بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

البير كامو و جان بول سارت... البحث عن معنى للوجود

 An essay on philosophy

 Albert Camus & Jean Paul Sartre … Seeking Signification for Existence

Ahmed Khalis halan
(This lecture was delivered in the French Cultural Center in Baghdad in March 2009)

مقالة في الفلسفة ...
               البير كامو  و جان بول سارت... البحث عن معنى للوجود
أحمد خالص الشعلان

A. Kh. Shalan
آلـبـيــر كــامــوAlbert Camus

كانت رحلة في سيارة سباق متينة متجهة من جنوب فرنسا صوب باريس، تلك التي فارق كامو بسببها الحياة عام 1960. كان عائدا من ضيعته التي قضى فيها احتفالات رأس السنة،  فكانت ميتته واحدة من أجلى صور العبث و اللاجدوى، بل و أكثرها عبثية على الاطلاق. و لكنها كانت  أيضا الأفدح خسارة للفلسفة و الفن و الأدب. حصل هذا و لم يكن قد مضى على فوز كامو بجائزة نوبل للأدب سوى ثلاثة أعوام، و هو في ذروة شبابه. كان آنذاك في رحلته تلك ذاهبا لإلقاء كلمة يتحدث فيها عن  الضمير في القرن العشرين، الضمير الذي غيرت مفاهيمه حرب في أوروبا دامت ثلاثين عاما من 1914 الى 1945، مع هدنة قصيرة في وسطها . و كان قبلها، أعني قبل موته، معروفا لدى العالم مقاوما للنازية، و بوصفه أيضا ممثلا مسرحيا، و محررا، و كاتبا مسرحيا، و روائيا، و بالإجمال  هذا  كله هو الذي جعل منه فيلسوفا. و ما أقل أولئك الذين يجمعون كل هذا و يغدون فلاسفة! قتلته شجرة إصطدمت بها سيارة السباق تلك في جو مطير، إنزلقت فيه عجلاتها، فانحرفت عن الطريق. تلك، دون ريب، ميتة درامتيكية لفيلسوف فرنسا الوجودي الشاب الذي فارق الحياة على ذاك النحو العبثي الدراماتيكي. فأعطت تلك الميتة مسوغا لمن نعت وجودية كامو  بالوجودية المتوحشة، و هو الفيلسوف الأكثر جدية في زمانه. و مع ذلك، فإن ميتته كانت الشاهد على منطقية و صحة أكثر المقولات الفلسفية التي راجت في تلك الآونة، و من بينها مقولة ان "الحياة عبث، لا طائل من ورائه، و لا معنى لها، و بأن أي شئ ربما يحدث لأي انسان، و في اي زمان دون مقدمات تذكر، أو تواتر، أو حتى  دون سبب منطقي". و لن يكون في موقف من هذا النوع، عند كامو، أي معنى لوجود إله، من أي نوع كان، يعزى اليه هذا العبث الذي لا طائل من ورائه، إلا إله  واحد لا غير إطلاقا،  هو إله الصدفة العمياء. فهل كان موت البير كامو صدفة عمياء من آلاف الصدف التي تمر، فتخطف من بيننا حياة أناس من طراز البير كامو؟   

الزمن و الصدفة هما المقولتان اللتان يتعاطى بهما البشر. و مع ذلك، فلطالما كان كامو يضع الأمور في النصاب الفلسفي الذي يراه مناسبا، و بموجب منطق ذاك النصاب، القائل من أنه صحيح أن للحياة قيمة، و لكنها تظل دوما  دون معنى. و هو بذا، يعلن تمردا متوحشاً ضد شيئين هما: أولاً الإنكار (أو ما يسمى nihilism) و هو الإعتقاد بالعدم nothingness، و ثانياً المبدأ المسيحي القائم على الاحتقار، الذي يعني إزدراء العالم و الإستخفاف به. و هو المفهوم الذي يجبر المرء على الإنصراف عن هذا العالم، و تكريه العيش في اللحظة الراهنة، و أن يصب الانسان إهتمامه، بدلا من ذلك، على زمن آت من المجهول.

إن ما كان كامو يعتقده عن الحياة هو انها ليست رحلة طويلة، الغاية منها الحج الى مكان ما،  و لا هي أيضا برنامجا معدا سلفا، و إنما هي في الأساس موقف attitude. و اذا أردنا ترجمة هذا بالإستعانة بلغةالمسرح: فهو يقول ان الحياة ليست عقدة، و إنما مشهد، ما يذكرنا بقول عميد المسرح المصري يوسف وهبي "ما الحياة إلا مسرح كبير!"، ما يهم فيه هي لحظة العيش الراهنة، لأنها الحاضر الموجود. و إذا كان كامو لا يؤمن بوجود اله، فلأنه إستقى جل معتقداته من نيتشة Nietzsche، و لكنه إستقاها من خلال قراءته لكيركيغارد Kierkegaard، و من ياسبرز Jaspers،  فتوصل الى مقولة أن العالم لا كفيل له unsponsored، و لا ضامن. و بذا، يروح ليوافق على ما يقوله نينشة،  بأن الإله في مفهومه القديم مات و تلاشى، إذ يقول نيتشة: "و ما سأقوله لكم هو أننا جميعا قتلناه، أنت و أنا. و جمعنا ما هو إلا جمع من القتلة . . الإله مات!". فكيف سيتسنى لنا نحن قتلةُ كلِ القتلةِ أن نريح أنفسنا؟ . . فما كان يعني للناس كونه الأكثر قداسة، و الأكثر قدرة،  من بين كل ما وجد في هذا العالم. ها نحن قد حززنا رقبته بسكاكيننا. فمن ذا الذي سيمسح الدم عن أيدينا الملوثة؟ و يدلو فرويد بدلوه هنا قائلاً: أن هذا الدم سيكون العبئ الذي يثقل كاهل القرن العشرين، القرن الذي أراد كامو أن يتحدث عما آل اليه الضمير في هذا القرن، قبل أن تميته تلك الشجرة الصدفة التي إصطدمت بها سيارته. و هكذا ستظل تلك الخطيئة كي تتحول الى ذنب ينحدر بنا نحن البشر نحو الهاوية. فيذكرنا بقول نيتشة البليغ "من ينظر في الهاوية تتطلع اليه!".

و نجد عند كامو تلك المشكلة الأساسية التي واجهها العديد من البشر على كر القرون. فهو حاله حال الذين سبقوه، أو بعض الذين عاصروه، لم يكن بإمكانه القبول بالفتوى المسيحية (و قد يصح الأمر على فتوى أي دين آخر، لأن الأديان تتفق على أساسيات لا تفرقها سوى المصالح) لسببين: الأول هي المشكلة القديمة للشر– ما يعني إذا كنا نحظى بإله يتمثل بقوة مطلقة و خير مطلق، كيف تسنى للشر يا ترى إذن أن ينوجد؟ و المشكلة الثانية هي أن المسيحية تتطلع الى المستقبل و تتجاهل الحاضر، و هي في هذا حالها حال كل العقائد التي تسوف الحاضر من أجل المجهول، فهي تتطلع الى مدينة الإله، و هي تجسيد لمبدأ الثواب و العقاب الموجود في طي المستقبل،  بدل التركيز على الحاضر على مدينة البشر رجالا و نساء. و يكتب كامو هنا قائلا: "يجري الأمر هكذا خلال كل يوم من أيام حياتنا حيث يحملنا الزمان، و لكن دائما تأتي اللحظة التي يكون فيها علينا نحن أن نحمل الزمان. فنحن نعيش على المستقبل – فالغد حين ياتي، و  قد بلغت من العمر عتيا، عندئذ ستفهم الأمر مليا. و نبوات (جمع نبوة و ليس نبؤة) من هذا القبيل، تبدو لنا مدهشة، فالأمر بعد كل شئ يتعلق بالموت. . فهل يا ترى يحاول كامو أن يضع الأمر على نحو، و كأنه يقول لنا فيه: أنظر الى نفسك! فعلى الرغم من أن اليوم يأتيك حين تلاحظ أنك، لنقل في سن الخامسة و العشرين، و بذا تؤكد صبوتك، و لكنك في الوقت نفسه تضع نفسك في علاقة مع الزمن، و تأخذ مكانك فيه، و كأنك تموضع نفسك في نقطة على منحن، أنت ملزم في أن ترحل صوب نهايته! فأنت عبد للزمن، بل و أنت عبد الى درجة فظيعة تمنعك من ادراك أسوأ أنواع أعدائك، و هو الغد . . الغد هو الفخ! . . فأنت و على الرغم من  تلهفك الى الغد، أنت في داخلك ترفض هذا الغد. و هذا العصيان من النفس الأمارة بالسوء ما هو إلا العبث بأكثر أشكاله سخفا.

لذا نجده يكتب الى صديق ألماني متخيل (و الإشارة هنا واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار) قائلا:

"... لقد إفترضت أنه بغياب أي رمز بشري أو الهي، لن نجد أية قيم سوى تلك                       التي إنحدرت إلينا من عالم الحيوان، أو بعبارة اخرى، أفعال العنف و الخبث. فأين يكمن الفرق بيننا أنا و أنت؟ . . يكمن الفرق، ببساطة، في أنك قبلت فكرة اليأس بنفس راضية، في حين لم أستسلم أنا إليه قط. و ببساطة، هو إنك نظرت الى موضوع اللاعدالة في ظروفنا على نحو و كأنك تريد أن تضيف الى هذا الإجحاف من لدنك،  في حين أنه بدى لي على نحو يلزم الانسان بإقرار العدالة، من أجل ان يقهر الظلم المستشري في داخله. و يحاول أن يخلق السعادة، لكي يحمي نفسه من التعاسة التي يفرضها الكون عليه. و لأنك حولت ياسك الى تطير، لأنك نجحت في أفلات روحك منه، بجعله قاعدة من نوع ما، فأنت راغب بتحطيم ما يقوم به الانسان و محاربته من أجل أن تزيد يأسه تعاسة. أما انا، فعلى الضد منك، أختار العدالة من أجل ان أظل على أيماني بالعالم. و أنا مستمر على الاعتقاد بأن هذا العالم لم تكن له غاية نهائية، غير أني أعلم بأن شيئا ما فيه لا بد أن يكون له معنى، و ذاك المعنى هو الانسان، لأنه الكائن الأوحد الذي يصر على الوصول الى هذا المعنى. إن لهذا العالم على الأقل حقيقة هي الانسان. و مهمتنا هنا هي العمل على تسويغ هذه الحقيقة ضد القدر نفسه، و ليس لها من تسويغ سوى الانسان ذاته. و من هنا، لا بد من إنقاذه إذا أردنا إنقاذ فكرتنا عن الحياة. و بإبتسامتك المستهزأة قد تسألني: ما الذي تقصده بإنقاذ الانسان؟ . . و سأصرخ بكل ما هو موجود فيّ من إنسان، بأني أقصد ألا نلصق بالانسان عاهات ليست فيه، و أن نعطي فرصة للعدالة التي لا يستطيع أحد غير الإنسان تصورها!".

 في مفهومه عن إنقاذ الانسان، و بوصفه فيلسوفا أخلاقيا معنياً بالوجود أيضا، ثمة هنا ما يجمع كامو من الناحية الفلسفية بتشكيلة من الفلاسفة يقف نيتشة في أقصى اليمين، بمفهومه عن الانسان المتفوق المثالي، و يقف ماركس في أقصى اليسار في مفهومه عن الانسان الواعي الواقعي، و نجد كامو في وسطها يضفر المثالية بالواقعية لإيجاد دلالة للوجود. و طالما كان الانسان المتفوق عند نيتشة مشروعا مثاليا، و عند ماركس مشروعا واقعيا،  فعند كامو يصبح كل شئ في صيغة مشروع؛ القانون مشروع، و الدين مشروع، و الفن مشروع، ما يعني أن الوجود نفسه مشروع. غير أن هذه المشاريع لا تكتسب وجودها الا من خلال تعريف الانسان لها. و ليست هي مشاريع ضمن خطة كونية، وضعها أحد في ما وراء فهمنا و إستيعابنا، أو تتعدى قدرتنا، لكي نحشر فيها حشرا، و إنما اشياء نحن نخلقها و نوجدها. و بذا، نكون نحن وحدنا القادرين على وضع تعريف للعدالة و الحب و الفن، و للحياة عموما على هذا الكوكب، و أينما يحل الانسان في الكواكب التي سيكتشفها لاحقا. و حتى إذا واجه الإنسان الفشل في تحقيق أي من هذه المشاريع، فمن الأفضل له، و بأي حال من الأحوال، "الإصطفاف الى جانب أولئك الذين اختاروا الحياة، و ليس الى جانب أولئك الذين إختاروا تدميرها".

هل كان كامو فيلسوفا اخلاقيا ؟ أجل ، دون ريب . ذلك ، لأنه كان يعتقد أنه ينبغي على البشر الا يبحثوا عن القيم في ما وراء السحاب ، و لا في اي عالم آخر من الموجودات الخيالية . و ما من احد ، أي كانت تسميته أو توصيفه ، و هبنا شيئا قط  . و القليل الذي نظفر به ندفع ثمنه غاليا،  موتا بالجملة دائما. ندفع الكثير لكي نكتشف علة شئ ما . و ليس من طريق أمامنا ، اذا كانت الظروف التي تحيط بنا مجحفة ، سوى ان نتغلب عليها بجعل كل شئ عادلا ، ان أمكن !    

و نعود لنطلِّع على ما كتبه كامو لصديفه الألماني المتخيل، إذ يقول

" ... إن اللحظة التي يجري بها تبرير تلك الأفعال ...

 (يقصد هنا التعذيب الذي يحل بالانسان و الحرب و الجرائم و إجحاف حق الغير، و زعم إمتلاك الحقيقة، و غيرها)

... حتى لو كان على نحو غير مباشر، لا يعود ثمة وجود للمبادئ و القيم؛ ما يعني أن دوافع تلك ألفعال الشريرة جميعا ستجد من سيصورها لنا على أنها خيرة. و الحروب، دون أهداف أو قواعد تضبطها، ستجيز، دون ريب، إنتصار العدم. و سنعود أدراجنا طائعين راغمين الى عهد الغاب ، حيث لا يسود سوى مبدأ واحد هو مبدأ العنف".

          فما أشبه اليوم بالبارحة بالنسبة لنا نحن عراقيي اليوم على الأقل! فقد كان كل هذا، الذي دق به كامو على باب إسرارنا الخبيئة، ناجما من تجربة له و لمثقفين آخرين، حصدوها بعد خروجهم من أتون حرب مات فيها ملايين البشر، و أقترفت خلالها الحضارة آثاما ضد نفسها، فأغرقت فيها أوروبا نفسها، و العالم معها، في رحلة عبثية للموت، بسبب إختلال ميزان العدالة الجمعية آنذاك، حين ظهر فوهرر فرد يمجد جنسه، على وفق مبدأ لا يختلف كثيرا عن مبدأ " ... و كنتم خير أمة اخرجت للناس"! الذي نخوض بسببه الآن،  أو بالأحرى منذ عقود،  في بحر من الدم. و كأننا بقراءتنا لكامو قبل خمسة أو أربعة عقود مضت، نحن القلة المثقفة في هذا البلد، كان قدرنا أن نعرف، من طريق كامو ما ينبؤنا به ، نوع الإختلال في العدالة و الموت العبثي الذي يمر علينا، هذه ألأيام، و تروح أرواح عشرات آلاف، بل مئات آلاف الناس ثمنا له، من أجل إله أثول و قديسين ديدنهم السرقة و القتل و الزنا. و ما أصدق كامو! . . . فقد دفعنا، و ما نزال ندفع، ثمنا باهضا لقاء القليل الذي نظفر به، هذا إن كنا فعلا قد ضفرنا بشئ!

ان الكتاب الذي ألفه كامو، و تجلت فيه فلسفته بأوضح ما تكون عليه، كان كتابه "أسطورة سيسيفس The Myth of Sisyphus".  و سيسيفس (أو سيزيف في الترجمات العربية قاطبة)، حسب الأسطورة الأغريقية، كان الأكثر حكمة بين بني الإنسان. و مع ذلك فقد أتهم ببعض الهزل تجاه الآلهة، لأنه سرق أسرارهم، و وضع قيدا في رقبة الموت. إذ حصل مرة، و الموت يقترب منه، أن أراد سيسفس إختبار حب زوجته له، فأمرها أن تـُلقي بجثته التي لم يدفنها أحد في ساحة عامة.  فإستيقظ هناك في الآخرة، و إنزعج من طاعة زوجته له، بما رأى أنه يناقض الحب لدى البشر. فأستأذن من الآلهة بالعودة الى الدنيا، لكي يعاقب زوجته. و لكن، ما أن رأى سيسيفس وجه الدنيا من جديد، و إستمتع بالماء و الشمس و دفئ الصخور و البحر، تمرد على العودة الى العالم السفلي. و لم تنفع معه النداءات و التحذيرات و علامات الغضب التي أطلقت اليه من ألآلهة. و أخيرا لم يكن أمام الإله ميركوري Mercury رسول الآلهة إلا أن يأتي بنفسه، و يمسك بسيسيفس و يجره الى عالم الأموات. و فرضت عقوبة عليه قوامها أن يظل يدفع صخرة الى أعلى التل،  ثم ينظر إليها تتدحرج عائدة الى الأسفل فيهبط معها. ليعاود الكرة صعودا معها من جديد. و هكذا يظل الى الأبد. بيد أن سيسيفس كان مدركا لبلواه. و ها هنا يكمن سر تراجيديته. فخلال لحظات هبوطه تنتعش عنده مجددا فكرة النجاح صعودا بالصخرة الى القمة. و هكذا يتبدد عذابه بتأثير حبه لاعادة الكرة. ان هذا الفهم الشفاف لقدره هو الذي يحول عذابه الى نصر!

و مع أننا قد نترك سيسيفس و هو في سفح الجبل ممرغا بالتراب، فيهزنا مصيره التراجيدي، إلا أن كامو يعلمنا هنا من طريق سيسيفس كيف نرفض العهدة للآلهة و لحمل الصخور معا! . . . فيا له من درس!

و هكذا صارت ثيمة كتاب "أسطورة سيسيفس" هي الأساس الذي إنبنت عليه أغلب أعمال كامو، و أفكاره عن الوجود، التي كانت تتبلور فيها جميع المقولات التي شاعت في تلك ألآونة حول وجود الانسان و مصيره على هذا الكوكب.

جان بول سارت Jean-Paul Sartre

باللإمكان أن نعثر على الفكرة الأساس لوجودية سارت في مؤلفه "الذات المتعاليةThe Transcendence of Ego"، الذي يبتدأ بمقولة "الشئ- في- ذاته the thing-in-itself" اللامتناهية و الفياضة. و يشير سارت الى أي وعي  قاصدdirect consciousness للشئ في ذاته على أنه "وعي ما قبل تأمليpre-reflective consciousness". و يسمي سارت أية محاولة لتوصيف، او فهم، أو أرخنة الشئ في ذاته على أنها "وعي تأمليreflective consciousness ". و ليس من طريق للوعي التأملي أن يدرج في جنباته ما هو قبل- تاملي. و بذلك، فإن التامل مقدر له أن يكون نوعا من "القلق anxiety"؛ و المقصود هنا هو الشرط الانساني human condition. إن الوعي التأملي بكل أشكاله (علمي، فني، أو ما الى ذلك) بإمكانه لوحده ان يقيد الشئ- في- ذاته بمحاولة لفهمه، أو توصيفه. و ما يتبع، بناء على ذلك، بأن أية محاولة لمعرفة الذات self-knowledge (وعي الذات – و هو وعي تأملي للاتناهي الفائض) ما هي إلا تركيب آيل للفشل مهما حاول التكون. إن الوعي ما هو إلا وعي الوعي لنفسه على القدر الذي يكون فيه وعيا لشئ متعال.

و بالإمكان أن يصح هذا على مقولة "الآخرthe other". إن " الآخر" (الذي يعني أي موجود أو شئ سوى الذات) ما هو إلا تركيب للوعي التأملي. و أية كينونة إرادية volitional لا بد لها ان تكون متأنية في فهم هذا على انه صيغة للتحذير و ليس بيانا وجوديا. و مع ذلك، ثمة تضمين هنا للأنانة solipsism التي يعدها سارت أساسية في أي توصيف متماسك منطقي للشرط الانساني. و يتغلب سارت على هذه الأنانة بنوع من الشعيرة ritual. فوعي الذات يتطلب وجود "الآخر" من أجل إثبات (استعراض) الوجود الخاص به. فهو لديه "رغبة مازوخية" ليكون مقيدا؛ ما يعني تقييدا بوساطة الوعي التأملي لموضوع آخر. و بالإمكان التعبير عن هذا مجازيا في سطر الحوار المشهور في مسرحيته "لا مخرج No Exit " الذي يقول  فيه: "الجحيم هو الآخرون".

و يوضح سارت بأنه "لكي أجعل من نفسي معروفا لدى الآخر، علي أن أجازف بحياتي. و المجازفة بحياة المرء،  في الواقع، يعني إفصاح المرء عن نفسه بوصفه متحررا not-bound من أي شكل للوجود الموضوعي، أو لأي وجود مقرر سلفا- ما يعني متحررا من الحياة"،  بمعنى إن قيمة تعرف "الآخر " عليّ تعتمد على قيمة تعرفي أنا على "الآخ" بالمعنى نفسه، إلى الحد الذي يدركني "الآخر" فيه كوني مقيدا بجسد منغمس بالحياة.  فأنا نفسي ما أنا الا "آخر" بوصفي ذات Ego.

إن الفكرة الرئيسة عند سارت هي أننا، بوصفنا بشرا، "مبتلون بالحرية Condemned to be free". و هذه النظرية تستند الى معتقده القائل بإنكار وجود خالق، و يصوغها مستعملا مثال السكين التي تفتح المظاريف.  يقول سارت اذا ما فكر أمرؤ بهذا السكين، سيفترض بأن صانعها لا بد أنه كانت له خطة بشأنها: أي جوهرا essence. و يقول سارت بأن البشر لا جوهر لهم قبل وجودهم، لأنه لم يكن ثمة خالق لهم.  و هكذا: "يسبق الوجود الجوهر". و يشكل هذا الأساس لتأكيد مقولته بأنه طالما كان الناس غير قادرين على تفسير أفعالهم و سلوكهم بالرجوع الى أي جوهر إنساني محدد،  يكونون بالضرورة مسؤولين مسؤولية كاملة عن تلك الأفعال. "فنحن تـُرِكنا لوحدِنا، دون أي مسوغ".

و ظل سارت، من ناحية ثانية، يصر على أن مفهومي الأصالةauthenticity  و الفردانية   individualityيجري إكتسابهما و ليس تعلمهما.  فنحن نحتاج الى تجربة الموت، و وعي الموت، من أجل أن نفيق و ندرك ما يستحق الإهتمام فعلا. إن ما يعد أصيلا في حيواتنا هو تجربة الحياة، و ليس معرفتها.

و مثلما كانت "سيسيفس" اللبنة التي إنبنت عليها وجودية كامو، كان لسارت لبنة إنبنت عليها وجوديته.  و كانت تلك اللبنة هي روايته "الغثيان Nausea" التي تصلح بيانا عاما للوجدوية. و لهذا السبب، ظلت هذه الرواية واحدة من أشهر أعماله، وأكثرها إقبالا من لدن القراء.  فهذه الرواية تصور باحثا محزونا هو "روكانت"، يعيش في بلدة تشبه الشق، حيث يغدو فيها واعيا بالكامل بحقيقة إن الأشياء، و المواقف العديمة الحياة مستمرة بلامبالاتها بوجوده. كما لو أنها تري نفسها مقاومة لأي معنى يحاول وعي الانسان أن يتصوره فيها. و هذه اللامبالاة من لدن "الأشياء في ذاتها" (يربطها سارت فيما بعد بفكرة "الوجود في ذاته" في كتابه الشهير "الوجود و العدم  Being and Nothingness") لها تأثير على إبراز الحرية الزائدة التي على "روكانت" تصورها و فعلها في هذا العالم؛ كيما يصبح بإمكانه أن يجد حالات مشبعة بالمعنى الذي يحمل طابع وجود في كل مكان يتطلع اليه. و من هنا يتأتى "الغثيان" المشار اليه في عنوان الكتاب؛ بمعنى أن كل ما يلاقيه في حياته اليومية يفيض بذائقة سريعة التفشي،  بل و حتى مرعبة – و تحديدا حريته. و الكتاب يستقي مصطلح "الغثيان" من كتاب نيتشة الشهير "هكذا تكلم زرادشت  Thus spoke Zarathustra"، حيث إستعمل فيه سياق الصفة الغالبة المغثية للوجود.  و لا يهم هنا  مقدار توق "روكانت" الى شئ آخر، أو الى شئ مختلف، فهو لا يستطيع أن يتحرر من هذا الشاهد المكدر على إنغماسه في العالم. و الرواية تفعل فعلها أيضا بوصفها تحقيق مرعب لبعض أفكار ايمانويل كانت الأساسية؛  بمعنى أن سارت يستعمل فكرة الإستقلال الداخلي للرغبة (بأن الأخلاق تشتق من قدرتنا على إختيار الواقع الذي نريد؛ ما يعني أن قدرتنا على الاختيار كونها مستقاة من حرية الانسان؛ فهي تتجسد بالمقولة الشهيرة "مبتلون بالحرية" بوصفها طريقة لنظهر بها لامبالاة العالم بالفرد. فالحرية التي يعرضها إيمانويل كانت هنا تشكل عبئا ثقيلا،  لأن حرية الفعل تجاه الأشياء هي عديمة الجدوى تماما، و التطبيق العملي لأفكار كانت يثبت أنه مرفوض بمرارة.       

أنا لست فيلسوفا كي يكون بإمكاني بسهولة إيجاد ما يربط مقولات كامو بمقولات سارت، أعني ما يجمع بين وجوديتيهما! و قد لا أجرؤ! . . و لكني سأقولها على طريقة الفرد بروفروك بطل ت. س. اليوت، إذ قال:

"أأجرؤ على إقلاق الكون!" . . . و قد لا أفعل! . .  و مع ذلك،  ينتابني الفضول لدرجة أني سأجرؤ على البحث عن روابط بين وجودية الفيلسوفين بعدتي القليلة الفقيرة، بوصفي قارئا و مترجما للفلسفة!

لنلاحظ أولا  أن كامو و سارت يتفقان في النظرة الفلسفية الأولية تجاه الوجود و الكينونات؛ و فحواها عيش اللحظة الراهنة إستنادا على الإرادة الحرة التي تنبع من داخل الإنسان، و ليس من خارجه. و  يتفقان أيضا على أن مصير الإنسان لا بد أن يوضع في يده هو، و ليس في يد أية قوة أخرى متعالية، سواء أكانت أرضية أو ما وراء الفهم . . من النوع الذي يبشر لها قديسون خرقى!

          وإاذا أنعمنا النظر قليلا، من ناحية أخرى، سنجد أن آراء سارت تتموضع مخالفة لآراء كامو في مواضع كثيرة، و بتفصيلات يستفيد منها الفن أكثر مما تستفيد منها الفلسفة، على الرغم من أنها تقربهما كليهما من نيتشة، بهذا القدر أو ذاك، لكل منهما. و تجنبا لإغراق أنفسنا  بتفصيلات تجريدية، سأستقي هنا مثالا حيا من عملين روائيين للفيلسوفين يضع كل منهما على طرف تفصله مسافة عن الآخر.

نجد في الطرف الأول "روكانت" بطل سارت السلبي في روايته "الغثيان" يعيش لحظات وجوده لحظة فلحظة، و بسبب نوع  "الكينونة النفسية selfness" التي وضعه سارت فيها من شدة إيمانه بالفردانيةindividualism ، يريد من كل الأشياء  أن تبالي به! لم على الأشياء أن تبالي به يا ترى إذا كان سارت قد موضع كل منها،  سواء أكان جمادا أو حيا،  كأنه "شئ في ذاته"، منغلق يريد هو الآخر أحدا ما أن يبالي به؟ و بالتالي، نجد أن هذه الموضعة للأشياء تدفع روكانت الى حالة من "الغثيان" أو الجزع من الوجود. و صحيح أن آراء سارت هذه كانت إفرازا لما مرت به أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين، لكن تأثيرها الثقافي، و الكل يعلم هذا، إستمر لما بعد عقابيل الحروب الأوربية، إستمر بفهم ساذج و بسيط، بل و أحيانا تافه، لمقولات سارت ألأصيلة عن "القلق" و "الإختيار" و "الإرادة" و غيرها، بخاصة في نواحينا و بين مثقفينا!

و نجد في الطرف الآخر ميرسو بطل كامو الإيجابي  في روايته "الغريبThe   Stranger" التي كتبها في الآونة نفسها التي كتب فيها "أسطورة سيسيفس"، و جسد فيها بأسلوب روائي بداية تشكل البطل العبثي، بأن أرانا ميرسو إنسانا يعيش في مجتمع ما عادت القيم تنفع فيه أحدا، إنسانا لا يجد لنفسه سواه. و من هنا، عليه، كحقيقة واقعة، أن يكتشف نفسه أولا، و هنا يكمن وجه الإختلاف بين "ميرسو" كامو و"روكانت" سارت. لذا، نجد كامو يكتب مرة ليؤكد إيجابية بطله فيقول:

"ليس من قبيل الخطأ ان حاولنا قراءة  "الغريب" بوصفها قصة عن انسان، خال مما يجعله بطلا، و مع ذلك فهو راغب بالموت من أجل الحقيقة. و إنه لمن المفارقة أن أقول مرة أخرى بإني حاولت أن أرمز ببطلي هذا الى المسيح الأوحد الذي نستحقه. و بعد تفسيري هذا، لا بد أن يكون واضحا بأني أقول هذا دون أي قصد بالتجديف، و لكن ليس دون هذا التأثير الطفيف للتورية التي من حق الفنان أن يستعملها للإحساس بما ينتاب الشخوص التي يخلقها.

لذا نجد أن "ميرسو" ، على خلاف "روكانت"، لا يحاول مطلقا تأكيد نفسه، و لا يتطوع للقيام بشئ. و لكي يحرره كامو من المجانية، فهو يوصف فنيا من خلال إستجاباته لمسائل يثيرها آخرون. و هذه الديناميكا يفتقر اليها "روكانت" بطل سارت. و تتكرر هذه الديناميكا مع بطل آخر لكامو في عمله "الطاعون The plague"، إذ نجد مدينة كاملة محكومة بالطاعون، يعيش فيها طبيب هو د. ريو، الذي يختار محاربته لوباء يجتاح المدينة إختيارا حرا، و ذلك بالبقاء في المدينة المطعونة من أجل "إنقاذ" ناسها. و لنلاحظ أن التناقض بين مقولات "الغثيان" و "الجزع" عند سارت، و  مقولات "إنقاذ" و "إختيار حر" ينسحب  على أعمالهما الأخرى الى هذا الحد أو ذاك.

          ختاما، إن فضيلة أدباء فلاسفة من طراز كامو و سارت يصح عليهما ما قلته مرة في مقالة لي عن ت. س. اليوت، في أنهم دائما يرتقون بنا الى حد  الوعي بالحافات الخطرة للهاوية التي يوصل البعض إليها مصير البشرية. فالعالم الذي يرينا إياه كامو ليس عالما عقلانيا، عالما نستطيع ان نعيش به الحياة التي نريدها آمنين، و إنما عالم  صغير ملقى به في اللامكان، و معرض لكل أنواع الشرور التي تقترفها قوى لا عقلانية، لا سلطان لنا عليها سوى ما نحلم به من عدالة، و محكوم علينا أن نعيش فيه بـ"جزع" و "قلق" و هما نتاج السقط meaninglessness و الإحباط frustration و الجدب futility التي نختبرها جميعا هذه الأيام في حياتنا نحن العراقيين.  فهل علينا، إذن، أن نعيش لحظتنا محاولين الوصول الى الحقائق الواقعية الصارخة للوجود الانساني، و أن نتعايش معها؟ و هل فعل كامو، يا ترى، أكثر أو اقل من هذا. و لكن . . . من أين لنا يا ترى قديس من طراز كامو يحدثنا، فيوقض فينا روحنا، دون إكراه من إله أثول و دون حديث عن القبور و النواح و الدجل و التحدث بإسم قوى لا وجود لها سوى في العقول الخرقاء!

   (ألقيت هذه المحاضرة في آذار 2009 في المركز الثقافي الفرنسي في بغداد في ندوة إستعادية لفكر آلبير كامو الفلسفي و أعماله الأدبية)  ... أستقيت هذه المحاضرة من المصادر التالية:

1 –  Areson, Arnold Camus and Sartre,
2 – Wikipedia, free encyclopedia, Jean-Paul Sartre,
3 – Lane, Bob. Albert Camus: The Absurd Hero, wikinfo.
4 – Sartre, Jean-Paul, Being and Nothingness  
5 – "الغريب" البير كامو
6 – "اسطورة سيزيف" البير كامو
7 – "الطاعون" البير كامو
8 – "الغثيان" جان بول سارت
     

     

هناك تعليق واحد:

  1. كتبت تعليقا طويلا عن الموضوع لكن حذف بالخطا للاسف لذلك ساكتفي بتشكر و تحية حضرتك على المقال الرائع

    ردحذف