بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

لماذا دارون؟


On Evolution Theory …
Why Darwin?
By: Richard Lewontin … Translated By: Ahmed Khalis Shalan
في نظرية التطور ...
لــمــاذا دارون؟
ريـتشـاد ليونتِن ... ترجمة: أحمد خالص الشعلان
Charles Darwin
 R. Lewontin
 A. Kh. Sahalan
مراجعة في أربع كتب هي:
1-  "أصل الأنواع لدارون: سيرة حياةDarwin’s Origin of Species: A Biography " لكاتبته جانيت براون Janet Brwone
2-  "أصل الأنوع مع هوامش: صورة طبق الأصل للطبعة الأولى من كتاب في أصل الأنواع On the Origin of Species  لتشالس دارون" كتب الهوامش جيمز ت. كوستا James T. Costa  
3-    "لِـمَ يُعدُّ التطورُ حقيقةً  Why Evolution Is True" لكاتبه جيري أ. كوين Jerry A. Coyne
4-  "يتطلب الأمر خارطة جينية: ما يصيبنا من إعتلالٍ بسببِ الصدامِ بين جيناتنا و حياتنا في عصر الحداثة  It takes a Genome: How a Clash Between Our Genes and Modern Life Is Making Us Sick" لكاتبه ﮔـرَيـﮒ ﮔـِبسُن Greg Gibson
حين كنت تلميذأ، أُجبرت على رفض " نظرية أنف كليوباترا Cleopatra’s Nose Theory" عن التاريخ، و الذي سميت كذلك بعد إشارة باسكال Pascal في مخطوطته Pensées التي قال فيها "أنف كليوباترا: لو كان فقط أقصر قليلاً لكان كل شئ في العالم قد تغيَّر". و كانت الغاية من هذه الملاحظة ليست للإستغناء عن السيرة الذاتية بوصفها طريقة لصياغة السرد التاريخي، و إنما لرفض سيطرة فكرة أن للخاصيات و الأفكار، أو الأفعال لشخص معين كانت الشروط الضرورية لإستمرار سرد الأحداث في العالم. و لو لم يكن جوزيف جاكاشفيلي Josef Djughshvili قد ولد قط، لكان بإمكان أي شخص آخر أن يغدو ستالين Stalin.
و على الرغم من النصيحة، فإن قدراً لافتاً من تاريخ العلم كان قد كـُتِبَ من خلال وسيط هو السيرة الشخصية لعلماء "مرموقين great" الذين نـُدينُ نحن لمكتشفاتهم الفذة في فهمنا للعالم المادي، و لقد قام هذا المنهج التاريخي بتعزيز الفكرة القائلة بأن التاريخ يصنعه الأفراد المتميزون. و ليس من مؤرخ يحترم عمله بإمكانه أن يزعم بأنه لو لم يكن نيوتن Newton قد ولد، لكنا بقينا جهلاء بالجاذبية الأرضية. و مع ذلك، فما نزال نشير الى الإطراد العام general regularities في الوراثة البسيطة بتسمية "المندلية Mendelism" و الى علم النشوء السيري biographical evolution بتسمية "الدارونية Darwinism". و حتى تاريخ العلم المشهور الذي كتبه الماركسي ج. د. برنال J. D. Bernal ما هو إلا إعادة إعتبارٍ للإكتشافات و الإبتكارات التي أنجزها أفراد individuals.
و لن يكون صواباً أيضاً إذا قـِيلَ أن السيرة الشخصية هي الطريق الوحيد، أو الرئيس، الذي يوفر لنا فهماً لتاريخ العلم. و نحن على يقين بأنه منذ تأسيس روبَت ميتن Robert Merton للدراسات الحديثة الخاصة بسوسيولوجيا العلم sociology of science في عمله المنجز عام 1938 عن العلم الإنــليزي في القرن السابع عشر، و هو البيئة التي نشأت فيها مشكلات العلم و نشأت فيها البنية التأسيسية للبحث العلمي التي غدت المحور الذي يستند عليه فهمنا لتاريخ العمل العلمي. و ثمة، من ناحية أخرى، مناسبات لإحتفالات نفرط بإحتفاءٍ وثنيٍ بحياة بعض الشخصيات المشهورة، حين أذهلنا المثال السوتوني Suetonian [1] للتاريخ بوصفه سيرة ذاتية.
و بالنسبة للدارونيين، فعام 2009 هو سنة إحتفاء من هذا النوع.
و تمر في عام 2009 الذكرى المئوية الثانية لميلاد دارون، و أيضاً، سواء أكان بالصدفة أو القصد، لأنها الذكرى المائة و الخمسون لظهور كتاب دارون "في أصل الأنواع On the Origin of Species" و كان عمره خمسين عاماً. و أنه ليس واضحاً لنا في أي الأوقات يجب أن تظهر لنا مثل هذه الأحداث المهمة. فأنا نفسي كنت مشاركاً في ندوة عالمية في الذكرى المئوية الأولى لظهور كتابه "في أصل الأنواع" عام 1859 و في الذكرى المئوية الأولى لوفاة دارون عام 1882، و كليهما حضرهما آنذاك عينة علماء العصر و تمخض عنهما الكثير من الكتب الإستعادية.
و مع ذلك، ليست أية واحدة من تلك المناسبتين قد تميزت بنتاج وافر عن "الإنبهار بالدارونية Darwinalia" التي تميزت به مناسبة عام 2009. و ثمة على منضدتي خمسة عشر عملاً التي ظهرت للتو، و أحد عشر عملاً منها سيرية biographical، بما فيها إثنين لمختارات من رسائل دارون، و كتابين عن كتابه "في أصل الأنواع"، و كتابين منهما مهتمين بتعليقات و تفصيلات توضيحية للبايولوجيا التطورية و تضميناتها، و لكن ليس ثمة بينها ما يتطرق الى تاريخ التفكير التطوري في حقبة ما قبل دارون و لا ما يتطرق الى معاصره ألفرد روسل والس Alfred Russel Wallace المبتكر المستقل المعترف به لنظرية الإرتقاء بالإنتخاب الطبيعي evolution by natural selection theory، أو للفكرة الإجتما-إقتصادية التي عمل عليها كلا العالمين دارون و والس. و بظرة أبعد من هذه المطبوعات، ثمة خطط لدرزينتين من الكتب الإستعادية عن علماء و مؤرخين و فلاسفة من ضمن العديدين الذين على المرء أن يأخذهم بالحسبان في العام التالي لكي يكون بإمكاننا وضع الإرتقائيون evolutionists في الجداول التي يستحقونها.
و من بين الكتب التي ظهرت هذا العام ما له علاقة مباشرة بالنظرية التطورية للقرن التاسع عشر، و إثنان منهما يستحقان التوقف عندهما. الأول هم كتاب جانيت براون الموسوم "كتاب في أصل الأنواع لدارون"، و هو رحلة قصيرة ممتعة في كتاب دارون و مقولاته و نشره و الجدالات التي أثارها. و تنتهي رحلة الكتاب بملخص قصير جداً لتاريخ علم الجينات الإرتقائي الحديث modern evolutionary genetics و محاولات عرض الإنتخاب الطبيعي عملياً في الطبيعة، مع زيارة سريعة لنظرية الخلق creationism  الحديثة.
و هذه المواضيع تستحق معالجة و الى مدى يكون فيه بعض المساهمين أو طلبتهم الحاليين ما يزالون على قيد الحياةو و هذا قد يجري بتعاون من مؤرخ مدقق  و مطلع من طراز براون مع أحد ما منغمس بها أشد الإنغماس. و عمل آخر من الأعمال التي يهتم بها قراء "في أصل الأنواع"هو نص ذو هوامش للطبعة الأولى من الكتاب، و هو نسخة طبق الأصل من النص الذي نشره دارون و بتعليقات موسعة صفحة فصفحة منه أنجزه جيمس كوستا. و يستفيد كوستا من مجال خبرته بوصفه عالم طبيعة و من معرفته بما صدر من كتابات حديثة في البايولوجيا التطورية لكي يلقي الضوء على بعض المقاطع في كتاب دارون.
لِمَ إعتدنا على تسمية نظرية النشوء العضوي الحديثة بـ"الدارونية"؟
لم يكن دارون، و بالتأكيد، هو الذي إبتكر فكرة الإرتقاء evolution، و ذلك بسبب التغيير المستمر الحاصل بمرور الزمن في حالة بعض المنظومات بوصفه خاصية أساسية للمنظومة المعنية، أو حتى في الفكرة القائلة أن عملية النشوء كانت قد ظهرت في تاريخ الحياة. إن دراسة نشاة الكون بذاته كانت قد ظهرت في مخطوطة كانت Kant الموسومة "الأسس الميتافزيقية للعلم الطبيعي  Metaphysical Foundations of Natural Science" الصادرة عام 1786 و فرضية لابلاس Laplace السديمية في عام 1796. و كان قد نشر عام 1824 قانون سادي كارنوت Sadi Carnot الثاني الخاص بالديناميكا الحرارية thermodynamics و القائل بأن الفروق الحاصلة بين فُتات الطاقة  و أجزائها جميعها معرضة للنقصان بمرور الزمن. و على الرغم من الفكرة القائلة بأن التشكيلات الجيولوجية المتنوعة الملاحظة على كوكب الأرض لم تكن ناجمة من كارثة فريدة من نوعها أو من فيضان عظيم، فإن ما ينجم عن العمليات الجيولوجية المتواصلة ما يزال مستمراً حتى اليوم، و كانت هذا الفرض قد ظهر قبيل نهاية القرن التاسع عشر من قبل جيمس هوتن James Hutton، بل و حتى قبله في عام 1859.
و عشية ظهور "في أصل الأنواع" كانت العلوم الفيزياوية قد أصبحت إرتقائية بعمق. و إذ ما عاد يُنظَرُ الى الكائنات الحية بوصفها إستثناءً، ففي عام 1769، حمل دايدانوت Didernot تساؤل فيلسوفه الحالم دالامبغت d’Alembert عن أي الأجناس من الحيوانات سبقتنا في التطور و ما الذي سيلي جنسنا. و بذا كان قد وفــَّرَ الشعار لظهور مبدأ الإرتقاء evolutionism بوصفه وجهة نظر عن العالم: "كل شئ يتغير، و كل شئ يمرّ. و لا يتبقى شئ غير المجموع الكلي totality"و كان إراسموس Erasmus جد دارون قد أيقظ ربـَّـتَهُ الموحية Muse في عمله الموسوم "معبد الطبيعة The Temple of Nature" لتقول له:
                        "كيف يتسنى لوردة آتية من الفوضى البسيطة
                   و الصياغات العضوية
                   لتتوقد في الحياة."
و تمضي الربة في إيحائها له لتكمل قصة الإرتقاء قائلة بأنه حتى:
                   " . . . الرجل الآمر،
                    المتحكم بالحشد البهيمي
                    . . . يأتي من بقايا بداءة التكـوُّن و الإحساس."

و في زمن دارون الشاب سرعان ما ستصبح فكرة اإرتقاء العضوي تياراً عاماً في الحياة الفكرية. و قبل سنتين من صدور "في أصل النواع" كان هربرت سبنسر Herbert Spencer قد تحدث بإيمانه بمبدأ الإرتقاء الطبيعي على أساس شمولية العمليات الإرتقائية المتفق عليها:

بات الآن معظم علماء فقه اللغة philologists يقرّون بأن تشكل اللغات م يجئ من أصول خارقة للطبيعة أو إصطناعية، بل جاء من طريق تطوري. و تواريخ الدين و الفلسفة و العلم و الفنون الجميلة و الفنون الصناعية تظهر جميعاً أن هذه لم تأت إلا عبر مراحل مرت بها . . . و إذا كان تمييز الإرتقاء بوصفه القانون  الذي يحكم العديد من ضروب مختلفة لظواهر ظلت تنتشر، أليس من الناسب أن نقول بأن . . . الإرتقاء سيجري تمييزه في الوقت الحاضر بوصفه قانون الظواهر التي نتحدث عنها؟

و إذا لم يكن دارون (و والاس) قد إبتكرا فكرة الإرتقاء أو تطبيقها على تاريخ الحياة، إذن على الأقل بالإمكان القول بأنهما إبتكرا نظرية تاريخية طبيعية لعلة هذا الإرتقاء. و مع ذلك، فهما لم يكونا أول من فعل ذلك. كان جين بابتست لاماك Jean Baptiste Lamarck في أعمال متتابعة ظهرت بين 1801 و لغاية 1809 قد قدم نظرية بايولوجية للإرتقاء العضوي التكيفي adaptive يستند على إرث مفترض للتغييرات التي تكتسبها الكائنات العضوية organisms في مجرى حياتها الفردية. و غالبا من يرد المثال على هذا بنمو طول رقبة الزرافة giraffe بوصوله الى ستة أقدام تقريباً الذي ورثته من أصلها الحيواني القديم الشبيه بالغزال deer-like. فإذا كانت الزرافات في اي من أجيالها تمد رقابها لتتغذى على أوراق الشجر العالية،  و إذا كان نمو طول الرقبة الطفيف هذا قد مرّ الى أسلافها، إذن، فقد تطلب الزرافة المرور بالعديد من الأجيال لكي يتحقق الأثر التراكمي الذي أدى لظهور شكل الزرافة الحديثة الإستثنائي.
         
          و كيلا يعـِدُّه قراء منشور "مراجعة نيويورك للكتبThe New York Review Books" ما نقوله هنا تكراراً لرأي بايولوجيٍ يائسٍ جاءنا من القرن التاسع عشر و بَطـُلَ زمانـُهُ، فلا بد من التذكير بأنه حتى قبل خمسة عشر عاماً كانت هيئة اللاماركية الجديدة neo-Lamarckian تنتسب لجامعة باريس المسماة Labroratoire d’Evolution des Etres Organises ما تزال تُجري بحوثاً في الإرتقاء تتعاطى بجدية مع إحتمالية توريث بعض الخصائص المكتسبة.

          و يرتكز  تفسير دارون- والاس للإرتقاء، في نظرية الإنتخاب الطبيعي selection theory natural على ثلاثة مبادئ هي:
1-  أفراد ضمن مجموعة يختلف بعضها عن بعض في الشكل لصفة معينة (مبدأ التنوع principle of variation)
2-  ذرية تمثل أباءها أكثر مما تمثل أفراداً لا صلة بينهم (مبدأ إمكانية التوريث principle of heritability).
3-  موارد محدودة ضرورية للحياة و إعاد الإنتاج. أفراد بخصائص مختلفة  و تختلف بقدرتها على إكتساب تلك الموارد و بذا تكون متمسكة بالبقاء و تخليف ذرية في الأجيال التالية (مبدأ الإنتخاب الطبيعي natural selection).


و إنه ليبدو مذهلاً أن يكون أثنان من الطبيعانيين naturalists قد توصلا كلاً على حدة للنظرية المُصاغةِ عن الإرتقاء منطلقين من إعتبارٍ لخصائص بعض الأنواع من الكائنات العضوية الموجودة في الطبيعة، و توزيعها الجغرافي، و نقاط مشتركاتها مع أنواع أخرى. و مع ذلك، يصبح هذا الإنذهال أقل حماوة على نحو لافت حين يؤخذ بالحسبان الوعي الإجتماعي و البيئة الإقتصادية التي نشأت بها النظرية، و هي بيئة متميزة بنهوض الراسمالية الصناعية الميالة للتنافس، بيئة ينشأ فيها الأفراد في مجتمع هرمي البنيان و يستند إفتراضياً على ملائمة أعظم للأفراد في جو المنافسة الحادة.

كان جوشيا وجوود Josiah Wedgwood جد دارون لأمه قد بدأ حياته كفخّار متدرب و نشأ ليكون عضواً في دائرة أصحاب نفوذ جدد في وسط إنـﮕـلترا الصناعية و بمعية جيمز وات James Watt و جيمز كير James Keir و ماثيو بولتن Matthew Boulton. و بينما كانت نظرية القرن التاسع عشر التي نطلق عليها "الدارونية الإجتماعية social Darwinism" و نجح البعض في إنهاضها في المجتمع و أخفق بعض آخر بسبب عناصر قوة أو ضعف شخصية، قد نكون أكثر توافقاً حول علة تاريخية تجعلنا نسمي الدارونية بـ"الرأسمالية البايولوجية التنافسية". إن البنية المُتصورة لإقتصاد تنافسي توفر لنا المجازات metaphors التي إنبنت عليها نظرية الإرتقاء.

          و بالكاد يستطيع المرء أن يتخيل أي شئ يسوِّغَ تأسيس نظريات إجتماعية و إقتصادية للثورة الصناعية و هو  يراوده تصور مفاده أن أشكال طبيعتنا البايولوجية ما هي إلا أمثلة عن قوانين االأقتصاد السياسي. و إلا فكيف سيكون علينا تفسير النجاح التجاري الفوري المتواصل لمبيعات كـُتُبِ دارون؟ فالطبعة الأولى من "في أصل الأنواع" و بلغت 1250 نسخة و إختطفها باعة الكتب فور صدورها. و أستشراف إهتمام الجمهور بالكتاب تَكشـَّفَ بالحقيقة بحصول مكتبة جوالة على خمسمائة نسخة من الطبعة الأولى. و الطبعة السادسة من الكتاب التي صدرت بعد ثلاثة عشر عاماً بـاعت 11000 نسخة. و حتى أن المرء ليس بإستطاعته أن يدرك أساس نجاح "في أصل الأنواع" الفوري خارج الحلقة الإجتماعية و الإقتصادية التي جرى بها تصور الكتاب و فهمه، و لا مؤرخي العلم أيضاً كانوا ليتجاهلوا مثل هذا السؤال. و صفحات المنشور "مجلة تاريخ علم الحياة Journal of the History of Biology" لم تكن لتخلوا من صفحات تهتم بهذا الموضوع. و فضلاً عن ذلك، فإن ما تزودنا به هنا في عام 2009 هو سيرة و هوامش عن "في أصل النواع". و لربما أزف الوقت لإُجراء تحليل إجتما-إقتصادي socioeconomic لإنشغالتنا بهذا الموضوع.  

          إن التوازي بين مقولات للإنتخاب الطبيعي و نظرية القرن التاسع عشر الإجتماعية و الإقتصادية، من ناحية ثانية، يفتقر الى تباعد مهم جداً بين دارون و الإقتصاد السياسي. إن نظرية النجاح التنافسي الإجتما- إقتصادي ما هي إلا نظرية عن نهوض الأفراد و مشاريع الأفراد بوصفه محصلة لتفوقهم الأصلح superior fitness. و لكن، حتى لو كانت الثورة الصناعية Industrial Revolution قد نجمت بالتالي، على الأقل في بعض البلدان، من نهوض عام للرخاء المادي، فإن عدد المنتجين الذين تميزوا بنجاح ساحق ظل محدودا جداً لأن نجاحهم يعتمد على جمهرة هائلة من العمال الناجحين. و ليس بالإمكان أن تكون أغلبية أية جمهرة كبيرة من السكان من رجال من طراز هـَنري كلاي فرِك Henry Clay Frick.
         
          و للمقارنة، إن نظرية الإرتقاء بالإنتخاب الطبيعي كانت الغاية منها تفسير التكيف البايولوجي و نجاحه في نوع من الأنواع بمجموعه  كمحصلة لإختفاء نوع أقل صلاحية. هذا، و لكن بشرط  ألا يصبح عدد هذا النوع كبيراً جداً بحيث يحتم الموارد التي يعتمد عليها، و ليس ثمة من سبب بنيوي يوضح لِمَ لا يمتع أي فرد من النوعي المذكور بصلاحية عالية. و إذا كنا نسعى لتبيان أصالة صادقة في فهم دارون و والاس، فإننا نجدها في قدرتهما فس تكييف نظرية الغاية منها تفسيرَ نجاحِ قلةٍ في إنتاج نظرية لتفسر نجاح أغلبية، حتى لو كانت هذه الأغلبية تخوض صراعاً من أجل موارد لا يتوفر منها إلا القليل. و سواء أكانا واعيين بتباعدٍ حاصلٍ بين نظرية الإرتقاء بالإنتخاب الطبيعي و نظرية السيطرة الإقتصادية الإجتماعية، فهذه مسألة تستحق النظر.

          و على الرغم من الشغف الأولي بنظرية الإرتقاء بالإنتخاب الطبيعي، يوجد بها أيضاً نقطة ضعف عميقة في الطريقة التي جرى تصورها في القرن التاسع عشر، و كانت نقطة الضعف الكامنة تلك مـُغويِةً و هي إفتقارها الى فهم مبدأ التوريث heredity. و كانت هذه النقطة قد أثيرت أول مرة في 1867 من قبل مهندس أسكتلندي هو فليمنـﮒ جينكن Fleeming Jenkin، و لكنها لم تكن لتبدو ذات تأثير حاسم. فمن الملاحظات التي سجلها دارون (و مربو الحيوانات و الزارعون) عن الحيوانات و النباتات المحلية، أظهرت المعلومات أن أساس توريث الخواص يأتي تقريباً من مزيج من دفق داخلي internal fluid متغير. فمثلاً، إذا جرى تزويج نوع كبير الحجم بنوع صغير الحجم، سيكون الناتج وليداً متوسط الحجم.

          إن المشكلة القائمة هي إذا ما تواصلت آلية التوليد من طريق التوليف blending، سيظهر أفراد مختلفون من الأنواع التي قد تختفي بسرعة من خلال تزويجها بالنوع المعروف السائد. و لنفترض ظهور فرد مختلف كبير بحجمه عما هو معروف عن الحجم المعتاد. سيكون بالضرورة تزويج هذا الفرد المختلف حجما من فرد بالحجم المعتاد normal و بذا سيكون الناتج فردا متوسط الحجم بين الإثنين.  و حين يجري تزويج الأفراد القلة الموَّلدين بحجم متوسط فيما بينهم سيكون الناتج و على نحو واسع من الأفراد المعتادين  بحيث أن الجيل القادم من الأسرة سيكون أقرب حجماً الى الحجم المعتاد. و بإستمرار التخفيف من الحجم على هذا النحو الى عدد من الأجيال لن يكون بالإمكان إكتشاف إختلاف بالأفراد الذي يصلح لعمل مبدأ الإنتخاب الطبيعي، حتى لو ظهر فرداً بحجم أكبر يتمتع بمزية الإنتخاب. إذ تبين أن تضاؤل الأفراد المختلفين حجما الى النصف مع ظهور كل جيل جديد يتمتع بقوة  تفوق قوة أية ميزة موازية معقولة بايولوجياً في صلاحيتها لإعادة الإنتاج.

          إن الآلية الدارونية، في الحقيقة، قد لا تعمل في عالم من التوليف التوريثي. و دون أن يدري دارون، و والاس، و أيٌ من المتحمسين للزعم القائل بالإرتقاء من طريق الإنتخاب الطبيعي، ثمة عمل قام به راهب في كونجنكلوستر- برونو - مورافيا Konigencloster-Brono-Moravia جاء لينقذ النظرية. ذاك العمل تمثل بتجارب ميندل Mendel على حبيبات البازاليا التي أظهرت أن التوريث لم يكن ليستند على توليف في مادة شبه سائلة fluid-like، و إنما على أساس مرور جزيئات particles تظل محتفظةً بخواصها الفردية حتى لو جرى مزجها سوية بالتهجين hybrid. و هكذا، سيتسنى للأفراد المختلفين إعادة الظهور في أجيال تالية حتى لو أن ما نسميه الآن بالجينات لأولئك الأفراد المختلفين قد جرى مزجها مؤقتاً بجينات الأفراد المعتادين في عملية تهجين.

و لربما لم تكن مجلة "جماعة برون للعلوم الطبيعية Brunn Society of Natural Sciences"، التي ينشر فيها ميندل أبحاثه، قد قـُرِأت من لدن المؤسسة العلمية الإنكليزية و لا بالتأكيد من لدن أي شخص في المراكز الرئيسة للعلوم الطبيعية الموجودة في القرن التاسع عشر. و لم يكن ليحصل إلا عام 1900 فيعاد إكتشاف أعمال ميندل بوصفها محصلة لحصول نتائج علمية جديدة حول النباتات المهجـَّنة crossing plants. و و إذا أردنا أن نتحدث بعدالة تاريخية حقة، و أردنا أن نشخصن تفسيرنا المحدث للإرتقاء فيجب علينا ألا نسميه بـ"الدارونية" و لا حتى بـ"دارون- والاسية Darwin-Wallacism" و إنما نسميه بـ"دارون- والاس- ميندلية Darwin-Wallace-Mendelism ".

إن فهمنا المعاصر للإنتخاب الطبيعي في فرص المتعرض للتغيير chance variants -  متعرض للتغيير يأتي من خلال طفرة mutation – بوصفه الأساس لإرتقاء تكيفي قد يعرِّضُ للإغماض الحقيقة التاريخية القائلة بأن مبدأ الإرتقاء في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر كان قد قـُبِلَ بوصفه أمراً واقعاً و ما التفسيرات العلمية الأخرى للإرتقاء لم تكن لتـُوجد إلا للتنافس مع "الدارونية". و كانت نظرية لامارك عن توريث خواص مكتسبة acquired characteristics مفهومة بالتأكيد كما لو أنها تجهل أساس التوريث، مع أنها كان لا بد لها أن تُفهم، بطريقة ما، كونها تتميز تقريباً بكمال يفوق كمال نظرية دارون ، و بدقة نقول، لأنها كانت تستند على، و تتضمن نظرية محددة في التوريث. و لقد ظهر تحدٍ مباشر لدارون عام 1860 في مقالة في المجلة الوجيهة الموسومة "مراجعات إدنبرة Edinburgh Review". و على الرغم من كونها ظهرت غفلةً عن إسم كاتبها، إلا أن المقالة تحظى بمعرفة أن كاتبها هو ريتشاد أوِن Richard Owen، و هو عالم حيوانات zoologist ذو شهرة و مكانة يـُعتد بهما، و كانت محاضراته الموسومة "مقالات في الصيد Hunterian Lectures" عن علم الحيوان تحظى بحضور الملكة فكتوريا بنفسها و حضور دارون أيضاً. و بإزدرائه الإستعراضي للجهلاء بِظنِ كونِهِ عالماً مجداً، يكتب أوِن عن دارون قائلاً:

لقد بات معروفاً منذ زمن طويل ... من خلال الملاحظات (يقصد ملاحظاته هو) التي تأخذ الألباب بإسلوبها ... و بوسائل مستقلة، بأنه يستغل وقته إستغلالاً كاملاً لمواصلة بحوثه في الإرتقاء ... و هو الأسلوب نفسه الذي عرف به السيد دارون في أعماله المبكرة، و  بميل معين للإنجاز البارع ...       

و بقوله هذا، كانت النتيجة غواية "عددٍ، إن لم تكن أغلبيةِ، الطبيعانيين الشبان للقبول" بنظريته.

          و بغض النظر عن هجوم أوِن الشخصي، فهو قد أظهر، بصوابٍ، أن لا دارون و لا أي أحد آخر يعلم بما يدور في الظواهر التحتية للتوريث، و إن التطور الذي يحصل حقاً هو أن التحول transformation و التباعد بين الكائنات العضوية بفعل الزمن ما هو و ببساطة سوى تَجلٍ لقوانين خفية للتطور. و فضلا عن ذلك، إن الأنواع المتشابهة التي يزعم دارون أنها نشأت من جدٍ أعلى مشترك لم تكن سوى أفرادأ معرضة لتغيير تطوري نجم من إستجابة لبيئات مختلفة. و بذا، بات علي الإقرار بإني عند قراءتي لمقالة أوِن رِحتُ لأحني رأسي مرات موافقاً. و بالإطلاع على الجهل الذي يحيط بأساس العمليات البايولوجية خلال العام 1860، لربما نقرُّ أن أوِن كان على صواب.

          كيف لنا أن نفسر الفعالية الفائقة للعادة التي تحيط بالذكرى المائة و الخمسين لصدور كتاب "في أصل الأنواع"؟ يبدو أنه من غير المرجح أن نشهد حماساً في هذه المناسبة كقوة حماس الترحيب الذي لقيه صدور الكتاب، فبعد سبع سنين من الآن سيجري إحتفال مماثل بورقة ميندل، التي لقيت إحتفاءً متواضعاً بها في ذكرى صدورها المائة عام 1966. و مع هذا، إن علم الجينات يطغي على وعي الجمهور بمرحلته الجزيئية الحالية التي تتسم بإكتشاف المزيد و المزيد من الجينات التي لها علاقة بالصحة و إطالة العمر.

          إن السبب الأولي الذي جـُلِبَ الإنتباه به نحو دارون هو ما حصل في السنوات القريبة الماضية من تجدد في نظريات الخلق الآلهي للأرض و للكائنات العضوية التي تسكنها. و لقد كان العلم الطبيعي في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية قد أصبح الشغل الشاغل للدولة و لمعاهد التربية. و لقد أحدثت الإنفجارات فوق هيروشيما و ناكازاكي أصداءً في كل صفوف المدارس في أمريكا، و بعدها بإثني عشر عام ترددت أصداء الدورة التي لم يكن قد أكملها سبوتنك Sputnik حول الكرة الأرضية حين أغدق الكونغرس الأمريكي المال على معاهد العلم  الطبيعي الأمريكي، على وكالات الجامعات و الحكومة من قبيل المؤسسة الوطنية للعلم(NSF)    National Science Foundation و و المعاهد الوطنية للصحة National Institutions of Health. و كانت المحصلة الفورية لهذا هو خلق  ما سمي بـ"دراسة  منهج علوم الحياة Biological Sciences Curriculum Study" من لدن NSF في عام 1958  التي إلتأم حول طاولتها جميع مدرس الجامعات و المدارس الثانوية من أجل وضع منهج جديد لعلوم الحياة يدرَّسُ في المدارس.

          و النتيجة كانت تغييراً اساسياً في تدريس درس علم الحياة و بتركيز أقوى على موضوع الإرتقاء سواء في الكتب المقررة أو مباشرة في غرفة الدرس. و على الرغم من ظننا بأن محاكة سكوب Scope (مدرس بايولوجي سيق عام 1925 الى مكحمة ولاية تينيسي بسبب تدريسه لنظرية دارون المعارضة لقصة الخلق الإنجيلية - المترجم) قد حجمت تدريس نظرية الإرتقاء، إلا أن تأثيرها على التعليم كان ضعيفاً.  حين كنت طالب مدرة ثانوية أواخر الأربعينيات، لم تكن نظرية الإرتقاء تحتل مكانا في المنهج القياسي للعلوم و لا حتى في مدارس نيو يورك الثانوية، على الرغم من أن المدرسين كان لهم ملء الحرية لتدريسها. إلا أن سبوتنك هو الذي غيّرَ كل شئ.

          و مع ذلك، يتبقى ثمة جمهور واسعاً يلتزم بإعتقاد مسيحي راسخ حول قصة الخلق الإلهي للأرض و قاطنيها و غالبا ما قاد هذا الإعتقاد أهله لإتخاذ فعل سياسي. و بقناعتهم هنا بالحفاظ على الإنفصال بين الدولة و الكنيسة، فإنهم تبنوا نظرية علمية زائفة pseudo-scientific بتصميم ذكي و المصمم مجهول، بمحاولة لإدخالها الى مناهج المدارس تحت ذريعة الإنفتاح الفكري. و هكذا تشكل عند المجتمع العلمي إحساس محدد عنوانه التحصين، و كان أحد ردوده هو الإحتفاء بالذكرى المائتين لمولد رسولهم apostle للحقيقة القائلة بالأساس المادي للإرتقاء و الذكرى المائة و الخمسين لظهور كتاب الحقيقة gospel ، و كله من أجل مواصلة المعركة ضد التجهيل obscurantism. و اتـُخِـذَ كتاب جيري كوين الموسوم "لـِمَ يـُعدُّ الإرتقاء حقيقةً" سلاحاً ماضياً لخوض تلك المعركة.

          و يُـعـدُّ كوين أحد علماء البايولوجية الإرتقائية. و هو كتلميذه السابق هـ. آلن أور H. Allen Orr. كان  القائد في معركة إستيعابنا و فهمنا للتغيرات الجينية التي تظهر عند تَشَكـُّل الأنواع. و هدفه الأول من تأليف كتابه هذا كان لتقديم دليل لا يُـدحَضُ بأن الإرتقاء هو الحقيقة المادية لتاريخ الحياة على الأرض. و بإشارته الى نظرية الإرتقاء، أعلن بوضوح بأننا لا نعلن هذا من موقف ضعف لـلنظرية مظنون ببنائها العقلي المحكم الذي قد يلقي ظلالاً على صدقها و موضوعيتها، و إنما من إيمان قوي بحزمة متماسكة من الحقائق المعززة في الواقع المادي. و كان المؤلف في هذا قد نجح نجاحاً منقطع النظير.

          و النقاط التي كان فيها المؤلف أقل نجاحا، و هو الحال الذي يكون عليه عادة جميع المعلقين، هو في إصراره على صحة دليل الإنتخاب الطبيعي بوصفه العامل الحاسم في عملية الإرتقاء و إيمانه بقوته الإستدلالية و بالقوة نفسها التي ظهر بها دليل الإرتقاء. لذا، و في سبيل المثال، لقد أفسد اللعبة حين صرح كاتباً بأننا حين نختبر محصلة التغييرات الحاصلة في السجل الأحفوري، يكون بإستطاعتنا

أن نقرر فيما إاذا كانت محصلات التغييرات تتطابق على الأقل مع عمليات تكيفية تسير خطوة فخطوة. و في كل حالة، يكون بإستطاعتنا على الأقل إيجاد تفسير داروني مجدٍ      

          و لكن لو قلنا بأن مثالاً ما لا يكون تزييفاً للنظرية، ذلك لأنه بإستطاعتنا دائماً "إيجاد" (إختراع) تفسير مجدٍ يخبرنا عن مرونة النظرية و براعة مؤازريها أكثر مما يخبرنا عن الطبيعة المادية. و بالتأكيد، فهو في جداله الأخير عن نظريات الإرتقاء السلوكي behavioral يصبح شكاكاً على نحو مرضٍ عندا يكتب

إن إعادة البناء المتخيل للكيفية التي قد تكون نشأت بها الأشياء لا تـُعـدُّ علماً؛ لأنها ليست أكثر من حكايات

          و في الوقت الذي تُـعـدُّ فيها هذه المقولة جيدة بوصفها رداً على أولئك  الذين يزعمون وجود أشياءٍ معقدة جداً لا تستطيع نظرية الإرتقاء البايولوجي تفسيرها، فالمقولة تبيح لـ"نظرية" الإرتقاء الإنكفاء الى منزلة كونها معقولة و لكنها ليست حقيقة مادية لا تقبل الدحض.

          و بالطبع لن يكون ثمة أي شئ يستطيع كوين أن يفعله بخصوص الحالة. ثمة أمزجة مختلفة من "التعرف knowing" و نحن "نعرف know" بأن مفهوم الإرتقاء كان قد ظهر، في الحقيقة، بمعنى أقوى من الذي "نعرفه know" عن بعض الحصلات للتغييرات الإرتقائية التي جاءت نتيجة الإنتخاب الطبيعي. و على الرغم من هذه الظنون، فإن القضية تتلخص بأن كتاب كوين يظل بوصفه أفضل تفسير عام عرفته عن الإرتقاء، و بذا يستحق صفة "الكتاب الأكثر مبيعاً".

          إن واحدة من خصائص الإرتقاء التكيفي هي كونه عملية بطيئةً. و ثمة بالتأكيد حالات يكون فيها إن تغييراً جينياً مفرداً بإمكانه أن يدل على الفرق بين الحياة و الموت في بيئة ليست مشجعةً. و في الحالات الكلاسيكية التي يكون فيها الإفتجاء الإحيائي  mutation الذي ينتج كائنات متعضية جرثومية  pathogenic microorganisms تتميز بقابليتها على مقاومة المضادات الحيوية أو حالات الإفتجاء التي التي تتيح للنباتات الحقلية مقاومة الجراثيم، و مها، في سبيل المثال، الحشرات و مبيدات الأعشاب الضارة. و لكن هذه قد لا تصلح لتكون نماذج تمثيلية للطريقة التي تتكيف بها الأنواع، من طريق تراكم الطفرات، لأنها ذات تاثير محدود على تغييرات في توفير الغذاء و في تعديلات درجات الحرارة، ناهيك عن ألف صدمة قد يتورثها لبَّ النبات. إن الإختلافات الصغيرة المعتادة للوصول الى الأصلح بين الطـُرُز العرقيَّة genotypes غالباً ما تتجسد بتغيير إرتقائي لا يمكن ملاحظته إلا بعد مرور آلاف من الأجيال.

           و معدل السرعة المتأني هذا كان قد عرض الأجناس البشرية عبر              التكيُّف. ففي جيل بشري بمعدل خمسة و عشرين عاماً، كان ثمة في الغالب مائة جيل فقط منذ حقبة تاسيس الجمهورية الرومانية. و مع ذلك، فما تزال كبيرة في عددها تلك التغييرات الحاصلة في البيئة البشرية وسببها تغييرات في أنشطة البشر. تغييرات في وجبة الطعام، و في التوطن، و في شروط العمل، و في تلوث الماء و الهواء، و بخاصة الزيادة اللافتة في طول العمر، التي تحصل جميعاً من تعديلات alterations و إنحلالات breakdowns في آلية الجسم البشري متسارعةٍ في معدل التكيُّف الجيني.
أما عن التغييرات البيئية التي لها تأثير بعد عمر إعادة الإنتاج، فليس واضحاً بالتأكيد إن كان للإنتخاب الطبيعي العمل عليها. إن التعرض المستمر الى جرعات من الإشعة الشمسية التي ظهرت تأثيراها على رياضي ركوب الأمواج في سواحل كالفورنيا قد يدلل بالتالي على الإصابة المميتة بسرطان الجلد، غير أن الموت بالسرطان لا يظهر دائماً إلا بعد عمر إعادة الإنتاج، و بذا، لن تتوفر فرصة لعامل الإنتخاب بالظهور. و المحصلة العامة هي إن أجزاءً من البنية الجينية للإنسان لا تتواءم مع ظروف الحياة في العصر الحديث.

          و كان كريك جيبسن، و هو تلميد بارز في دراسة البنية الجينية للإنسان و تطورات علم الجينات، قد جمع سوية في كتابه الموسوم "يتطلب الأمر خارطة جينية" حالات نموذجية من هذا اللاتجانس في فزيولوجيا الإنسان الموروث من تحديات حاصلة في الماضي و تحصل الان بفعل التحديات البيئية المعاصرة. و كمحصلة لعمله السابق في علم الجينات و تطورها، لم يقع جيبسن في الخطأ الذي وقع به المنبهرون بالخارطة الجينية genomania حين إفترضوا بإن كل إختلاف تقع عليه عيونهم بين الأفراد هو محصلة للإمتلاكهم لجينات مختلفة. و هو منتبه جداً عند إصراره على وجود دليل للإستنتاج بأن بعض  الظروف المرضيَّة تكشف عن قصور جيني.

           و مع ذلك، فهو يعرض قضية مقبولة حين يقول بأن الحالة الحاضرة للخارطة الجينية البشرية توفر إحتمالية الشك بتأثير تحديات فزيولوجية و بيئية لم يواجهها أسلافنا البعيدون. إن التغييرات التي حصلت عادة في وجبات حقبة جامعي الغذاء سواء أكان حيوانياً أو نباتياً بإتجاه سكر ذي سعرات عالية كانت قد سببت شدّاً عظيماً في عمليات الأيض الكاربوهيدراتية carbohydrate metabolism. و في تعارض في الحياة المعاصرة يثير الفضول، نرى أن الناس في بعض المجتمعات البشرية، أفريقيا مثلا، يموتون و هم شباب أما بسبب العمل المرهق أو بسبب فقر التغذية، بينما نرى الناس في المجتمعات المتقدمة تكنولوجياً يموتون في عمر أصغر أما بسبب التغذية المفرطة أو قلة النشاط. و بذا، فنحن لا نعول على الإنتخاب الطبيعي لحل هذه المشكلة.

          و من هنا ، فإن أنف كليوباترا ليس هو الأنف الوحيد المتورط في هذه المسالة. و في "سيرة حياته" المختصرة، كتب دارون عن زيارته الناجحة للكابتن فتزروي Captain FitzRoy لغرض الترتيب لرحلته على السفينة بيغل beagle:

و بعد ذلك، حين أصبحت على علاقة وطيدة مع فتزروي، سمعت بأني أقحمت نفسي في مجازفة خطيرة قد تؤدي الى رفض قبولي على ظهر السفينة و ذلك بسبب شكل أنفي! فقد كان الكابتن مريداً متحمساً لـ"لافاتر Lavater"، بقناعاته القائلة بالإمكان الحكم على الشخص من ملامحه الخارجية؛ و بذا فقد كان يشك بأن أي شخص له أنف مثل أنفي لن يكون شخصاً ذا طاقة عالية و تصميم نافذ على السفر. و لكني أظن أنه بعد لأيٍ إقتنع بأن أنفي أعطاه تقريراً زائفاً.
               
و مع ذلك، فما كان سيحصل لو أن الأنف كان أكبر؟
        
                                 
                            



[1]  نسبة الى المؤرخ الروماني  سوتونس Suetonius

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق