بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

الصيغ اللـغـويـة و التـفسير السـردي

On Linguistics & Literature …
The Linguistic Forms and Narrative Interpretation
Nigel Fabb … Translated by Ahmed Khalis Shalan
في علم اللغة و الأدب ...
الصيغ اللـغـويـة و التـفسير السـردي
ترجمة أحمد خالص الشعلان
 نايجل فاب
 أحمد خالص الشعلان
          
                                                                                                                             ثمة فرضية تقول إن الصيغة السردية narrative form لا يجري تحدديها من قبل النصوص اللغوية، ما يعني؛ أن السرديات المستعملة في العديد من المشارب الأعلامية تستثمر من الصيغة السردية جميع عناصرها الأساسية. و من ناحية أخرى، ثمة سببان أساسيان يجعلان علماء اللغة يهتمون بالصيغة السردية. السبب الأول هو أندراج السرديات ضمن أكثر الأنواع شيوعا للسلوك اللفظيverbal behavior  . و هي موجودة ليس فحسب لأنها نصوص أدبية، و إنما أيضا لأن تداولها يجري في التفاعل التواصلي اليومي. لذا، يتحتم على تحليل الخطاب discourse analysis و على علم اللغة الإجتماعي sociolinguistics أن يشملا في عملهما دراسة للسرديات بوصفها نوعا من أنواع السلوك اللفظي. و السبب الثاني هو أن الصيغة اللغويةlinguistic form  يجري إستغلالها إستغلالا واضحا في السرديات بما تمتلكه من علاقة مع الصيغة السردية.
          و تتجلى العلاقة بين الصيغتين اللغوية و السردية بإحدى إمكانيتين. الإمكانية الأولى هي أن الصيغة اللغوية ما هي إلا دليل على وجود الصيغة السردية، و غالبا ما تخضع لنظرية في الإتصال منظورا إليها من أكثر من زاوية. و بموجب هذا تعد الصيغة السردية من نوع الصيغ الماوراء-وصفية meta-description للسرد، و يتحقق بلوغها من طريق عناصر موجودة في الصيغة اللغوية للسرد ( أنظر Contini-Morava 1991 ). أما الإمكانية الثانية، فهي أن الصيغة اللغوية غالبا ما يجري تكييفها وظيفيا لتخدم متطلبات السرد وقتما تتطلب الحاجة، و بالطريقة نفسها التي يجري بها إختيار الصيغة لكي تخدم وظائف تعبيرية يحتاجها السلوك اللفظي.
          يتبين الدور "التواصلي communicative" للصيغة اللغوية بوضوح في التأسيس للصيغة السردية و بالذات حين نأخذ بالحسبان الطريقة التي يجري بها تحليل السردية الى حوادث عرضية episodes (أنظر Hymes 1981; Woodbury 1987). و ما الحادثة السرديةnarrative episode  في الأساس إلا وحدة من وحدات مضمون content السردية، تتميز بثباتها الداخلي ضمن مشتركات في المكان و الزمان و تتغير مقوماتها الداخلية بتغير حادثة السرد. و لكن، من ناحية ثانية، يبدو أن بعض تقاليد السرد اللفظي تميل الى تخصيص إستعمال لافت لأنواع محددة من الصيغة اللغوية في حدود الحادثة السردية، و بطريقة تؤكد فيها حضورا لافتا لتلك الحدود. و هكذا نرى أن ـيزي Ghezzi (1993) حين يشرع بتحليل سردية لقبيلة أوجبوي Ojibwe (من قبائل سكان أميركا الأصليين- المترجم)، يبتدأ تحليله بعبارة شائعة " و  من ثمّٙ . . . ninguting" و هي عبارة تستعمل حين الشروع  بسرد حادثة جديدة؛ و في السياق ذاته نرى كامنـﮒ  Cumming (1995) عند تحليله لسردية ملاوية Malay يؤشر تسلسلا منتظما للمفردات عند الحدود الخارجية للحادثة السردية، في حين نرى كويهن Koehn (1976)، عند تحليله لقصة من قصص آـلاي Apalai (قبيلة من قبائل جزر المحيط الهادي الغربية- المترجم)، يستعمل الماضي البطولي بتكرار لافت عند حدود الحادثة السردية؛ و نجد برودي Brody (1986) عند تحليله لسردية من سرديات توجولابال  Tojolabal (قبيلة من قبائل أميركا الوسطى- المترجم)، يستعمل تكرارا لشبه جملة clausal repetition  في الحدود الخارجية للحادثة السردية. و هكذا دواليك. في ملمح أول ، يجب أن نؤكد بأن اللغات على إختلافها تستعمل أنواعا متباينة من الصيغة اللغوية لتؤدي الوظائف الأساسية ذاتها. و يعد هذا ميزة أساسية تتمتع بها الصيغة اللغوية عند إستعمالها في الأدب، و تعني بأن نوع الصيغة اللغوية بإمكانه أن يخدم أنواعا مختلفة متعددة من الوظائف، و بإن وظيفة مفردة من هذه الوظائف بإمكانها أن تخدم العديد من الصيغ اللغوية. و في ملمح ثان، إن إستعمال صيغة لغوية محددة عند حدود الحادثة السردية نادرا ما تكون متساوقة تساوقا تاما مع سردية ما. ذلك، لأن هذا الملمح الثاني يوحي لنا بأن الأمر ليس أمر صيغة لغوية جرى توليدها وفقا للقواعد، و إنما على العكس من ذلك إن الإستعمال غير المتواصل للصيغة اللغوية غالبا ما يوحي بأن إستعماله يجري بوصفه دليلا (متلازم مع دليل آخر موجود داخل المضمون السردي) على وجود حدود للحادثة السردية، و بذا نستدل على أن الصيغة اللغوية ليست هي فعلا من يقرر مسألة إنقسام النص السردي الى حوادث سردية عرضية. يوصلنا إستعمال الصيغة اللغوية هذا الى وصف للسردية، و أعني بذلك (ما وراء الوصف)، يمثل السردية على أنها منقسمة الى حوادث سردية. و التعاطي مع هذه الإمكانية على هذا النحو قد يحل مشكلة من مشاكل الصيغة السردية، التي لها علاقة بمفهومي لامُحدديّٙتِها indeterminacy و لاإطرادها inconsistency، و هو ما يعني بأنه إذا كانت الصيغة السردية ليست حاضرة دوما في السردية، و ليست أكثر من وصف ذاتي لوجودها يجري بلوغه من قبل السردية، فعلينا إذن أن نتوقع بأن الصيغة اللغوية قد تكون مثل أي شئ آخر جرى التوصل إليه، و يعني أيضا أن علينا أن نتوقع حصول غموض بالصيغة، و إستحالة تحقق الصيغة، و هلم جرا. و هنا و أنا أحاول أن أقدم نظرية في التواصل، و بموجبها سيكون بإستطاعة علم اللغة linguistics أن يقترح حلا لواحدة من الألغاز الجوهرية للصيغة الأدبية literary form. و مع ذلك، ما يزال من الضروري مراجعة الملمح اللافت للنظر الذي تتميز به المُعلِمات الحديّة boundary-markers للسردية، التي تستغل بها (و بإطراد شديد الوضوح)            مختلف اللغات مختلف الخطط الصيغية. و قد يكون منشأ هذا الأمر الى حد ما بسبب قدرة مختلف اللغات على توفير أنواع متباينة من الصيغة اللغوية التي يمكن إستعمالها في هذا الصدد، و لكن هذا يعني و لحد ما أيضا وجوب وجود تشفير منتظم لبعض الخطط حالما نصل الى الحضور اللافت لحد الحادثة العرضية السردية.
           بالإمكان رؤية النوع الثاني من العلاقة بين الصيغة اللغوية و الصيغة السردية بوصفه شيئا عرضة للتغيير بالإمكان العثور عليه في أي قول utterance موضوع في التداول، و من نوع  الخيارات الصياغية التي بالإمكان تكييفها لتلبي حاجات وظيفية. و عادة ما يستعمل علماء اللغة المصطلح "أسلوبي stylistic" لوصف الفرق بين جملتين يوفران الفرصة لبروز صيغ منطقية متشابهة. و بذا، يكون بالإمكان ترحيل مكونات الجملة من موضع لآخر داخل الجملة دون حصول أي تأثير دلالي على معناها الإفتراضي (بما فيها الترحيل الأسلوبي من قبيل التدليل البلاغية topicalization [1] و نقلة المفعول dative shift [2] ، و ما الى ذلك)، و مكونات بالإمكان حذفها من طريق إستعمال البناء للمجهول passivization أو التحول الى الإسمية nominalization دون التأثير على الملامح المهمة للمعنى الإفتراضي. و هذه كانت خيارات توفرها الصيغة اللغوية، و فحواها أن بإمكان لغات مختلفة أن تقدم خيارات أسلوبية متنوعة، بالإمكان إستعمالها في العديد من أنواع السلوك اللفضي (و إستعمالها ليس مقصورا على الأدب). قد يوصلنا تحقق التكافؤ النحوي syntactic valency ( كونه مبنيا للمعلوم أو للمجهول، كونه إسقاطا فعليا verbal أو إسميا nominal ، الخ) الى آفاق إحتمالية eventuality من نوع ما و إنه لمن المحتمل أيضا أن تقوم هذه الآفاق أحيانا بالتدبر من أجل إطلاق تفسيرات خاصة للنص؛ و كمحصلة لهذا الرأي إرتكز تحليل "هاليدي Haliday1981" لرواية ـولدنـ Golding المسماة "الورثة The Inheritors"، إذ يوحي في تحليله بوجود إستعمال مطرد لبعض الصيغ اللغوية تقوم بتفسير حالة تعديِّة المفعول transitivity و ذلك تتلازم مع ما تصوره (حرفيا) الرواية من وعي إنسان ما قبل التاريخ (هاليدي 1981). و بالإمكان رؤية معنى، يختلف الى حد ما من الرؤية التي يمدنا بها الإستعمال "الأسلوبي" لخيارات التعدية المفعولية، في حقيقة أن الجمل المنتظمة في خط الحكاية storyline في سردية ما تساهم في تواصل الحكاية، إذ نراها غالبا تختلف صياغيا عن الجمل التي لا تساهم في خط الحكاية non-storyline و يقتصر دورها حسب على توفير معلومات سياقية حسب. و في معنى أوسع للتعديّٙة، طوره  هور و تومبسن Hoper and Thompson 1980 ، فحواه أن جمل "خط الحكاية" غالبا ما تميل الى أن تكون أكثر تعديّٙةً من  من جمل "لا- خط - الحكاية"؛ ما يعني أن "لا- خط - الحكاية" تميل الى أن تكون أقل تعديّٙة. و قد يلاقي قبولا أقل هنا ذاك الرأي القائل بأن التخصيص يشير الى ماوراء الوصف الذي تقوم به السردية و كأنه يتشكل من  جمل "خط-الحكاية" إزاء جمل "لا- خط - الحكاية" ؛ ما يعني بأننا لا بد من المحتمل أن نرى التفريق اللغوي و كأنه إنعكاس لحقيقة فحواها هو أننا قد نتوقع أشباه جملclauses  في "خط - الحكاية" تكون عالية التعديّٙة لأنها في العادة تصف أفعالا لها عواقب، في حين يُتوقع من أشباه جمل "لا - خط - الحكاية" أن تكون واطئة التعديّٙة لأنها عادة تصف حالات من نوع ما. و هنا سينشأ موضوع ذو صلة إذا ما أخذنا بالحسبان الحقيقة القائلة أنه في اللغات التي تحظى بخيار التعبير عن إفتراض معين أما بجمل ذات فعل محوري verb-medial[3] أو بجمل ذات فعل محيطي verb-peripheral[4]، قد نرى فيها أن الجمل ذات الفعل المحيطي تميل لأن تكون جمل "خط - الحكاية". و مرة أخرى نقول بأن هذا قد يؤدي الى بروز أسباب وظيفية لها علاقة بأهمية الفعل verb (و من هنا تنشأ حاجتها للبروز معلوماتيا) في أشباه جمل "خط - الحكاية". و بذا نرى، مرة أخرى، إمكانية تكييف الصيغة اللغوية وظيفيا لصالح الصيغة السردية. و ثمة مثال ثالث نحصل عليه حين نأخذ بالحسبان إستعمال خطط من نوع الإندماج الإسمي noun-incorporation (فيلاساكويز Velazquez Castillo 1995) الذي يجعل من العبارات الأسمية nominal phrases أكثر أو أقل بروزا في أشباه الجمل، في لغات تعد هذه فيها خيارات صياغية، إذ نجد أن الخيار الصياغي يعكس حاجات سردية لها علاقة بالكيفية التي يجب أن يبرز فيها عنصر معين في أي مرحلة من مراحل السردية.
          في بعض الحالات بالإمكان رؤية ملمح الصيغة اللغوية نفسه على أنه دليل على وجود الصيغة السردية و أيضا على أنه نتيجة للوظيفة السردية على حد سواء.و يبدو أن الحالة هذه تصح على الصيغة اللغوية التي تحقق ما يسميه (لابوف Labov 1972; 1997) بـ"التقييم evaluation" في السردية. فالساردون في بعض أجناس السرديات، على الأقل، يقيِّمون الوقائع السردية بلغة ما قد تعنيه هذه الوقائع للسارد و المتلقي على حد سواء. و بذلك يغدو التقييم وظيفة لجانب من جوانب السردية، و لكن و مثلما يرينا لابوف فهي لا تتحقق من طريق أنواع شائعة للصيغة اللغوية. و مثال على هذا هو إستعمال الأفعال المساعدة modals و صيغ النفي negatives و ما الى ذلك، أو بإستعمال المؤثرات الأسلوبية من قبيل التكرار أو غيره. و بذلك، تكون الصيغة اللغوية حاضرة في جانب من جوانب السردية لتخدم الوظيفة السردية. و لكن، و في الوقت نفيه، توفر الصيغة اللغوية دليلا جزئيا على وجود الصيغة السردية، لأنها مثلما أظهر لنا (لابوف والتزكي Waletzky 1967) وجود لحة تقييم رئيسة تتولد قبيل أن يحل تٙعٙقّدِ السردية. و بذا، توفر الصيغة اللغوية الدليل على البنية التي تتخذها السردية. و من هنا تعكس الصيغة اللغوية الوظيفة السردية التي بدورها تتوصل الى الصيغة السردية أيضا.
دعونا الآن ننظر في نظرية الطباق Parallelism .
بالإمكان تعريف الطباق كونه علاقة هوية جزئية يشترك بها قسمين من أقسام النص. و حين تشتمل الهوية الجزئية على لغة النص، حينئذ تقع ضمن حيز علم اللغة الأدبي literary linguistics. يوجد ثلاثة أنواع أساسية الطباق اللغويي، و هي: الطباق النحوي syntactic و الطباق الصوتي phonological و الطباق القاموسي lexical. ففي الطباق النحوي يتشارك قسمين من النص بعض أو كل ملامح بنيتهما النحوية. و هكذا نرى في البيتين التاليين للشاعر وليم بليك William Blake ، أن البيت الثاني له البنية النحوية ذاتها التي للبيت الأول، في تشكلها من صفة مشتقة من الفعل verbal participle تتبعها عبارة حرف الجر preposition phrase و هذه بدورها تتضمن عبارة إسمية noun phrase.
                                Struggling in my father's hands
                        Striving against my swadling bands
                   أكافح بين يدي أبي
                   أنافح ضد قيوديٙ الكابحة

و لنلاحظ بأن الطباق هنا ليس تاما، إذ تظهر لنا العبارتين الإسميتين لأول وهلة كأنهما إكتسبتا البنية ذاتها، غير أن هذا ليس سوى وهم لأن العبارة الأسمية في البيت الأول تعبر عن المالك  processor بصيغة my father's ، في حين تعبر العبارة الإسمية في البيت الثاني عن المالك بصيغة my فقط، و بصيغة swadling بوصفها واصفا modifier. و غالبا ما تعد لاتمامية الطباق هذه شيئا شائعا، ما يعني؛ ظهور تكرار تام غالبا ما يجري تجنبه، ربما لأسباب شبيهة بإمكانية وجود تنوع متأصل يلازم العديد من بحور الشعر، أو ربما شبيه بإستعمال مجموعات من المكافئآت في قافية الشعر rhyme و الجناس alliteration، أو شبيه بإستعمال تشفير غير مطرد للبنية السردية. و زبدة هذا كله أنه بالإمكان برمجة هذا كله لتوليد تجربة جمالية aesthetic من خلال مضاعفة التٙعٙقّدِ.
           يشتمل الطباق المعجمي lexical parallelism على زوج من الكلمات المتطابقة، واحدة في كل قسم من قسمي النص هما: بين "أكافح Struggling" و "أنافح Striving"، و بين "أيدي hands" و "قيود bands" ، و هما مثالان للطباق المعجمي في المثال المذكور آنفا، و هذا شائع حتى في الطباق النحوي syntactic parallelism الذي غايته تعضيد الطباق المعجمي.
          و نجد في الطباق المعجمي، أن بين البنى الصوتية لمقطعي النص عناصر مشتركة. و في سبيل المثال، نجد أن بعض أغان القرن الثامن عشر الغاليّٙة Gaelic محكومة بتطابقات صوتية من قبيل أن جميع أبيات المقطع الشعري لها التتابع ذاته لسلسلة أصوات العلة. و نجد أيضا في شعر القرون الوسطى الويلزي أنه وظف إستعمال الطباق الصوتي توظيفا واسعا، بوصفه تشفيرا لنماذج محددة لتناسق harmony (cynghanedd) ممكن. و هذا يمكن توضيحه في البيت التالي لشاعر من القرن الثامن عشر هو تيودور آلد Tudor Aled:
                       


          search a rois ar chwaer Esyllt
s      ch    r   s   r ch        r
             "he set his love to sister Isolde"
                                    كرّٙسٙ حبه للأخت إيزولدا
          و هذا النوع من الطباق يسمونه 'cynghandedd gross o gysswllt'، حيث يوجد تتابع من تتطابقات تتشكل من أصوات صحيحة ضمن البيت الشعري الواحد (و أعني s+r+ch+r). و اللافت هنا هو أن البيت الشعري مقسوم الى شطرين للضرورة التي يقتضيها بحر البيت الشعري الذي ينتهي شطره الأول بعد كلمة rois. و لكن ينبغي التنويه هنا أنه في هذا النوع من الطباق أن إنشطار البيت الى شطرين بحكم الطباق قد يتعارض مع إنشطار البيت الى شطرين بحكم ضرورة الوزن meter، و بذا يتولد نوع من تٙعٙقّدِ مضاعف، الذي إقترحت في موضع سابق أن نعتبره مصدرا للتجربة الجمالية. و الطباق، بوصفه ظاهرة، واسع الإنتشار في آداب الأمم جميعا (أنظر فوكس Fox 1977, 1988). و في بعض الآداب، بالإمكان تمييز الجنس الأدبي للنص  بمقدار إنتشار الطباق فيه لدرجة يكون فيها عنصرا و مبدأ أساس في تركيبة النص (و يسمي جاكوبسن Jakobson هذه الظاهرة بـ"الطباق الموافق canonic parallelism"). و في نصوص من هذا النوع، بالإمكان تطابق كل بيت شعر ثان مع البيت الذي يسبقه، و هي إمكانية متوفرة، مثلا، في خطب دفن الموتى لقبيلة ريندي Rindi الأندنوسية (رواها فوث Forth 1988). و حيثما يكون الطباق مبدأ أساسيا في التركيبة الأدبية، يكون له تشابه وظيفي مع بحر البيت الشعري، بخاصة إذا علمنا أن بإمكان بحر بيت الشعر أن ينتج نصوصا متصنعة يغلب عليها طباق صوتي حسب. و مع ذلك، فالطباق و بحر الشعر هما عمليتان مختلفتان في التركيب. إذ نجد في الطباق أن صيغة البيت الشعري تتأثر مباشرة بصيغة البيت الذي يسبقه؛ ما يعني أنتفاء الحاجة لأي تساوق عام في الصيغة يغطي النص كاملا،  في حين نجد في بحر الشعر أن صيغة البيت الشعري تتأثر بمنظومة قواعد خارجية، و هي منظومة تضمن للبيت تساوقا عاما؛ ما يعني أن أبيات المقطع الشعري يوازن أحدها الآخر و لكن دون علاقة مباشرة.
          و يحظى الطباق في الأدب بإهتمام علماء اللغة لسببين. الأول، هو أننا قد نسأل عما إذا كانت عمليات طباق النصوص تشتمل على عنصرا من عناصر الإدراك اللغوي linguistic cognition، و هو الجانب المختص بمعالجة موضوع الطباق اللغوي. و السبب الثاني، هو أننا ربما نسأل عما إذا كان بإمكان الطباق أن يتحكم تحكما مطلقا بالصيغة اللغوية التي تشكل البنية الأساس للنص، و بطريقة تناظر تحكم البحر الشعري بالبنية التحتية للنص.
          و كان جاكوبسن، هو من دشن ريادة الدراسة اللغوية للطباق، معتقدا أن الطباق لم يكن يشتمل على مبادئ أساسية للإدراك اللغوي. و رأى أن إنسياب السلوك اللفظي يجري بوصفه تتاليا للخيارات (على مستويات متنوعة للصيغة اللغوية). ففي السلوك اللفظي الإعتيادي، تندرج جميع الفقرات التي تعد متكافئة (بينها مشتركات في بعض الخصائص الصياغية) سوية بوصفها مجموعة من الخيارات التي تظهر في نقطة من سلسلة التتالي؛ ما يعني تبني خيار واحد فقط و إهمال الخيارات الأخرى. و في الفن اللفظي verbal art، يجري الإحتفاظ بمجموعة الفقرات المتكافئة لغرض الإستفادة منها في مرحلة تالية من النص، بنتيجة مٙخرجُها وضع الفقرات المتكافئة في سلسة متتالية، و من هنا يأتي الطباق اللغوي. إن وضع هذا الإحتمال في السلوك اللفضي قد يؤدي، مثلما يعتقد جاكوبسن، الى إستغلال المبادئ الأساسية  للسلوك اللفظي لخلق فن لفظي (جاكوبسن 1987). و حيث أننا قد لايصادفنا مرة أخرى الطباق في وضع يتمتع فيه بملمح مركزي من ملامح الإدراك اللغوي، إلا أننا قد نصادف الطباق و هو يتحرك بوصفه مبدأ لجانب معين من جوانب الإدراك اللغوي، و من هنا تأتي إشارة ـومسكي (1995: ص. 125) الى "الحاجة الى الطباق" الذي يظهر في نقطة ما على خط الإدراك اللغوي، و يوفر الفرصة لإنبعاث تركيبات لغوية فيها لمسة من طباق جزئي (و هي عملية أشار لها علماء النحو بوصفها نوعا من من شئ "بليغ gapping").و لدينا مثال آخر يأتينا من بعض حالات الطباق المعجمي. إذ غالبا ما تقوم التقاليد التي تحفل بالطباق المعجمي بوضع الكلمات في مجموعات إصطلاحية، لكي تشكل فيما بعد وسطا إبتكاريا لإنتاج الشعر، كأن يجري مثلا إختيار كلمتين من المجموعة نفسها لخلق طباق نصي textual parallelism. ففي سبيل المثال، يمتلك بعض شعر غوايانا الجديدة مجموعات إصطلاحية لكلمات معانيها لها علاقة ببعضها في إستعمالاتها اليومية، و التي تعد مترادفات تامة المعاني عند إستعمالها في الشعر، و بذا فهي تستعمل لإنتاج نصوصا متطابقة؛ فيها مثلا أن كلمة yow  "شمس sun" و كلمة yesir  "نجمة الصبح "morning star  و كلمة piri "قمر moon" تشكل جميعا مجموعة جميع مفرداتها تفسر في الشعر تفسيرا محددا بمعنى "شمس sun" (فورهوف Voorhoeve 1977). و حتى أنه قد نجد في بعض الحالات إن الكلمات في المجموعة مع أنها مترادفات متقاربة إلا أنه توحي بإستقلاليتها الواحدة عن الأخرى، و في حالات أخرى أنه على الرغم من إرتباط المفردات ببعضها إرتباطا بائنا لكن إنتظامها في مجموعة يعكس إصطلاحا عشوائيا الى حد ما. و لكن، قد يبرز سؤالا يثير الإهتمام حول إنتظام المفردات في مجموعات إنتظاما معجميا أصطلاحيا ، و بالتحديد عما إذا كان تركيب هذه المجموعات يشتمل على إمكانية الوصول الى المبادئ التي تنظم المعجم. ففي سبيل المثال، إن المزاج المعجمي في التنظيم المعجمي غالبا ما يميل الى وضع الكلمات في "مجموعات تصنيفية classifier sets" التي يظهر الجنس اللغوي فيها بإمثلة بسيطة نسبيا، و بذا تقوم "المجموعات التصنيفية" بمعالقة الكلمات بعمليات نحوية morphologies معينة (و مثالها إن الأسماء الإنثوية feminine و الذكورية masculine تأخذ في الفرنسية فقرات مستقلة في المعجم). إذن، ثمة سؤال يستحق الإجابة لمعرف فيما إذا كان إنتظام الكلمات في مجموعات  لغرض الطباق يؤدي أو لا يؤدي الى عمليات إدراكية شبيهة بتلك التي ترافق إنتظام الكلمات في "مجموعات تصنيفية".
         
          هل قواعد الطباق لديها قدرة النفاذ الى البنية التحتية للصيغة اللغوية؟ ثمة مثال ذو علاقة يأتينا من أحاجي نبرات اللهجة  الإفكية Efik (فاب Fabb 1997 ص 151  مأخوذة من سايمون Simmons 1958). ففي هذه النصوص، نجد البيت الأول و البيت الثاني تشترك في نماذج النبرات المعجمية ذاتها، من أجل أنها حين تُنطق بصوت عال يكون للبيتين اللحن melody ذاته و لهما أيضا التتالي ذاته في صعود و هبوط النبرة. و لكن، من ناحية ثانية، نجد أنه مع أن شكل اللحن هو ذاته، إلا أن طوله ليس متطابقا في  البيتين، إذ نجد إحتمال أن يكون في البيت الأول تتاليا لصوت علة خفيض تتبعه ثلاثة أصوات علة عالية متبوعة  بصوت علة خفيض مفرد، ليتطابق  مع سلسلة متتالية من  صوت علة خفيض يتبعه صوت علة عال مفرد يتبعه صوت علة خفيض مفرد. و هكذا، يأتي الطباق هنا لا على مستوى النبرات في أصوات علة مفردة، و إنما على مستوى (فوقطعي super-segmental) ليشكل خط الكفاف النبري tonal contour الذي يكمن فوق المنطوق كليا؛ ما يعني هنا لأنه بالإمكان أن يكون ملمح لبنية تحتية لصيغة لغوية محكوما بالطباق.
           
          و الخلاصة هي أن الدليل متوفر على حضور خواص معينة في التواصل الأدبي (بما فيها اللامحددية و الغموض و المواربة indirectness ما الى ذلك) في جميع أنواع التواصل اللفظي؛ و بذا لا يقوم الأدب خصوصا بغير التوسع بإستعمالها. و يبدو أنه من الممكن أيضا أن يجري تفسير أنواع من الصيغ الأدبية (مثالها  أنوعا مخصصة من الصيغة السردية) بأفضل ما يمكن بوصفها تفسيرات  ماوراء وصفية للنص و التي يتواصل معها النص هو بالذات. و هذا يعني أن بعض الصيغ الأدبية قد تتشابه مع المضمون الأدبي أكثر مما تتشابه مع الصيغة اللغوية. و هذا كله يقودنا الى موضوع الخبرة الجمالية، فخبرتنا عن النصوص الأدبية تختلف نوعيا عن خبرتنا بأنواع النصوص الأخرى، إذ علينا أن نتساءل عما إذا كان بإمكان هذا الإختلاف النوعي أن يكون على علاقة جزئية منتظمة بالطرق التي تشتغل بها القواعد اللغوية و الأدبية و تتفاعل فيما بينها.              
                                      



[1] لم أجد ترجمة لهذا  المصطلح الأسلوبي الى العربية . . . و في قاموس أوكسفورد الموجز لعلم اللغة Oxford Concise Dictionary of Linguistics نجد ما يلي: topicalization هي عملية صياغة تركيب مشتق يُعد فيه أحد عناصر التركيب موضوعا للتركيب و مثاله في قولنا "الجعة أراها ضرورية" و هي مشتقة من "أنا أرى الجعة ضرورية".  إن ترحيل الكلمة موضوع الجملة و هي "االجعة" الى مقدمة القول تعزوه د. بتول قاسم في كتابها المهم "دلالة الإعراب" الى حاجات بلاغية و تسميه "الدلالة البلاغية" و من هنا و بدلالته أقترحت الترجمة المذكورة في النص أعلاه لمصطلح topicalization - المترجم
[2] و نجد قاموس أوكسفورد الموجز لعلم اللغة ما يلي: dative shift هي عملية ذات علاقة بقواعد اللغة يجري فيها تحويل المفعول الثاني ليكون مفعولا أولا أو بالعكس مثل قولنا: "أعرت نسختي الى جيم I lent my copy to Jim" و في قول آخر نقول "أعرت جيم نسختي I lent my copy to Jim" - المترجم
[3] verb-medial الفعل المحوري في الجملة الآنكليزية هو الفعل الذي يقع في جزئها الرئيس و بدونه لا تتم المعنى ففي قولنا مثلا     My wife came, while I was reading"   و بموجب تحليل الجملة الإنكليزية هذه الجمل تتكون من عبارتين كل منها يسمى clause و العبارة التي فيها الفعل المحوري هنا هي My wife came,  ، و تسمى  main clause" العبارة الرئيسة التي إضا كانت لوحدها تعطي معنى تاما. و العبارة الأخرى while I was reading  في الجملة تسمى "subordinate clause العبارة الملحقة" التي إذا ما قرأناها لوحدها لا تعطي معنى تاما و إذا حذفناها من الجملة لا يؤثر حذفها على دلالة الجملة الأصلية و هو مجئ الزوجة. و يسمى فعل العبارة الملحقة بـ "verb-peripheral الفعل المحيطي".
[4] أنظر الهامش 3

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق