماله ، الا أن ما يستعمله هيوم من مصطلحات بطل استعمالها archaic terminology  يعد أحيانا عقبة في وجه ما يستحقه تحليله ذاك من تقدير ، و هو ما يسبب أحيانا وجود قراءات متقاطعة لموقفه من هذه المواضيع.
                                                          .  
1 – السياق context  
          لم تحض نظرية ديفد هيوم في علم الجمال سوى بعناية محدودة، الا عن حلول النصف الثاني من القرن العشرين، حين جرت استعادة و اهتمام بمجمل فكر هيوم ن اذ حصل ادراك تدريجي بأهميته من بين الفلاسفة الذين يكتبون بالانكليزية. و لكن، نجد أنه من غير المعقول ان تركز العديد من المناقشات، الجارية حول علم الجمال عند ديفد هيوم، على مقالة وحيدة متأخرة، و هي مقالته الموسومة "في مقياس الذائقة" (1757). ان التشديد على هذه المقالة لا بد ان يخطأ في تمثيل الدرجة التي تشكل بها نظرية هيوم الجمالية تكاملا مع منظومته الفلسفية.
          و نجد في الاعلان الذي ورد فيه نشر أول طبعة لمؤلفه "مبحث في الطبيعة البشرية  "A Treatise of Human Nature، ما يوعد بأنه في حالة  حصول الجزئين ألأولين على "تقدير" مناسب، فان المشروع سيتوصل الى نتيجة مفادها "ان البحث في ألأخلاق، و علم السياسة، و النقد، هو الذي سيوفر متطلبات الكمال لهذه المقالة حول الطبيعة الانسانية. و لكن، لسوء الحظ، ان هذه "المقالة" لم تحقق النجاح المرجو. و بذا، حصر هيوم الجزء الثالث و ألاخير فيها لبحث موضوع أسماه "في ألأخلاق  "Of Morals. فهو لم يتطرق به ابدا الى معالجة منظمة لعلم السياسة و النقد. و بذا، لم يتسن له قط ان يكمل "عمله" الجديد عن الطبيعة الانسانية. و قد يكون جرى تناول تلك المواضيع على شكل مقاطع في مجموعات عديدة لمقالات قصيرة، و هي تلك الكتابات "المنقحة polite" التي جلبت له النجاح الذي يرغب به في دنيا النشر.
          ان مفهوم هيوم عن النقد ليس من النوع الذي بامكانه أن يحل محل أي من مفهومي علم الجمال aesthetics أو فلسفة الفن art philosophy. فهذه التبويبات المألوفة هذه ألايام لم تكن متاحة آنذاك، حين نشر هيوم مقالته عامي 1739 و 1740، لأن الأب شارل باتو  Charles Pattueux  لم يكن قد دافع بعد، الا بحلول عام 1747، عن فكرة تجميع الفنون سوية في بحثه عن الفن الجميل. و لقد كان هيوم مطلعا على التقاليد الفرنسية. و بذا، كان يعرف ما يصب في عمل باتو لكي يحذو حذوه. و بوحي من هذا التاثير، تشير مقالاته أحيانا الى "الفنون الجميلة "the fine arts ، و من بينها الرسم painting، و الموسيقى   music، و النحت  sculpture، و الشعر  poetry  ("في الحرية المدنية  Of Civil Freedom" ص 158، و "في مقياس الذائقة" ص 264). و لم يستعمل قط تعبير "الفن الجميل"، و من المحتمل أيضا أنه لم يكن مطلعا على مؤلف الكسندر بومغارتن Alexander Bogmarten الموسوم "تأملات في الشعر  "Reflections on Poetry، الصادر عام 1735. ذلك العمل الذي أدخل فيه استعمال مصطلح "علم الجمال". أما الأطروحة التي كانت تضع فرقا مميزا بالكامل بين الأحكام الجمالية aesthetic judgment، و ألأحكام ألأخلاقية  moral judgments، فلم تكن قد اكتسبت صياغتها الحديثة الا بصدور مؤلف ايمانويل كانت  Emanuel Kantالموسوم "نقد الحكم Critique of Judgment" (1790)،  بعد وفاة هيوم عام 1776. لذا، بالامكان القول ان علم الجمال عند هيوم يحتل موقعا محوريا لائقا، يقع بين ظهور نظرية الفن الجميل ودفاع كانت عن ايجاد حكم جمالي قائم بذاته في مؤلفه "نقد الحكم"، و هو دفاع يحمل بصمات تأثر كانت الواضح بقراءاته لمقالات هيوم، و بمؤلفه الموسوم"مبحث في المبادئ الأخلاقية  Enquiry Concerning the Principles of Morals ".
          و قد يجد المرء في نظرية هيوم ما له أساس ثابت موجود في كتابات جوزيف اديسن Joseph Addison  و فرانسس هاتشسن Fransic Hutcheson. و من التقاليد القديمة المفسرة باسلوب جميل من لدن أديسن في العديد من مقالاته المكتوبة بين عامي 1709 و 1715، يروح هيوم ليحصل على الفكرة القائلة ان القيم الموجودة في مجال النقد هي بالأساس مسرات تفرزها مخيلة الأنسان. و على الرغم من أن هيوم يعترف بوجود حالات ينظر بها المرء الى الجمال، و كأنه مجرد مسرة حسية sensory pleasure، الا أنه يؤكد بأن الحالة التي تنتاب المرء إزاء الجمال هي مسرة معرفية cognitive pleasure. و عندما يأخذ هيوم الجمال بوصفه حالة نموذجية لمثل تلك القيمة، فانه بذلك يوحد بين نظرية أديسن حول الذائقة بوصفها عملية للمخيلة imagination، و الافتراض الذي قدمه هاتشسن القائل بأن العواطف هي مصدر الحكم ألأخلاقي. و فضلا عن تفسيره لنظرية "الفطرة السليمة common sense"، يقر هيوم الموقف العقلي الذي اتخذه هاتشسن من المسألة المتعلقة بالطبيعة الاخلاقية و الجمالية على حد سواء. و تعد أحكام القيمة  value judgments تعبيرات عن الذائقة، و ليس عن تحليل عماده التفسيرات. ذلك لأنه ليس بالامكان الحديث عن القيم الا  في سياق نظرية عامة حول طبيعتنا البشرية العامة. و مع أن تمييز الاحساس بالجمال و الجمال الأخلاقي يعد أحد تجليات الذائقة (لربما ليس بالامكان نهائيا التعرف على أحدهما بمعزل عن ألآخر)، فانه يجب الا ينصرف العزوف عن الذائقة بوصفها تفضيلا لما هو سئ ذاتيا و ذي خصوصية في البنية.
          و لا بد من التسليم بوجود عدد آخر من التأثيرات على هيوم. فمقالته المشهورة عن الذائقة، مثلا، تستمد الكثير من طريقة التفكير الفرنسية، بخاصة من الأب جان بابت دوبو  Jean-Babtiste Babos. و مع ذلك، فان قراءة يركز هو فيها على مقالة "في مقياس الذائقة"، و ليس على "مبحث Treatise"، أو على "مباحث Enquiries" قد تعيد للنظرية تعقيداتها البنيوية.
          و ضمن هذا السياق من الاهتمامات و التأثيرات، يبدو على هيوم أنه غير مهتم بوضع نظرية عن الفن (بوصفها نظرية الفن)، و غير مهتم أيضا بتحليل الخواص الجمالية (بوصفها تأسيسا لعلم الجمال). و بناء على الرابطة الوثيقة التي يضعها بين القيمة الجمالية و القيمة الأخلاقية، نجد أن الكثير من نقاشه التقني في علم الجمال يظهر، و كأنه توضيح لنظريته في ألأخلاق. و تظهر تفصيلات أخرى عن علم الجمال عند هيوم في السياقات التي يجري فيها تفسير نظريته حول التداعي الخيالي  imaginative  association ("مبحث في الفهم الانساني An Enquiry Concerning Human Understanding" صص 102–107الذي يطور فيه عرضه لفهوم قيمة رهافة الذائقة  taste delicacy  المذكورة في "في رهافة الذائقة و الشغف Of the Delicacy of Taste and Passion "). و بذا، نرى في الوقت ذاته لجوءه الى الوجدان sentiment، لأنه قد يؤدي الى الشك بوجود فروقات مميزة بين القيم مدار البحث.
          لذا، فان المقالتين اللتين يبدو أنهما تلخصان لنا علم الجمال عند هيوم، لا يمكن فهمهما على أفضل وجه الا عندما تجري قراءتهما بوصفهما تكيبعات لتفسير فلسفي أعمق للطبيعة البشرية. و توحي بنية أية من المقالتين و كأنها تسعى الى وضع تفصيلات لمشروع أكبر يوضع بمواجهة ما يقدم على أنه أمثلة واضحة مضادة لما ورد في المقالتين. و تلك الأمثلة المضادة هي مما له علاقة بنسبية الذائقة ("في مقياس الذائقة")، و بالمسرة التي نستمدها من الرواية الماسوية tragic fiction ("في المأساة Of Tragedy"). و مع ذلك، فان القصد المحدود الذي يكمن وراءها لا يقلل من أهميتها المتواصلة، لأنها تزودنا بما نتبصر به عند النظر في الاشكالات التي تأخذ وقتا طويلا. و بذا، تخدم بوصفها أساسا تاريخيا لمحاولات متتالية للدفاع عن وجود نظرية ذاتية لعلم الجمال.
          ان العديد من الاعتراضات على التفسيرات تأتي، للأسف، بسبب عرض هيوم المتفرق، و من الحقل الذي تأتي منه مراجعة أعماله، و مما آمن به من افتراضات عن الفن شاعت في القرن الثامن عشر. و حاله حال معاصريه، يعتبر هيوم "ان الشعر و المؤلفين الرفيعي المنزلة"  يعدون من أكثر مواضيع الفنون أهمية ("الأعمال الفلسفية لديفد هيوم Hume's Philosophical Works" ص3، وص19). و ان الشعر يختلف عن الفنون الأخرى، بكونه ينظم لأجل قصد أولي هو توفيره المسرة ("في مقياس الذائقة" ص 277). و عند استعمال هيوم لمصطلحي "فن art" و "فنانartist "، فانه يعني بهما أية مهارة انسانية human artifice، و أي مصمم ماهر  skilled designer  (ففي سياق معين قد نجده يعني بمفردة "فنان" الشخص الذي يصلّح ساعة ("مبحث في الفهم الانساني" ص87). و في السياقات، التي بالامكان حسبانه بها لا بغيرها، يهتم بالمعنى الحصري لمقولة "الفن الجميل"،  يذكر هيوم هنا أنواعا من الفنون، مثل الرسمpainting ، و النحت statuary، و العمارة architecture، و الرقص dance، و الشعر poetry، و الموسيقى music. الا أنه يضع الشعر بين الفنون التي تهتم ببلاغة الخطابة أمام الجمهور، و تتضمن فنون البلاغة eloquence، و الرقص، و المقالات essays، و الخطاب المولع بالجدال argumentative discourse  ، و أصناف أخرى مما نعده اليوم أصنافا تبالغ في وعظيتها، و هو ما ينفي عنها صفة الفن ("في البلاغة").
          يفترض هيوم وجود قصد purpose محدد وراء كل ما ينتج من عمل يقوم به الانسان، لا يحمل في طياته سوى قدر قليل فقط من الفن الذي يروم المسرة لذاتها. (فهو نزاع الى الشك بجدوى الاعتقاد بوجود غايات، أو مقاصد نهائية تسعى اليها الطبيعة). فالمنازل ستصمم و تبنى بمعزل عن أية حاجة لارضاء ذائقة ما تسعى نحو الجمال. ان الفن التمثلي   representational art   لا يجري اتناجه الا لتوفير المعلومة البصرية  visual information. و لكن الأسئلة التي تثير الاهتمام هنا أنه لم يكن علينا، عند بناء البيوت و تمثلاتها البصرية، الاحتكام أيضا الى الذائقة؟ و ما الذي يخبرنا به هذا الاحتكام عن المساهمات النسبية التي تقوم بها الطبيعة البشرية و الظروف التعليمية، لكي تكون استجاباتنا ملائمة لما يدور في المحيط الذي نعيش فيه؟
          اذن، ما هو الوصف الذي يلخص، بافضل وسيلة، نظرية هيوم حول الذائقة الأخلاقية و الذائقة الجمالية؟ فهو يرفض الواقعية المعيارية normative realism  (ثمة قدر كبير من الجدال المثير للخلاف حول مسألة فيما اذا كان هيوم يصنف، على وفق الحقائق، و اقعياrealist  أم لا. عند النظر الى هذا الموضوع من أحد جوانبه، نراه يرفض بوضوح فكرة ان للأحكام المعيارية الدرجة نفسها من الموضوعية objectivity  التي تحملها الحقائق). و يجتهد هيوم، على القدر نفسه، لانكار فكرة أن العقل  reason  يمدنا بالأساس المطلوب الذي تقوم عليه أحكام الذائقة. أيمكن أن يعد هيوم، غلى هذا الأساس،  من مشايعي الذاتوية subjectivism؟ الجواب هو "لا "، اذا كانت الذاتوية تنطوي على مثل تلك الأحكام العشوائية. و هو أيضا ليس مؤمنا بالنسبية relativist ، لأن المحور الأساس في مقالته عن الذائقة  يدور حول اعتبار بعض أحكام الذائقة أرفع منزلة من غيرها. و ليس بالامكان أيضا، على وفق ما يصنف هو نفسه، أن يعد شكوكيا  skeptic، فيما يخص الخصائص الجمالية و أحكام القيمة.  و على الرغم من رأيه الفلسفي القائل بأن الجمال ليس خاصية حقيقية موجودة في صلب الأشياء. لا يتطرق هيوم أبدا الى مسائل تخص جدوى الخبرة العامة الهادفة الى اصدار أحكام جمالية، و ان ألآراء verdicts  التي تخص  الذائقة قوامها الوجدانيات. و هذه مجردة من أية قيمة حقيقية  truth-value. فلا وجود هنا لفرصة تظهر بها تعارضات  conflicts  ، أو اخفاقات  failures التفكير التي يتبع منها الشك الفلسفي.
          يعد هيوم أحد منظري الحس الداخليinner sense . فهو يعالج موضوع المسرة الجمالية بوصفها استجابة انسانية غريزية و طبيعية. و ان الفن الناجح هو ذاك الفن الذي يستغل مشاعرنا الطبيعية من طريق توظيفه للتخطيط و التشكيل المناسبين. و ان البحث التجربي empirical هو لوحده الذي بمقدوره أن يؤسس لمناهج يمكن الاعتماد عليها في اظهار استحسان الذائقة للعيان.

2 – المصطلحات عند هيوم Hume’s Terminology  
          تعد القدرة  capacityالطبيعية للذائقة عند هيوم عنصرا أساسيا في قابلية الانسان على اصدار أحكام أخلاقية و جمالية. و حاله حال من سبقه، يرى هيوم تناظرا  analogy  بين "أحساس داخلي" بالجمال و حاسة الذائقة نحو الطعام و الشراب. و يرى أنه لشئ طبيعي أن تقوم القوانين العامة بتوجيه الأثنين.  فكلاهما تتيحان التثقيف و التهذيب. و بذا، تصدر منهما أفضل الاستجابات أو أسوأها. و كلتاهما يصدر منهما آراء أية أحاسيس بالاستحسان أو الاستهجان. و مع ذلك، فان الذائقة "العقلية mental"، و هي الخبرة التي تعكف عندنا على اصدار الحكم ألأخلاقي أو الجمالي، هي التي تسمح بالتهذيب، من خلال "موقعها الوسط interposition" الذي تحتله بين ألأفكار جميعا ("مبحث Treatise" ص 275).
          و تتضمن المصطلحات التي يستعملها هيوم، و كانت شائعة في القرن الثامن عشر، زوجا من المصطلحات ما عادا يستعملان هذه الأيام. فمن ضمن مجموعة المصطلحات  التي يستعملها توجد: الذائقة في ألأخلاق  moralsو البلاغة eloquence و الجمال beauty، و تخصص هذه أما الى "استحسان approbation" أو الى "استهجان disapprobation " (أو الى نوع من مزيج منهما) يخص أشياء تمر على الذائقة ("مبحث" ص547). فالاستحسان هو نوع من "بهجة غريبةpeculiar delight" ("مبحث" ص298) و "نوع خاص من المسرةparticular kind of pleasure " ("رسائل ديفيد هيوم The Letters of David Hume" ص472)، و انه احساس بالمسرة يجعله تختلف عن باقي المسرات. و يقوم هيوم بتشخيص نوع من الاستحسان،  يبدو فيه و كأنه نوع من الموافقة، و الحب،  أو التعلق affection . فالشئ الجميل أو الفعل الجميل يصعقنا، بوصفه لطيفا و سائغا و مرغوبا به. و يصف هيوم الشعور بالاستهجان على أنه شعور من الرفض و النفور و الازدراء.  فالشئ القبيح، او الفعل الشنيع،  يجعلنا نحس به كريها و منفرا و غير مرغوب فيه.  
           في سياق النظرية التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر،  يعد "الوجدان sentiment " صنفا توليديا لـ "العواطف emotions". (توصف نظرية هيوم أحيانا بـ "الوجدانية sentimentalism "). و نجد في لغة هيوم التقنية، ان جميع العواطف تعد انطباعات impressions و ليست فكراتideas . و غالبا ما تقترن الوجدانيات بالجمال، في حين يعد القبح انطباعات معاكسة. و هي ليست "انطباعات تأتي بها الحواس". و انما عوضا عن ذلك تعد استجابات لانطباعات حسية (" مبحث" ص 276).
          ان الجمال هو احساس بالاستحسان، و هو أيضا انطباع بسيط و أصيل يمر في الذهنmind . و الانطباعات غالبا ما تتعارض مع "الفكرات"، التي يسميها مختارا بـ "الخواطر thoughts". و الفكرات هي "نسخ copies " من الانطباعات. و نادرا ما تكون لها قوة و وضوح التجارب التي تنسخها. ان تجربة الجمال عند هيوم تعد شرطا ضروريا للتفكير بفكرة الجمال.  و ليس بمقدور المرء  تأسيس فكرة للجمال بناء على افكار أخرى. و المقصود هنا فكرة تكون مرادفة لقولنا ان الفكرة مشتقة من الوجدان المطلوب الذي يقوم بالاستحسان ("مبحث" ص469). ففي حالة الغياب الكامل للعمليات التي تقوم بها الذائقة، من المستبعد ان تظهر خواطر الجمال.
           ان الذائقة، اذن، هي المقدرة على استجابة بالاستحسان أو الاستهجان. و لكن، ما هي الطريقة التي يجري بها ربط الذائقة بملاحظات هيوم المتنوعة عن حالات "الادراك الحسي perception" و "الفطنdiscernments " التي تخص الجمال، و  عن "حكمنا" على عمل ما، و عن النقاد الذين "يصدرون أحكاما"، و عن أولئك الذين "يصدرون" أو "يعلنون" "حكما" أو "محمدة"؟ ("في مقياس الذائقة"، في مواضع متفرقة). يبدو على هيوم أنه يساوي بين الادراك الحسي للجمال و تجربة الوجدان (و تشكل هذه المساواة عند أساس السؤال المطروح عما اذا كانت أنواع الذائقة جميعا متساوية). فهل يميز هيوم بين تجربة الناقد في موضوع الوجدان و الحكم أو الرأي الصادر؟ فاذا لم يكن الاعلان اللفظي بأن شيئا ما جميل هو أكثر من انطباع أو تقرير عن وجدان المتحدث، فهيوم، اذن، لا بد أنه مواجه صعوبة فحواها: ان رأي الناقد لا يعد حقا توصية تقدم عن شئ ما.  فاذا كان اعلانك بان قطعة موسيقة معينة هي جميلة، ما يعني، بأن ما شعرت به حين سماعها ليس أكثر من مسرة معينة،  لا بد  لرأيك عندئذ أن يعبر عن مسرتك، دون قول أي شئ عن قدرة الموسيقى على التسرية عن ألآخرين.  لذا، فعلى الرغم من أن النقاد  يصدرون أحكاما حول الذائقة تقوم على أساس وجدانياتهم، لا بد للذائقة أن تشتمل على شئ أكثر من كونه وجدانا مسرا او مثيرا للاستياء.
          يلاحظ هيوم وجود فرق بين تعبير المرء عن وجدانياته و وضع المرء لفروق أخلاقية مميزة. و حين يتحدث أحد ما عن سلوك شخص آخر على أنه سلوك "شرير  vicious، أو  كريهodious ، أو  فاسد depraved، فهو يتحدث بلغة أخرى، و يعبر عن وجدانيات، يتوقع فيها أن يتفق الجمهور كله معه في الراي" ("مبحث في مبادئ الأخلاق" ص272). و يتطلب الحكم ألأخلاقي و الجمالي "و جهات نظر راسخة و عمومية" ("مبحث" ص ص282– 288، و "في مقياس الذائقة" ص276)  يشاركنا بها ألآخرون ("مبحث في مبادئ ألأخلاق" ص 272). ان ألأوصاف المتنوعة التي يقدمها هيوم لوجهة النظر هذه توحي لنا بتفسيرات متضاربة.  فوجهة النظر هذه تتطلب من النقاد أن يفكروا بوضوح في العلاقة القائمة بين الوجدان و موضوعه.
          ان ألآراء الجمالية، سواء أسميناها "أحكاما جمالية" أو "أحكام ذائقة"، لا تشبه الأحكام التي تخص قضايا الحقيقة. فقضايا الحقيقة هي حالات ذات صلة بأمور تترجم أفكارا معقدة، أما تكون صحيحة أو زائفة. و لا يمكن قول الشئ ذاته عن الآراء الناجمة من عمليات الذائقة. ان الوجدان، و الوجدان لوحده، هو الذي يقرر فيما اذا كان شيئا ما جميلا أو غير جميل.
"ان الحقيقة، و ليس الذائقة، هي ما يمكن الدفاع عنه. و هذا يعني ان ما يوجد في طبيعة الأشياء هو ما يعد مقياسا لأحكامنا . فما يحسه كل أمرئ في داخله ذاك هو ما يعد مقياسا للوجدان. ان الافتراضات الموضوعة في الهندسة قد يمكن اثباتها، و الانظمة في الفيزياء قد يجري نقضها، غير أن الانسياب في الشعر، أو الحنان في العاطفة، و ألمعية العقل، لا بد لها جميعا أن تمنحنا مسرة فورية"
                                          ("مبحث في مبادئ ألأخلاق" ص171)

نحن لا نتوصل بالاستنتاج الى أن منظر غروب الشمس جميل. و بذا, نستحق استحسانا، لأننا نرى الغروب رؤية العين، فتسرنا الانطباعات البصرية. و اذا كانت لنا وجهة النظر المطلوبة، سيكون مسوغا ما نقوله عن منظر الغروب كونه جميلا. ان ما يحمله هذا الرأي يعد شيئا أكبر من مجرد تقرير أو تعبير عن الوجدان. و مع ذلك،  فالوجدان عنصر من عناصر الحكم يتعذر الاستعاضة عنه بغيره. و من الممكن أن يتشكل زعم مواز لهذا حول التفرقة ألأخلاقية،  فهو يصر على أن "المسرة و الألم هما ماهية essence" الجمال و البشاعة deformity  ("بحث" ص299). و مع ذلك،  كيف يتسنى لعمل أدبي أن يقوم بـ "احداث مسرة فورية"؟
          ان واحدة من أكثر مقولات هيوم بعثا للحيرة هي قوله بأن الذائقة هي مسرة "فورية immediate".  ففي معالجته الموسعة للألام و العواطف في مؤلفه "مبحث"، يقول هيوم ان المشاعر "الفورية" هي تلك التي لا تشغل "موقعا وسطا" بين ألأفكار ("رسائل ديفيد هيوم" ص275). و تعد بعض المسرات و الآلام "فورية"،  بمعنى أنها انطباعات تأتي فورا لترافق انطباعات أخرى (مثال ذلك المرور في تجربة الحمى الملتهبة التي ترافق تجربة ألألم).  غير أنه، كيف يتسنى للعمل الأدبي أن "يحدث مسرة فورية"؟ عند النظر الى هذا ألأمر، من وجهة نظر الأدب، يبدو على هيوم أنه بصدد القول: بأن الأعمال الأدبية تعد جميلة بمعزل عن قدرة الجمهور على تحديد أية أفكار أو أو معان خاصة. الا ان هذا، و بالتأكيد، ليس هو الافتراض الذي يتبناه هيوم. و الحل هو وجود "ذائقة عقلية، فضلا عن الذائقة المادية" ("في مقياس الذائقة" ص274). ان التمييز الجمالي و الأخلاقي يعتمد على الذائقة العقلية. و ان الوجدانيات الأساس ما هي الا اصدارات عفوية من منتجات العقل، غير أنها ليست استجابات متسقة.
          و تطلب الذائقة العقلية عادة عملية تتدخل بها الخواطر. لذا، فان المسرات و ألآلام المترتبة على الحكم الجمالي ليست فورية، من ناحية كونها استجابات مباشرة لانطباعات أخرى.
"ان بعض أنواع الجمال، بخاصة أصنافه الطبيعية تبدو للوهلة ألأولى، و كأنها تستحوذ على عاطفتنا و استحساننا. و حيثما يفشل موضوع الجمال بالوصول الى هذه النتيجة، يكون من المستحيل لأي تفكير أن يصلّح ذلك التأثير، أو يقوم بتكييفها، لتبدو أفضل لذائقتنا أو وجداننا. غير أن ألأمر يبدو أنه في العديد من حالات الجمال، بخاصة تلك التي لها علاقة بالفنون الجميلة، يكون من الضروري توظيف الكثير من التفكير، وصولا للاحساس بالوجدان المطلوب، و قد يتعرض أي استمتاع كاذب هنا للتصحيح المتكرر من طريق المناظرة و التفكير. و ثمة أسس محددة للايتنتاج بأن الجمال ألأخلاقي يشارك في الكثير من هذه للأنواع المذكورة آنفا، و هي بحاجة الى مساعدة ملكاتنا العقلية intellectual faculties، لكي تجعل لها تأثيرا مناسبا على العقل البشري.
                                            ( "مبحث في مبادئ الأخلاق" ص173)
تنشأ الذائقة الجمالية استجابة للأفكار الناشئة من استجابة للانطباعات (مثال ذلك معاينة صورة فوتوغرافية تعرض الحالات و الخواطر عن المكان المصور، ما يقود الى اثارة خواطر عن التجارب التي مر بها المرء، أو قد يمر بها. سواء أكانت الخواطر في العملية التخيلية باعثة للمسرة أو باعثة للألم). و يعد هيوم هذا النوع من "فوريةimmediacy " الذائقة، على أنها متناغمة بالتمام مع التأثير الذي تقوم به الملكات العقلية و التخيلية.
ان الذائقة فورية و عفوية، غيرأنها ان وضعت موضع التطبيق، يجري تحسينها من قبل "الحس السليم good sense" و "العقلreason " ("في مقياس الذائقة" ص277). و لا يجري تحسين الذائقة بالتفكير انطلاقا من مبادئ معيارية قبلية. ان حالات تمييز الأخلاقي و الجمالي "ليست من استنتاجات العقل ("مبحث" ص457)، و "ليست نتاجا لعمليات مجردة للمقارنة بين ألأفكار" ("مبحث" ص263). و مع ذلك، فبالامكان، من ناحية ثانية، التأثير على الذائقة بالتشاور مع "قواعد عامة للفن"، أو مع "قواعد مبنية على التجربة و الملاحظة لا على غيرها" ("في مقياس الذائقة ص ص278). و تشتمل الذائقة العقلية على العقل؛ بمعنى أنها "تظهر فهما من نوع ما" يعتمد آخر ألأمر على التداعي التخيلي للأفكار. لذا، فان الذائقة تشتمل على مسرة تخيلية، مثلما افترض أديسن ذلك. ان هذا المبدأ القائل بالمسرة التخيلية ليس له علاقة مميزة بالقدرة على الابداع creativity، أو بالقدرة على انتاج الفن.
و لغرض ايجاز ما يعتقده هيوم بخصوص الذائقة و الاستجابة الجمالية و ألأخلاقية، فانه يعدها "فورية"، أي بمعنى، أن الشعور بها يظهر عفويا عند أي شخص تحصل في ذهنه تداعيات تخيلية مألوفة. يريد هيوم أن يؤكد هنا بأن الناقد لا يستطيع استنتاج وجود الجمال. لكنه، يسلّم، من ناحية ثانية، بوجود صلة بين الفهم الصحيح و الذائقة. ان لهذه المجموعة من المبادئ تضمينات، الغاية منها التعود على تسويغ أحكام الذائقة. و بذا، تغدو هذه الفورية بؤرة مقالته الموسومة "في مقياس الذائقة". ان معرفة حقيقة أن سونيتة ما لها الشكل ذاته الذي لسونيتة آخرى جميلة، لن يقدم لنا سببا كافيا للاعتقاد بأنهما كلتيهما قصيدتان جميلتان. ذلك، لأن فعل قراءة السونيتة، هو لوحده، ما يمكن أن يوفر دعما لمزاعمنا الجمالية حول جمالها. ان نظرية هيوم لا بد من تفسيرها، من ناحية ثانية، بحذر شديد، تجاه الستارة الخلفية لآرائه الأخرى حول تمييز ألأخلاقي و الجمالي. ان المبادئ الطبيعية العامة للذائقة، مضافا اليها قواعد معلومة، هي بالذات ما يوفر لنا معرفة بمساهمات سونيتات أخرى في عملية تقييم دقيق و مشذب لمحاسن سونيتة معينة، أو للعيوب الموجودة فيها. لذا، فان ذاتوية subjectivism هيوم لا تقوده الى نسبية relativism، من أي نوع كان.  فليست الوجدانيات جميعا متساوية في جودتها.

3الجمال و الذائقة في نظرية هيوم الأخلاقية
Beauty and Taste in Hume’s Moral Theory
 3 -1 الذاتوية  Subjectivism  
             يفترض هيوم بأن الشعورfeeling ، و ليس الخاطرة thought، هو الذي ينبؤنا بأن موضوعا معينا يعد جميلا أو قبيحا، أو أن فعلا ما ينم على فضيلة  virtue  أو رذيلة vice، فيقول "ان الشعور، بذاته، هو الذي يتكون منه ثناءنا أو اعجابنا"          ("مبحث" ص471). ان الشعور أو الوجدان هو بذاته نوعا من تمييز أخلاقي أو جمالي.  فهو سابق prior و أساس لأي تعبير لاحق عن الثناء أو الاعجاب. ان الوجدان "هو" جمال الموضوع، و "هو" الفضيلة الموجودة في الفعل الانساني المرغوب. ان الوجدان هو المصدر الوحيد للقيم التي تتحكم بالنشاط الانساني. و ما الذائقة سوى "ملكة منتجة تعطي للأشياء مظهرا جذابا، أو تطبعها بوصمة، و ذلك بتلوينها باطياف نابعة من الوجدان الداخلي، و هو ما يخلق بطريقة ما "ابداعا جديدا". و يكون هذا الابداع الجديد "أما جمالا أو تشوها، أما فضيلة أو رذيلة" ("مبحث في مبادئ ألأخلاق" ص294). ان الوجدان، من ناحية ثانية، يعد هادئا، و ليس عنيفا. لذا، فان أي منظور غير فلسفي لا بد له أن يعالجه بوصفه خاصية موجودة "في الشئ" ("الشكوكي The Skeptic" ص218).
          و تجتذب هذه الذاتوية الجمالية و الأخلاقية هيوم للآسباب ذاتها التي اجتذبت هاتشسسن. ان الاحتكام الى الوجدان يوفر موقعا و سطا  بين نظريتين شائعتين بين الكتاب الانكليز و هما: الأنوية الهوبزية  Hobbesian Egoism (نسبة الى الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز Thomas Hobbes  1588– 1679 – المترجم) و العقلانية الأخلاقية ethical rationalism. يعتقد هاتشسن بأن الجمال و الفضيلة ليسا صفتين نوعيتين موجودتين في الناس و الأشياء التي تعزوان اليهما. فقد نتحدث نحن عن الأشياء و الناس كما لو أنهم يمتلكون خواصا جمالية و أخلاقية، الا أن الخاصية مدار البحث قد لا تكون سوى "فكرة خطرت على بالنا". و يحاول هيوم أن يعدل نظرية هاتشسن، و ذلك بفرض مصطلحاته الفلسفية، بأن يجعل من الجمال في الوقت نفسه، انطباعا impression و ليس انطباعا. غير أنهما يتفقان كلاهما على أمر و هو أن وصف شخص ما على أنه فاضل،  أو وصف شئ ما على أنه جميل، ما هو الا ادعاء يدور حول ميلهما لاحداث استجابة من نوع ما. أهي جرأة و "مغالاة" من هيوم، طلبه من هاتشسن أن يلخص أطروحته بالمصطلحات التالية ("رسائل ديفيد هيوم" ص ص39-40)؟ فحين تعلن أن فعلا ما، أو شخص ما، كونه فاسدا، فانك بذلك لا تعني شيئا، سوى أنك، و بسبب المزاج الموجود في طبيعتكconstitution ، يكون لديك شعور أو وجدان مسؤول عن التفكير في ذلك ألأمر. فالرذيلة و الفضيلة، اذن، بالامكان مقارنتهما بالأصوات sound، و ألألوان color ، و الحر heat، و البرد cold ، التي بمجملها لا تعد، عند الفلسفة الحديثة، صفات نوعية في ألأشياء، بل مدركات حسية موجودة في الذهن ("بحث" ص469). و مع ذلك، فالفضيلة و الجمال ليسا بالضبط صفتين مناظرتين لصفات ثانوية من نوع ما، مثل الحر و البرد. ذلك، لأن حكم الناقد بأن عملا فنيا معينا يعد جميلا لا بد أن يشتمل على عنصر مصادقة من نوع لا يظهر بالملاحظة. و مثله ذلك الذي يظهر لنا حين نقول مثلا ان الثلج بارد.
          يدافع هيوم عن الدور المركزي للوجدان بالحجج و البراهين الآتية: ان حالات ادراك الفضيلة و الجمال تتطلب وجود وجدانيات من نوع معين عند المدركين من البشر. فاذا جرت حالات التمييز في الذائقة دون هذه الوجدانيات، قد نكون عندئذ مفتقرين لأي دافعية للقيام بما تعده أخلاقيا. ان للأحكام ألأخلاقية و الجمالية نتائج عملية يفتقر اليها العقل المجرد mere reason. لذا، فان الذائقة تختلف في موضوع الموافقة التي يتحلى بها العقل أو الفهم ("مبحث" ص458، و "مبحث في المبادئ ألأخلاقية" ص172، و "الشكوكي" ص219). و على الرغم من أن الذائقة تستجيب للصفات النوعية الحقيقية الموجودة في ألأشياء، فنحن لا نستطيع استبدال الممارسة التي تمر بها الذائقة بالموافقة التي يبديها العقل.
          ان الذائقة، من ناحية ثانية، بوصفها مؤشرا للجمال أو التشوه، معرضة للوقوع في الخطأ. فالوجدانيات التي تشكل أساس الذائقة لا "تشير" مطلقا الى أي شئ على أنه علتها ("في مقياس الذائقة" ص268).  و المشاعر هي أيضا لا تمثل أي وجه من وجوه ألأشياء التي تسببها، فضلا عن أنه قد يكون من السهولة عليها ملازمة أشياء غير تلك التي سببتها ("مبحث" ص280). (و مثلما يحصل مع أية علاقة سببية، كتلك العلاقة السببية بين الدخان و النار، فان أية نتيجة، ان جرى عزلها عن غيرها، لا ترجع الى علتها، و لا تزودنا أيضا بمعلومات عن طبيعة الشئ، أو الموقف الذي سببها.  فاذا ما حصل و تعرفنا على تجربة الدخان، و لم نكن قد مررنا بتجربة التعرف على النار، فان الدخان لن يخبرنا بشئ عن طبيعة النار). ان الوجدانيات، بوصفها نتائجا لتفاعلنا مع العالم، لا يمكنها أن تزودنا بما لم نعتمد عليه من "معلومات عن طبيعة ما يسببها، و لن تكون تلك الوجدانيات واضحة دائما، أو خاضعة خضوعا مسبقا لانتباهنا الشديد و تفكيرنا، بحيث تبرز لنا أية مزايا معلومة في عمل من أعمال الفن، تعد مسؤلة عن وجدانياتنا، التي كانت قد أبدت استحسانا أو استهجانا. ان السلسلة في تحليل هيوم تجري بين سبب و نتيجة، لدرجة أنها تبدو بغاية التعقيد. ذلك، لأن العلاقة غير مباشرة، و لأن "الجسم البشري ماكنة بالغة التعقيد"، و لها العديد من "القوى الغامضة" ("مبحث في الفهم الانساني" ص87، و انظر أيضا "في مقياس الذائقة" ص270). و عن معرفتهم كل هذا، فان النقاد الحريصين لا يعلنون عن آرائهم الا بعد أن تتضح لديهم الكيفية التي يجري بها الربط بين وجدانياتهم و الموضوع مدار التقييم ("في مقياس الذائقة" ص ص 270 -271) .
3 – 2 التحليل النزوعي  The dispositional Analysis    
    تمتثل وجدانياتنا لأوامر صادرة من قوانين عامة تتحكم بجنسنا البشري نوعا. الا أننا، من ناحية ثانية، علينا أن نكون قادرين فورا على اصدار أحكام تخص الذائقة، دون معرفة بالقوانين التي تتولى اصدار تلك ألأحكام.
          ان تسليم هيوم بوجود أسباب قياسية بالامكان التنبؤ بها تكمن وراء الوجدان الجمالي أو الأخلاقي يؤخذ أحيانا على أنه مؤشر على أن هيوم ليس بذاك الذاتوي الفريد من نوعه. و بموجب هذا التفسير الخاص، فهو يساوي بين الجمال و الفضيلة من جانب، و الخواص النزوعية  dispositionalالموجودة في الأشياء ظاهريا من جانب آخر. ان الصفات المعزوة للخواص الأخلاقية و الجمالية الموجودة في ألأشياء تشير الى تسليم المتحدث بوجود نزوع كامن في الشئ الى ابراز الوجدان. و ثمة شواهد توحي لنا بتفسير من هذا النوع: "ان الجمال نوع من نظام و قوام يتشكلان من أجزاء، كما لو أنه . . . مهيئ ليمنحنا مسرة أو ارضاء للنفس" ("مبحث" ص 299، و انظر أيضا "في مقياس الذائقة " ص273).  
          و لكن، و على الرغم من تلك الشواهد، انه لأمر مثير للتساؤل عما اذا كان هيوم حقا يقدم لنا تحليلا نزوعيا. فالتحليل النزوعي يخبرنا عن نوع الخواص التي قد تتواجد، اذا ما أرضيت الحاجة لشروط معينة. ان عبارة فحواها "ان الفلين قابل للطفو Cork is buoyant"  قد يفسرها تحليل نزوعي مبسط على أنها مرادف دلالي للعبارة القائلة: "اذا وضعنا قطعة فلين في الماء، فانها ستطفوIf a piece of cork is placed in water it floats". أما القول: "ان هذا الشئ جميل"، فالتحليل النزوعي سيفسره على أنه مرادف دلالي للقول: "اذا ما أدرك شخص ما هذا الشئ على وفق شروط تصورية ideal، فان وجدانا من الاستحسان سيصاحب هذا الادراك". و بموجب هذا التفسير يشكل الجمال فرقا مميزا عن وجدان الاستحسان. فالوجدان مندمج في التحليل، سوى أن الوجدان ليس هو بالذات خاصيته نزوعية.
          و مع ذلك، لنفترض أن هيوم ينظر الى الجمال بوصفه خاصية نزوعية. فمثلما يكون بالامكان استقاء معان من الأشياء ذاتها لعبارات من قبيل: "قابل للطفو    buoyant  "هشbrittle " و "جمال"، فبالامكان أيضا توليد أحكام صادقة، أو كاذبة، عن أشياء مختلفة. ان التعبيرات التي تعزى بها الخواص النزوعية الى الأشياء تعد صادقة، حتى في حالة لم يجر أبدا ارضاء الحاجة الى شروط ملائمة (مثال ذلك حين نقول: "هذه زهرية هشة"، و هو ما يمكن أن يكون صحيحا هنا على الرغم من واقع أن الزهرية لم تنكسر قط). و مع ذلك، فان هيوم، من ناحية ثانية، ينكر كون أحكام الذائقة هي من النوع الذي يجري تقسسمه على أساس الحقيقة truth-valued. و هو يرفض النظر الى المبدأ القائل، باجراء استدلالات حول جمال شئ ما مقدما قبل الشعور بالوجدان اللازم، على أنه مبدأ ذو معنى ("الشكوكي" ص219).
          و من أجل أن يوضح أية فكرة، يعلن هيوم عن اعتقاده بأننا "نحتاج الى غير الاستعلام عن ماهية الانطباع الذي نستقي منه أية فكرة مفترضة" ("مبحث في الفهم الانساني" ص22). فاذا كان الجمال خاصية نزوعية، سيتوصل المرء الى فكرة الجمال، اذن، من طريق ربط أسباب معينة ربطا منطقيا مع نتائج معينة، و لكن بوجود شروط  محددة. و قد تكون الفكرة النزوعية عن الجمال، في قاموس مصطلحات هيوم، تعني فكرة عن علاقة معقدة تربط سببا ما بنتيجة معينة. و قد تكون مبدأ سببيا. و مع ذلك، فنحن لا نستطيع توظيف الفكرة قبل صياغتنا لمثل هذا المبدأ. الا أن هيوم يرفض مرة أخرى تضمين أي تحليل نزوعي. فوجدان الاستحسان الذي نحسه هو مصدرنا الأوحد لتكوين فكرتنا عن الجمال، مع وجود حالات نميز الجمال فيها مقدما، لكي يسبق أي استنتاج لوقائع و مقدمات عن الشئ الجميل ("مبحث في مبادئ ألأخلاق" ص173).
          و ما هو أهم من ذلك، هو أنه ما اذا كان هيوم ينظر الى الجمال بوصفه خاصية نزوعية، فلا بد أنه واجد مثالا قريبا في متناول اليد عند تحليله لأعمال هاتشسن. و مع ذلك، نجد هيوم يتجنب تقديم مثل هذا التفسير. و بغض النظر عن أية رغبة لتحديد الطرق العديدة التي لا بد أن تفق بها أعمال الفن في ارضاء الذائقة المهذبة، نرى أن هيوم يتجاهل مشروع النقد التقليدي المعروف، القائل باشتراط وجود قواعد للفن، اذا ما أريد له أن يكون فنا ناجحا. فهو لا يحاول تحديد الخواص الموجودة في الأشياء التي تسبب عادة ظهور وجدان الاستحسان. و يدرك، عوضا عن ذلك، بأن أية علاقة متبادلة قائمة بين الوجدان و الخواص الموضوعية، قد يجري دحض وجودها من طريق أي مثال نواجهه فيما بعد ("في مقياس الذائقة" ص270). فعلى الرغم من وجود "مبادئ عامة تخص الاستحسان، أو الاستهجان "تعتمد الذائقة على متغيرات" (حوادث و حالات) كبيرة العدد لكي تقدم لنا تحليلا نزوعيا مفصلا ("في مقياس الذائقة" ص271).
3-3 التخيل و وجهة النظر Imagination and Point of View
يقوم الفهم، المكتسب جوهرا معينا، بمساهمة حيوية في صياغة أغلب الأحكام الجمالية و الأخلاقية ("مبحث في المبادئ الأخلاقية" ص173، و "في مقياس الذائقة" ص277). ان الذائقة باي هيوم تتحسن بالممارسة. و ذلك, بقيامها بعقد "مقارنات" بين الأشياء ("في مقياس الذائقة" ص275)، و بتوظيفها لـ "الحس السليم" ("في مقياس الذائقة" ص277).
يقوم هيوم بتضبيب الفروق التقليدية التي تميز بين عمليتي التفكير thinking و التخيل imagining. ان الخواطر قد لا تمتد لتصل الى ما وراء خبرتنا العملية، اذا لم الأمر كذلك بالنسبة الى التداعيات التخيلية الموجودة بتأثير التكرار أو "العادة habit" ("مبحث في الفهم الانساني" ص43، و"مبحث" ص170). ان التداعيات المكتسبة بالتعلم تساعدنا على اعادة ترتيب أفكارنا ideas بقوالب مفهومة، متيحة لنا القدرة على خلق الأفكار عن أشياء لم نألفها من قبل فعليا (مثال ذلك المخلوقات الخيالية أو الأماكن التي نعجز عن الوصول اليها). ان التخيل هو ايضا بدوره يخلق سلاسلا من أفكار مترابطة، مشجعا بذلك الخواطر على التحرك سريعا من فكرة الى أخرى.
          و بناء على هذا، تفترض الذائقة الجيدة مسبقا وجود ملكة تخيل فعالة، و مثالها أن يفترض أن المرء يستيقظ صباحا و يشم النكهة المميزة للقهوة، فتبدو له هذه التجربة مبعثا للمسرة. يستند هذا التقدير، دون ريب، على ارتباط تخيلي مكتسب بالتعليم. ذلك، لأن الرائحة تجلب الى الذهن سببا، و هو القهوة المخمرة، و القصد الذي يكمن وراءها، و هو شرب القهوة. ان نوع الوجدان المستساغ هنا يعد استجابة لهذا التداعي المعقد للانطباعات و الأفكار، و ليس للرائحة لوحدها. و لهذا السبب، يعد التقييم النقدي هنا على درجة عالية من السياقية contextual، لأن "العاطفة passion هنا تعلن عن رايها، آخذة بنظر الاعتبار ليس الموضوع لذاته، و بما هو عليه فحسب، و انما ايضا تقوم باجراء معاينة لهذا الراي و ما يحيط به من ظروف تصاحبه" ("الشكوكي" ص224).
          الا أن هيوم لا ينظر الى التخيل على انه نشاط حر يجري دون قيود. ان المخاطرة الانسانية تقيدها نسبيا مجموعة صغيرة من المبادئ الدائمة غالبا ما تتحكم بما هو تخيلي ("مبحث" ص10 و ص225، و "مبحث في الفهم الانساني" ص24). و على الرغم من أن الشعراء قد "يعترفون بأنهم يعبرون عما توحيه اليهم مخيلتهم ضمنا" ("مبحث" ص225)، الا أن شعرهم ليست لديه سوى فرصة ضئيلة لادخال المسرة على قلوب الآخرين اذا ما قام "تخيالهم fancy"، أو تخيلهم imagination بتوظيف نوع من تداعيات ليست منتظمة. ان المبادئ الكلية للتداعيات التخيلية هي التي تتيح للفنانين التنبوء بالكيفية التي ستقوم بها تصميماتهم التخيلية و السردية بتحريك مشاعر الجمهور.
          يسلم هيوم بوجود طائفة صغيرة جدا من الحالات التي لا نحتاج بها، لتمييز الجمال، الى تداعيات التخيل. و في مثل هذه الحالات، تقوم الانطباعات الأولية التي يثيرها "الشكل form" المجرد للشئ المادي بتوليد الاستحسان ("مبحث" ص364). و هذه الحالات تصلح نموذجا للجمال الطبيعي أكثر مما هي لأعمال الفن ("مبحث في مبادئ الأخلاق" ص173). لذا، فان التخيل ليس دائما  ضروريا لاكتشاف الجمال. و الشكل الذي يبعث المسرة قد يعد أحيانا وافيا بالمرام. و مع ذلك، "فاننا نادرا ما نستند على ذلك" ("مبحث" ص363).
و هكذا، فان هيوم لا يدافع عن مبدأ وجود علاقة سببية بسيطة بين الشكل و الوجدان. ففي أغلب الحالات، تقوم معتقداتنا بتغيير وجدانياتنا. و الأشكال تعد عموما أكثر اتيانا للمسرة حين "يقوم النظام التي تتخذه الأجزاء في مبناها" ("مبحث" ص299) بالايحاء بوجود منفعة utility مماثلة للبشر.، أو بالتعبير عن عواطف مستساغة. و ليست حالات الاحاء هذه بحاجة لأن تكون على مستوى من دقة النظام، لكي تطلق شرارة الاستحسان أو الاستهجان. فلربما يبدو لنا شيئا معينا متوازنا، كونه رشيقا و جميلا، على الرغم من معرفتنا لمنفعته المحدودة ("مبحث" ص584). و الأشياء قد لا تسر الذائقة، على الرغم من منفعتها العملية العظيمة.
"فقد لا يبعث منزل معين المسرة في نفسي، كونه لم يكن قد صمم على النحو الذي لا يرضي سوى مزاج مالكه. و فضلا عن ذلك، فقد ارفض صرف شلن واحد لقاء اعادة بنائه. ان الوجدانيات لا بد لها أن تمس القلب، لكي يكون بمقدورها التحكم بعواطفنا. و مع ذلك، فهي ليست بحاجة الى الذهاب الى ما وراء التخيل، لكي يكون بمقدورها التاثير على ذائقنا. فحين يبدو لنا بناء ما غير متقن الصنع، أو يدو للناظر متداعيا، فهو اذن بشع و غير مستساغ، على الرغم من أننا متأكدين تماما من كفاءة البنّاء الذي صنعه. "انه نوع من خوف، ذاك الذي يسببه هذا الاستهجان في الوجدان، على الرغم من أن الرغبة ليست هي نفسها التي نحسها، حين نجد أنفسنا مضطرين للوقوف تحت جدار، نشعر به حقا متداعيا، كونه غير مطمئن. انها الميول tendencies الظاهرة على الأشياء هي التي تؤثر في الذهن. و ما العواطف التي تثيرها الا من ذاك النوع الذي ينشأ من "آثار حقيقية" تتركها الأشياء، الا أن الشعور بها قد يختلف من انسان الى آخر. و ليس هذا حسب، فان العواطف تختلف كثيرا عند الاحساس بها، لدرجة أنها قد تكون في الغالب متناقضة، دون أن تتغلب أحدها على الأخرى. و يبدو الأمر، بذا، مثلما بالضبط، حين تبدو لنا تحصينات مدينة، تعود للعدو، عند تقييمنا لها، جميلة، فضلا عن قوتها، على الرغم من أننا حينها قد نكون راغبين بتدميرها تدميرا كاملا. ان التخيل يشايع عادة ما هو "شائع" من وراء الأشياء، فيختار المشاعر التي تفرزها تلك الآراء، من بين تلك التي تنشأ من الحالة الخاطفة الخاصة التي نمر بها."
                                                          ("مبحث" ص ص 586-587)
انه لمن المغري أن يقرأ المرء مثل هذه الشواهد التي تؤذن بوجود نظرية لاحقة للاستجابة الجمالية بوصفها مسرة "متجردة disinterested". و يستعمل هيوم مصطلح "متجرد" نقيضا لمصطلح "أنانية self-love" ("مبحث في مبادئ الأخلاق" ص296) ، غير أنه لا يستعمل هذا المصطلح في ما يخص الوجدان الجمالي. ان "وجهة نظر" هيوم "العامة common" أو "الكلية universal" أو "السائدة general" هي ليست أكثر من افتراض بسيط. فهو يريد أن يذكرنا بأننا ليس بمقدورنا توقع موافقة الآخرين على آرائنا، اذا ما حاولنا اصدار حكم على الأشياء، على وفق منظور محدود و منحاز ("مبحث في مبادئ الأخلاق" ص272).
ان العلاقة القائمة بين ا لشكل و وظيفته بامكانها العمل على مستوى تجريدي abstract للغاية: " ان المبنى الذي تبدو ابوابه و وافذه رباعية الشكل تماما، قد تؤذي النظر، بسبب ذلك التناسب المتوفر فيها بالذات، لكونه رديئة التهايؤ لشكل الكائن البشري، الذي كانت المادة الخام قد وظفت لخدمته" ("مبحث في مبادئ الأخلاق" ص ص 212-213). أما أولئك الذين يستجيبوم بوجدانهم، فهم لا يتأثرون سوى بنتائج عمومية و "تخيلية imaginary"، و ليس بالمنفعة المجردة التي توافرت للشخص مصدر الحكم ("مبحث في مبادئ الأخلاق" ص ص 217-218). و الى هذا، فان التصميم الشكلي ذاته بامكانه أن ينقل العواطف التي تؤثر بالاستجابة الجمالية : "لا وجود لقاعدة في الرسم، أو في النحت، تعد أكثر لزوما من تلك ا لتي تحدث توازنا بين الأشكال figures، و تضعها في الموضع الأكثر دقة في مركز الجاذبية الملائم لها. ان الشكل، الذي لم يكتسب توازنا صحيحا، يعد قبيحا ugly، لأنه ينقل الأفكار غير المستساغة من قبيل التي تشي بانحراف، fall، أو أذى harm، أو ألم pain" ("مبحث في مبادئ الأخلاق" ص245).
هكذا يسد هيوم الباب امام استنتاج يقول بأن أنواع الذائقة كلها، تساوي عند التفريق بين وجتي نظر بامكاننا تبنيهما تجاه أي شخص، أو موضوع، أو فعل. اذ، بامكاننا في مثل هذه الحالة أن نستجيب للموقف من وجهة نظر مصلحتنا الذاتية. الا أن استجابة من هذا النوع غالبا ما تكون متحيزة، و ربما يدر منه "تلذذ زائف" ("مبحث في مبادئ الخلاق" ص173). أو يمكننا الاستجابة من وجهة نظر عمومية، يصدر منها تقييم تاملي reflective لا يكون دافعه المصلحة الذاتية. و تتاثر وجهة النظر العمومية هذه بعدد كبير من القناعات حول الموضوع و سياقه. مثال ذلك، الاعتقاد بوجود شئ ما نادر يكبر فينا مسراتنا اكبارا عظيما ("الشكوكي" ص 224). و حيثما تدفعني ربما مصلحتي الذاتية الى الغيرة من منزلك الجديد، فانها بذا ستدخل في عمل وجدان الجمال، و ستدفعني استجابة تاملية، من ناحية ثانية، الى الاعجاب اعجابا عظيما ببناء منزلك و تصميمه.
ان التناقضات المعيارية، عند هيوم، ليس بالامكان حلها الا بالانتقال الى منظور عمومي حسن التكوين، يتضمن "استنتاجات أستـُـقيت على نحو صائب، و مقارنات عـُقدت على مستويات مختلفة، و حقائق عامة جرى اختبارها و التاكد من صحتها" ("مبحث في مبادئ الأخلاق" ص173). و تقوم مقالته في الذائقة بالدفاع عن هذا الموقف، و بوضع مخطط لنظرية عن الكيفية التي تمكن النقاد من تبني مثل هذا الموقف.
"حين ينوي أي عمل فني بالشروع في مخاطبة الجمهور، و على الرغم من أني لا بد لي من اتخاذ موقف معين، أما مساند أو عارض، من مؤلف هذا العمل، فان عليّ أن أفارق مثل هذه الحالة، و أنظر الى نفسي بوصفي انسان على وجه العموم. و دعك، ان كان في الامكان، من كينونتي الفردية، و من ظروفي الاستثنائية. ان الشخص المتاثر بالهوى prejudice لا يجمعه جامع بهذه الحالة، و انما يقوم بالحفاظ على موقفه الطبيعي بعناد، و دون أن يضع نفسه في مجرى وجهة النظر تلك، التي يفترض وجودها في الأداء."
                                                          ("في مقياس الذائقة" ص276-277)
يثير هيوم ايضا فعالية الوجدان التعاطفي sympathetic. و بما ان التعاطف يحتل في نظريته الأخلاقية دورا مهما ("مبحث" ص577، و "مبحث في مبادئ الأخلاق" ص225)، فان عليه أن يضمن التعاطف مع نظريته الجمالية، اذا كان يريد الحفاظ على علاقات قوية يرغب بعقدها بين الأخلاق و علم الجمال. ان وجهة النظر السائدة تصب عنايتها على المسرة التي تهئ الشئ نفسه لتحقيقها من أجل الاخرين. و تولد فكرة حصول الآخرين على  الفائدة مسرة تعاطفية. و تزيد بذا من وجدان الاستحسان ("مبحث" ص ص364-365).
و ان القول، من ناحية ثانية، بأن احكام الجمال، جميعها تقريبا، تنطوي على عنصر من التعاطف، يغدو من الصعوبة الحفاظ عليه في حالات الفن الجميل. اذ، ليست واضحة هنا الكيفية التي يشتمل بها الاعجاب بسونية، أو باغنية، على أساس فكرة عن القيمة التي تحملها في ثناياها الى الآخرين. و يتحدث هيوم مرارا كما لو أن الجمال الفني هو تماما مسألة تتعلق بتصميم شكل ما. و يبدو على هيوم هنا أنه يعتقد بأن المنفعة، التي تحققها بعض الفنون، هي المسرة نفسها التي تقدمها (مثال ذلك ما يجري في الشعر)، كما لو أنه يدافع عن راي مبكر لنظرية الفن للفن art-for-art sake. و مع ذلك، فان حقيقة أن قصيدة ما تبعث المسرة عند أشخاص آخرين قد لا تساعد على ظهور استحسان تعاطي مع القصيدة.
قد نجد عند هيوم جوابا لهذه المسالة المعقدة. اذ أنه يفترض وجود علاقة بين الشكل الفني و ظاهرة المنفعة. فهو يقوم باعطاء أمثلة عن وجود تصميم اساس في الرسم ("مبحث" ص ص 364-365)، و عن وجود أدب "يفتقر الى التناغم" ("مبحث في مبادئ الأخلاق" ص224). فالقراءة لا تبدأ الا بانطباعات عن تشكيلات سوداء مصفوفة في خطوط على صحائف بيض، و يقوم القراء بربط النص المطبوع بافكار سمعية aural (صوت الانسان المتحدث). و تكتسب الأشكال الأدبية، عبر تداعيات تخيلية، خواصا انسانية معبرة، ما يساعد على استنباط مسرة تعاطفية من نوع ما، أو ألم تعاطفيا من نوع ما. و لأن هيوم لا يشغل نفسه بافتراضات حول فرادة الفن الجميل، فان نظريته تتقاطع مع الفرق المميز الموجود بين الفن الجميل و علم البيان rhetoric. ان التصميم الجيد و ا لبلاغة يعدان جميلين و مرغوبين في كل ما يصنعه الانسان و يتحدث به، و ليس في الفن الجميل حسب ("في البلاغة Of Eloquence").
ان الذائقة المهذبة عند أي ناقد جيد ستوازن، حيثما يكون مناسبا، بين المسافات النسبية لكل وجوه الشئ موضوع الذائقة. و تصميم الشكل يعد ميزة تساهم في الذائقة، و لا يجوز التركيز على التمييز الجمالي فقط. و للوصول الى حكم اخلاقي مناسب، فان "الظروف جميعها و ما تقوم ما بينها من علاقات لا بد أن يجري التعرف عليها مسبقا، أما الذهن فعليه، من خلال التامل في الكل whale، الاحساس بانطباعات معينة جديدة مضمونها التعلق أو التقزز، التقدير أو الاحتقار، الاستحسان أو اللوم (مبحث في مبدئ الأخلاق" ص290).و بامكان عنصر لامتناغم، في بعض الحالات، أن يفسد جمال الكل. و يقوم هيوم بمناقشة مثل هذه الحالات في مؤلفه "في مقياس الذائقة". و لكن، ثم ماذا عن الأدب الماساوي، الذي يكون التعاطف فيه مصدرا ناميا لترقب الشر؟ كيف تتوفر ثمة امكانية وجود انطباع عن استحسان لمسرحية ماسوية؟ يقوم هيوم بالتحدث عن هذا في مؤلفه الموسوم "في الماساة".
و في مجرى النهضة التي شهدها ما سمي آنذاك بتيار النقد المعتمد على استجابة القارئ reader-response-criticism، جرى تحدي هيوم من قبل ذاك التيار لأنه لا يتيح، على نحو كاف، بروز اختلافات منطقية عند القراء حول قطعة الكتابة ذاتها؟ اذ لا وجود لقارئين يستجيبان لعمل فني بالسلسلة ذاتها لتداعيات الأفكار. اذن، كيف يا ترى يستطيع هيوم وضع فرضية عن وجود نقطة التقاء في الاستجابة النقدية؟ و لأن هذا نقد موجه لهيوم، فان الرد عليه ينطوي ربما على توجيه سهام على نقطة معينة لحماية سائر عمل هيوم. يسلم هيوم بالمبدأ القائل ان "كل ذهن يدرك جمالا يختلف عما يدركه ذهن آخر" ("في مقياس الذائقة" ص268). لكنه يشخص وجود مشكلة محددة أكثر جذرية. فهو يعترف بواقع أن كل شئ مستقر stable هو حقا "عمل خيالي fiction" يتموضع من خلال عمليات التخيل و الوجدان. و نحن دائما "نمنح الأشياء تناسقا regularity أعظم من ذاك الذي نلاحظه بها من مجرد ادراكنا لها (مبحث" ص197). ان هذه الفجوة الفلسفية ليس لها، من ناحية ثانية، أي تاثير عملي في جعل أي انسان شكوكيا لمجرد وجود منازل و أشجار، و كتب من حوله. و هذا لا يقلل من حجم الحقيقة أو الزيف الذي نتصوره عادة عنهما. و لا تعد الروايات و المسرحيات أو الرسوم حالات تتمتع باستثناء من نوع ما. و ان التسليم بأنها تستدعي وجود عمليات معقدة للتخيل، لا يجيز تفريقها عن باقي الأشياء، و يجب الا يؤدي هذا التسليم الى اتخاذ موقف ضد امكانية وجود حكم نقدي من نوع ما.
ان النقطة الحاسمة في المشكلة هي وجود اختلاف بين قولنا أن "هاملت Hamlet" هي مسرحية من تأليف وليم شيكسبير William Shakespeare و قولنا ان "هاملت" مسرحية فيها عيب ما. فالقول الأول يعبر عن حقيقة قائمة، أما الثاني، فيعبر عن حكم معياري. و كلا القولان ينحدرا، في الواقع، من تداعيات تخيلية معقدة. و لا يخلق حضور الخاطرة التخيلية أية مشكلة استثنائية أمام التقارب convergence في ادراك التمييز التقييمي. ان المشكلة تكمن في الكيفية التي يكون فيها الوجدان، بوصفه مصدرا للتقييم، عرضة لنقاش يستند على مبادئ معينة. و سنجد أن هيوم يواجه هذه المشكلة في مؤلفه  الموسوم "في مقياس الذائقة".

4- مقالة هيوم في الذائقة Hume's Essay on Taste
يخبرنا هيوم ان مقالته "في مقياس الذائقة" كانت قد كتبت بشئ من العجالة، لكنه انوجدت لكي تتيح الفرصة لنشر مقالات أخرى ("رسائل ديفيد هيوم" ص ص252-253). و لفد فام هيوم، بنصيحة من فيليب ستانهوب Philip Stanhope بازالة مقالتيه "في خلود الروح Of Immortality of Soul" و "في الانتحار Of Suicide" من مجلد لمقالات جديدة كانت خطة نشرها قد أعدت سلفا. و اذ أخبره ناشره بأن المجلد الموضوع أصغر من أن يطبع و يجلد و يباع، فصار لزاما علىهيوم أن يطيل مادة الكتاب الى حجم مقبول، و ذلك بتسطير مقالة جديدة، هي مقالته "في مقياس الذائقة". و قام هيوم باجراء ما يقارب مائتي تصحيح في تحرير كتاباته، استغرق طبعات اضافية صدرت خلال العشرين عاما التالية، و اشتملت تلك التصحيحات على أدوات للتنقيط. غير انه لم يغير شيئا قط في مقالته أية من الحجج التي ساقها لتديم طروحاته. و كانت هذه المقالة كلمته الأخيرة التي قالها في أي موضوع من مواضيع "النقد criticism.
يذكرنا هيوم بالفرق الأساس بين الحقائق و ما يرد بالوجدان من آراء pronouncements. ان الآراء التي يتبناها الوجدان تفتقر لقيمة الحقيقة truth-value. لذا، انه لأمر مفاجئ أن نجد هيوم يقر نظرية تقول بأن العديد من أحكام الذائقة تعد "منافية للعقل و تثير الضحك" ("في مقياس الذائقة" ص269). و على الرغم من أن أغلب الناس لا يلاحظون غير "الصفات النوعية العيانية الأكثر وضوحا في الشئ"، الا أن الفروقات الصغيرة غالبا ما تؤثر على عمل الذائقة ("في مقياس الذائقة" ص 278). ان الخبراء الذين يتمتعون بذائقة معقولة هم لوحدهم القادرين على الاستجابة لاحتكام كلي universal يتطلبه الفن المتفوق. و لأن الصقل يتطلب هو الآخر ممارسة جديرة بالاعبار، فان نقادا من هذا الطراز يعدون فئة نادرة الوجود.
انه لشئ مغر أن يطلع المرء على الحجة argument التي يسوقها هيوم بوصفها نقلة من شارته الذاتوية subjectivism باتجاه نوع من سمة لواقعية معيارية normative realism. الا أن قراءة متانية للنص قد تكشف لنا عن لاشئ قيل لانكار أية مساندة مبكرة كان هيوم قد أبداها لمبدأ الذاتوية، مع أنه ليس من وجود لاعترافات صريحة بالواقعية.