An essay on
intellect …
Truth and Phantasm (2-1)
… The Scientific Intellect’s
Dilemma
Ahmed Khalis
Shalan
مقالة
في التفكير ...
الحقيقة والوهـم (2-1)
... محـنة الـعقل العلمي
أحمد خالص الشعلان
A. kh. Shalan |
الخرافة . . بوصفها مصطلحاً، لها معان عدة، و أحياناً
بتفصيلات إضافية لهذه المعاني.
و الخرافة . . قد تعني الإعتقاد
أن الكثير مما يقوم به البشر، أو مما يقوله الناس، أو أعداد معينة أو أرقام معينة،
أو بعض ما يُدرك حسياً، بإمكانه أن يجلب للإنسان سعادةً أو شقاءً.
و قد تطلق مفردة . .
الخرافة . . مثلما يقول د. جميل صليبا في "المعجم الفلسفي"، على أي إعتقادٍ
باطلٍ أو ضعيف.
و قد ينعت بـ . . الخرافة .
. أي مبدأ أو مذهب يبالغ في تمجيد مسلماته، بحيث تخرج عن نطاق المعقول دون إعتبار
لأي نظر أو قياس . . و هنا لا بد أن نذكـِّر بأن أي شعور ديني ينأى بنفسه عن الغاية
التي سعى اليها الدين، منذ أن فاض من نبعه
الأول المجرد من أية غاية نفعية بوصفه خوفا من المجهول، بإنقلابه الى مجرد تكرار لعبادة
يؤديها المرء بأفعال أو حركات أو شعائر أو طقوس يعتقد المرء، على الرغم من إقترافه
لشرور كثيرة لا تُغتفر، بأن تؤدي به الى عالم تـُغفر له فيه تلك الشرور، هو خرافة.
و يميل العديد من الفلاسفة الى الإعتقاد بأن العقيدة الدينية بوصفها تصور خاص
للمطلق، إن لم تنبني على العقل تصير حديث خرافة. و بذا، يكون . . العقل الخرافي .
. من الناحية الفلسفية، هو النقيض للعقل العلمي، مع أن العقل الخرافي ظلَّ يستفيد
من فتوحات العقل العلمي على مرّ حقب التاريخ مجددا نفسه بأهداب العلم.
* * * * * *
* * * * * * * * *
و أية حضارة كانت تريد أن تسلك الطريق الذي تظنه
صواباً، كان لا بد لها أن تتحول الى حضارة نقدية، بأن تضع تاريخها بأدق تفصيلاته
تحت مجهر النقد، لفضح كل ما يخالف العقل و الطبيعة في هذا التاريخ. و من هنا . . لم يكن
الفيلسوف إيمانويل كانت بعيداً عن الصواب، و لا مجافياً له، بوصفه أب الحداثة
في حضارة الغرب، حين كرَّس جُل جهده الفلسفي للتفريق بين الخرافة و الدين بوصفه
إيمانا بالمطلق و سعياً لبلوغ ذاك المطلق. و أول ما شرع الفيلسوف كانت في تبيانه هو
الحدود التي تتوقف عندها قدرات العقل البشري. و حصل ذلك في حقبة كان الجدال فيها ما يزال على
أشده، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، بين طرفين هما:
- العقلانيون
و هم أنصار المذهب العقلاني ممثلاً بالفيلسوف كانت و مهد له من قبل رينيه
ديكارت و باروخ إسبينوزا و آخرين، وهو مذهب و إن كان في صف الفلسفة المثالية لا
المادية، لكنه لا يقرّ بالحتميات الميتافيزيقية، و إنما يتبنى، في حل معضلات الإنسان
العقلية، منهجاً يستند على الرجوع الى منطق العقل وإحكامه.
- و في
الطرف الآخر نجد أنصار اللاهوت، الذين كانوا يدعون الى تقديس كل ما أتت به الكنيسة
(و بالتالي يصح على الظاهرة الدينية عموماً) من تفسيرات، وتصوير تلك التفسيرات على
أنها مسلمات نهائية، وخواتيم لا يجوز تجاوزها أو نقضها، أو نقدها، أو تفنيد
حججها، أو تسفيهها، مهما بلغت تلك التفسيرات
في موقفها من الانسان والكون من ضحالة، أو جهالة و تجهيل، أو سطحية، تتدنى أحيانا إلى حد السماجة، بحيث نرى أن بعض
الحيوانات أكثر نبلاً من غالبية المتدينين.
وحين أظهر إيمانويل
كانت محدودية العقل البشري وقصوره، صفق له رجال الدين آنذاك نشوة، ظانين أن ما أظهره
كانت الفيلسوف في جداله من إستنتاجات يعد
نصراً مظفراً للكنيسة، لأنهم حسبوا أن ذاك الجدال و نتائجه ما هو إلا شهادة على سقوط العقل من أحد أنصار
التفكير العقلاني. و ذلك، حسبما توهمه اللاهوتيون، بأن شهد شاهدٌ من أهل النزعة العقلية
(يقصدون كانت) على الحدود التي يتوقف عندها العقل، و لا يستطيع تجاوزها، و هي
بالتالي شاهد على قصور ذاك العقل. ولكن الفيلسوف كانت، بعد فرصة الحبور
الزائف المخدوع الذي تكرَّم به أرباب الكنيسة على أنفسهم، عاد من أجل أن يرتقي
بسجاله المعرفي مرتبةً أعلى، ليوضح بأن العقل هو جزء من نشاط و
وجود كلي هو المطلق. و كأننا به أراد أن يقول لهم، إذا كنتم تعلمون إذن أن العقل
هو . . جزء من كل . . و هو أيضا محدود القدرات، فـ . . كيف تريدوننا يا ترى أن
ندرك كلاً بجزء! . . و هذه المقولة كانت إحدى مقولاته الشهيرة و المعروفة بالمسألة
الكبرى للفلسفة.
وكأننا به أراد أيضا أن يقول لرجال الكنيسة آنذاك، كيف إذن تريدوننا أن ندرك . . كلاً . . كاملاً مكتملاً لا نقص فيه مثل
فكرة . . الإله . . مثلما تصفونه و تعني
عندكم المطلق . . تريدوننا أن ندرك المطلق الكلي الكمال بجزء ناقص ومحدود مثل . . العقل البشري . . الذي يتصف لا بالقصور
والمحدودية فحسب، بل وبالتفاهة أحيانا؟ .
.
قامت دنيا
الكنيسة آنذاك ضد إيمانويل كانت، ولم تقعد، إلا بعد ان آمنت المجتمعات الأوروبية بأن موضوع الإيمان بإله ما هو أصلا علاقة شخصية بين كائن أرضي
و كائن إفتراضي متعال من خلق الكائن الأرضي، و لا تحتاج إلى وساطات من أي نوع ،
سواء أكانت الكنيسة أو أي مدع آخر من أي نوع كان . . نبياً
أو قديساً! .
. و مع ذلك، فقد أثارت نتائج الفيلسوف كانت المنطقية تلك حفيظة رجال الكنيسة
ورموزها العليا فيما عدوه تحديا لسلطتهم و تهديداً لنفوذهم و مصالحهم، فأمر البابا
آنذاك قساوسة ذاك الزمان بإطلاق إسم "كانت" على كلابهم
نكاية بالفيلسوف، وإاحتقاراً للعقل الذي بيّن حدوده و إمكانياته هذا المفكر الفذ. و أمر
البابا أيضا، إنتقاما من الفيلسوف،
بحرمان إيمانويل كانت من جميع حقوقه الدينية والمدنية، ومقاطعته، وإنزال اللعنة
عليه أينما حل، والتشهير به إينما وجد، وحيثما، و وقتما، يكون ذلك ممكناً. ولم يكن
صدور مثل هذا الأمر من الكنيسة ضد الفيلسوف مستغربا حتى في ذلك الزمان من قبل قوى إجتماعية
متنوعة طالعة. فدوغمائية خرافة رجال ألكنيسة (أو أية سلطة دينية معاصرة لها آنذاك
في الأديان الأخرى) لا تتوقف إلا بعد ان تحيل الآخر المختلف عنها الى رماد، أو
بالأحرى إلا بعد ان تحيل العقل نفسه الى خراب، ثم ترفع رايتها مزهوة بفعلتها على تلة ذاك
الخراب. و لكننا، من ناحية ثانية، لا بد من أن نذكّر أن محاولة الفيلسوف كانت التوفيقية للخروج بالدين من فخ الخرافة، ما كانت
لتتيسر للفيلسوف، لولا بذور ألإصلاح الديني التي نثرها، في القرن السادس عشر، داخل
المؤسسة الدينية رجل دين ألماني إصلاحي كبير هو مارتن لوثر، و معاصره رجل الدين الآخر الفرنسي جون كالفن.
إذن، فبداية تحرير
الشعور الديني المثالي مجردا من أية وساطة المؤمن بالمطلق من الخرافة لا بد أن تبدأ
أولا من هناك من داخل المؤسسة الدينية!
E. Kant |
لم
يأبه إيمانويل كانت، من جانب آخر، بأية واحدة من تلك العقوبات والتحريمات، و إنما دفعه
ذلك، من ناحية
ثانية، إلى التمسك بمسعى فلسفي
عماده إقامة . . دليل أخلاقي . . على وجود الإله، من نوع لا ميتافيزيقي، لا يعتمد
على الحتمية الميتافيزيقية التي يتمسك بها رجال الدين، و لا يستقي دلائله من
أكاذيب و إفتراءات اي نبي أو قديس. وأراد كانت لهذا الدليل أن ينبع دون قسر من
ثنايا عقل الانسان وفطرته السليمة. و يقوم على القناعة التي تتطلب وجود مؤلف للكون،
و العالم الذي نعيش فيه جزءاً منه. و أراد الفيلسوف لهذا الدليل أيضاً أن تقتضي
وجوده ضرورة أخلاقية لا إملاءً ميتافيزيقية. و من هنا، فقد خصص كانت لهذا
المسعى بحثه الطويل الموسوم . . الدليل الأخلاقي على وجود الإله . . وهو يعني
بهذا، إن إعترافنا بوجود . . إله . . تمليه علينا ضرورة أخلاقية يدركها
الإنسان ذو العقل السليم دون وساطة من أحد. وهذا يعني أيضا إن إقرارنا بوجود مثل هذا الإله
لا يخضع لأيه حتمية ميتافيزيقية
تفبركها أية جهة مثل الكنيسة (أو أي معبد أو جامع أو مؤسسة دينية مهما كان نوعها) و
تحتمي بها متى ما أرادت هذه المؤسسة الدينية عند حاجتها لتسويق مصالحها الاقتصادية
و الطبقية. فضلاً عن أن ضرورة أخلاقية من هذا النوع عادة ما تمليها الحاجات الأسمى
للبشر و تطلعهم إلى التطهر من أبشع ما حملوه معهم و هم يخرجون من عالم الحيوان
الذي كان يوماً ما جوهر وجود أسلافٍ بعيدين إخترعوا كائنات ميتافيزيقية لا يرونها
بسبب جهلهم بنواميس الطبيعة.
كان مسعى الفيلسوف
كانت، في إنشائه الفلسفي لما أسماه
. . الدليل الأخلاقي . . على وجود الإله، ينصب بالأساس على تحرير الدين (و
معناه هنا الإيمان بوجود قوة مطلقة في الكون و السعي الى بلوغها والاندماج بها) من
الخرافة، والإرتقاء بموضوع الإيمان بوجود إله، من نوع ما، إلى مصاف يشغل فيها الإيمان
أعلى مراتب الوعي الإنساني. ولقد أراد بذلك ضمناً ان يسفـِّه دور الوساطة التفعية المصطنعة
(أشخاص أو شعائر) يدعيها البعض لنفسه بين الإنسان و الإله، الذي يسميه كانت بـ . . المؤلف الأخلاقي للعالم . . لأن تلك الوساطة
هي من الخطورة على الوعي، برأيه، بحيث أنها قد تتحول عند العامة الى رموز مقدسة،
تكون مصدراً لتكرار في ميل الإنسان الدائم لإستدامة إنتاج الخرافة و ما تتطلبه من
تهويل و تضخيم في سيميائتها، بخاصة بما يضفيه عقل العامة على
تلك الرموز من سجايا ليست موجودة في بنيتها، ويقوم ذلك العقل العامي
أيضاً لا شعورياً بالمقابل بإسقاط كل ما موجود في بنية تلك الرموز، مما يعده منافياً لمنظومة السلوك التي يؤمن بها العامي،
و التفسيرات المهيمنة على عقول العامة في زمن معين.
و
الحقيقة، لا غيرها، كانت هي الـشاغل الرئيس للفيلسوف كانت و غيره من الفلاسفة . . الحقيقة التي
مفادها إن العقل يفرض أشكال الإحساس
الخاصة به (في المكان و الزمان) على المعلومات الخاصة بالوعي، و ينظمها طبقا
لمقولات الفكر التي يؤمن بها، ما يؤدي بالنتيجة إلى تسويق حقيقة أخرى لا يمكن إغفالها
أو تجاهلها، و هي استحالة، أو صعوبة (إذا أردنا أن نكون متفائلين)، تحرير عقل
الإنسان من الخرافة. و من هنا . . إرتبطت، على هذا النحو أو ذاك، بمراحل الوعي الإنساني
المبكرة جداً،
أو لنقل بأول دفقة من هذا الوعي، بحيث صارت تشكـِّلُ جانبا من الإحساس الذي يتكون
منه العقل.
و من هنا . . صارت
الخرافة جزءاً مكوناً في بنية الوعي الإنساني، يتوارثها الإنسان جيلاً بعد جيل،
بسبب جهله بقوانين الطبيعة والكون عموماً. وما كان تقديس الإنسان في فجر تاريخه
لهذه القوى الطبيعية، و لما نتج عنها من ظلال شبحية تراوده في منامه، إلا بسبب
قوتها الغامرة وسطوتها، فكانت عند هذا الإنسان مبعثاً للخوف والقلق. و لم يكن في
هذا ما يمثل خطورة على وعي الانسان ومصيره وقدره آنذاك، أي في مراحل
وعيه المبكرة.
ذلك، لأن الإنسان، وعلى الرغم من كل تصوراته الخرافية الساذجة، ظل يعيش بإنسجام
شبه تام مع الطبيعة وموجوداتها، أي عندما كانت علاقته بالطبيعة مباشرة، بما تنتجه
له مما يسميه هو خيرا أو شرا، و لم يكن قد دخل بعد حقبة إغترابه عن
الطبيعة ليفكر فيها على أنها . . الآخر .
. الذي يتعامل معه.
ولكن مخاطر
الخرافة على عقل الانسان إبتدأت، من ناحية أخرى، في اللحظة التي شرع أحد ما، لغاية
نفعية أو لا نفعية، عفوية أو لا عفوية، بالزعم إنه قادر على التوسط بين الإنسان و
ما تصوره هذا الإنسان من قوة غامرة في الكون، أو الزعم بالتحدث بإسمها. فآنذاك، وآنذاك
حسب شرعت
الخرافة بالتدريج في التحول إلى بنية أفعوانية، دوغمائية، تسعى إلى تهشيم ما سواها. وأفلحت
أيضا بان تغدو لا مجرد تصورات رومانسية فحسب، ينشغل بها الإنسان وقت فراغه
للتسلية، أو لتطهير نفسه من مخاوفها حين يتحدث بها إلى من يجلس معه حول موقد النار
في كهفه، و إنما أيضا إستطاعت إن تغدو عقيدة آمرة مانعة بالتدريج بعد
أن تبناها أحدٌ له مصلحة بها، لكي تدر عليه ربحا و نفوذا، و تكون فيما بعد بيده سلطة
و قوة قامعة.
وهنا يكمن المغزى من سعي إيمانويل كانت الفلسفي الى تحرير الدين من الخرافة، ذاك
المسعى المتمثل بالبحث عن إمكانية الرجوع بعقل الانسان الى حالة الصفر. و هي
المرحلة التي لم يكن نشاط الانسان العقلي بها بعد قد إختلطت به تصوراته المشوشة
الأولى عن القوى الكونية الغامضة، وهي ما يسميه كانت بـ . . العقل الخالص . . ويعني بذلك العقل المكتفي بآلياته وغير المتأثر
بأية خبرة أو تجربة قبلية، تتدخل أو تشوب أحكامه عن الكون و الإنسان
وقدره ومصيره ومسارات فكره. إلا أن بحث الفيلسوف كانت عن . . العقل الخالص . .
تمخض آخر المطاف عن إستدلال ينفي إمكانية وجود مثل
هذا . . العقل الخالص . . لا واقعياً ولا فلسفياً،
و إنما على
المستوى النظري الإفتراضي البحت حسب. وبهذا، تكلل مسعى كانت بإدراك حقيقة
مهمة، هي أنه ليس في الإمكان وجود العقل الكامل غير المتأثر بأية
خبرة، أو معرفة، أو تصور مسبق يشوب أحكامه. ومن هنا جاءت مقولاته عن القصور الذي يسم العقل الإنساني، بسبب مكوناته المعنوية
القبلية. والخرافة هي دون ريب من هذه المكونات . . لكنه، من ناحية ثانية، أظهر أن بالإمكان
التقليل من تأثير التصورات والمفاهيم القبلية، ومنها الخرافة، على أحكام العقل من
طريق ما أسماه التدريب الأخلاقي.
*
* * * * * * * * * * * * * *
Espinoza |
لم تكن
محاولات الفيلسوف كانت في عقلنة وجود الإنسان هي الأولى من نوعها، فقد حاول قبله
فيلسوف آخر هو سبينوزا الذي أنتقد، في كتابه المعروف . . في اللاهوت والسياسة . . الأسس الخرافية
لمعتقدات الكنيسة و الكنيس اليهودي (وهي لا تختلف بكثير عن أسس الأديان
جميعاً دون إستثناء)، و إمتلأت بها صفحات العهدين القديم و الجديد، وعلاقة تلك المعتقدات
بالسياسة، والكيفية التي يجري بها ربط تلك المعتقدات الخرافية
اللامادية بشبكة
المصالح المادية، التي تتخفى وراء تسويق تلك المعتقدات الخرافية، والغاية التي
يسعى إليها ذاك التسويق، وهي الحفاظ على هيبة وغموض وقدسية
الرموز الدينية (شخوصاً وشعائر
وطقوساً) لدى العامة. والصورة هنا شديدة الوضوح، وهي أن ضياع هيبة وغموض
وقدسية تلك الرموز يعني قطعاً ضياع وتفتت المصالح المادية للناس القائمين عليها . و
هذا يفسر لنا سرَّ تخصيص مبالغ ضخمة هذه الأيام من لدن السعودية لإدامة شعائر الحج
التي تدرَّ عليها ما يعادل عشرة أضعاف تلك التخصيصات سنوياً، و سرً تخصيص مبالغ
طائلة في قم و مشهد و كربلاء و النجف لإقامة القباب المذهبة لإسحار العامة، لأنه
يدرُّ أموالا لا عد لها لأصحاب الشأن من المعممين، في و قت يجلس تلامذة المدارس
الصغار في المنطق المحيطة بأضرحة القديسين على تراب الرض يكتبون واجباتهم
المدرسية! . . و بالتالي فهو يفسر أيضا سر شراسة الخرافة في سعيها لتدمير
خصمها الفكري . . و يتجسد لنا بوضوح سعي أولئك المنتفعين من سيادة الخرافة للحفاظ
على حدود وعي العامة في أسار ما تمثله تلك الرموز من قيم أحس العقل الإنساني أنه
قادر، بوازع من دينامكيته الطبيعية المتمثلة بسعيه الى تجاوز عتبة الوعي الساذج للكون
والإنسان، على الإرتقاء بوعيه الذاتي، بحكم الضرورة أو
بحكم منطق الحياة، إلى
مراتب أرقى و أجدى للإنسان ولضميره ومسؤوليته تجاه الجنس البشري
الذي يمثل الحلقة الأعلى في تطور أنواع الطبيعة.
و سبينوزا الذي كشف لنا في كتابه المذكور أعلاه عن إبراهيم
الذي يسمونه أبا الأنبياء كونه ليس أكثر من نخاس يبيع النساء، لدرجة أنه وهب زوجته
سارة الى فرعون مصر على أنها أخته كي يتمتع بها الفرعون، لم يكن حظه مع سلطة
اللاهوت بأفضل من حظ خلفه إيمانويل كانت، إذ عمدت تلك السلطة الى حرمان سبينوزا من
كل ما تستطيع حرمانه منه من حقوق مدنية
بما فيها نشر أفكاره و معتقداته. و هذه هي المحنة الأزلية للعقل الساعي إلى الإفلات
من نير الخرافة، متمثلةً بقدره في إن يعيش غريبا، بخاصة حين كشف إسبينوزا بأن
شخصية إبراهم أبي الإنبياء لم تكن أكثر من نخاس يبيع النساء و المتاجرة برقاب
الناس.
من المدهش أن
نعلم بأن المعتزلة (قبل سبينوزا بحوالي عشرة قرون) كان لهم الفضل في بذر بواكير التفكير
الفلسفي العقلاني في فكر ما بعد ظهور الإسلام، متمثلة بإرهاصات أولى
لصحوة من السكرة التي أغرقهم بها الدين الجديد أبان تحوله إلى قوة غازية إحتلالية
إستغلالية تحت ذرائع شتى جميعها لا تمت الى الأخلاق بصلة. و ذلك، حين قام أولئك المفكرون المجددون
الأفذاذ بخطوة أولى لتأسيس منهج في التفكير، لو كان
تسنى له أن يبلغ غايته المنطقية على وفق تطور الوعي، لكان، و في وقت مبكر جدا
من تاريخ البشرية، قد أعطى ثماراً لا تختلف كثيراً عن تلك الثمار التي أتت أكلها
فيما بعد في منهجي الفيلسوفين، الهولندي سبينوزا و الألماني كانت، حين وضعوا (أعني
المعتزلة) تسلسلاً للمسلمات يحظى به
. . العقل . . بأسبقية على موضوع . . الإيمان بالله . .
و كأننا بهم
وضعوا . . العقل . . في مرتبة أرفع من مرتبة
. . الإيمان.
و ما يكمن في
سعي المعتزلة المضني والمتأني لتحرير موضوع . . الإيمان بالله . . من الخرافة والحتمية الميتافيزيقية، أنهم
كانوا قد وضعوا بذلك أولى بذور الشك الفلسفي، الذي يسعى بدوره الى تحرير العقل من مسلمات
كان هذا العقل قد وضعها لأسباب سايكولوجية و إجتماعية و إقتصادية وسياسية، فباتت تلك المسلمات تعيق تقدم
العقل إلى الأمام. و
ذلك، لأنها إذ
تسمح للعقل
بخطوة الى الامام، فهي تفعل ذلك لكي ترده فيما بعد خطوتين الى الخلف. ولقد كانت
الغاية النهائية للمعتزلة هي الخروج بموضوع . . الإيمان بالله . . من الظاهرة
الدينية وتفسيراتها النفعية الدوغمائية المحدودة الأفق إلى رحاب الحقيقة
الفلسفية. و لكنهم سرعان ما أۥجبروا، للأسف، على الوقوف في منتصف
الطريق، و ضاعت جهودهم في مسعاهم المعرفي ذاك و كأنها سراب، نتيجة الضربات المادية
و المعنوية التي تلقوها، ناهيك عما لقيه العديدون منهم من قمع و قتل منذ نشأة
منهجهم التجديدي في الفكر أبان العهد ألأموي و حتى حقب العصر العباسي الذي تلاهـ
لأنظمة لا تكل من قراءة سورة "لا إكراه في الدين"!
R. Descartes |
و
على الرغم من إن حظ المعتزلة في مسعاهم لم يكن بأفضل من مسعى مفكرين من طراز إسبينوزا
و كانت. غير إن محاولات العقل للخروج بالظاهرة الدينية الى رحاب الحقيقة الفلسفية
لم تتوقف بإضطهاد المعتزلة. فالمرء بإمكانه إن يتنفس أريج مثل تلك المحاولات في
فضاء المنطقة المحكومة إسلامياً حين يقرأ . . إبن رشد . . الرازي
. . فلاسفة آخرين مثل . . أخوان
الصفا و خلان الوفا . . و حين يقرأ أيضاً المعري وعمر الخيام و عدد كبير من
الصوفيين الذين ضاقوا ذرعا بالمبالغة السمجة لتقديس ما لا يستحق التقديس. و هم
جميعا كانت غايتهم، دون شك، الخروج على أطر الدين المسيس، و بالنتيجة الخروج
بالعقل من قيود وضعت عليه لا علاقة لها بموضوعة . . الإيمان بالله . . وإنما لها
علاقة بالمشروع السياسي ونظام الحكم اللذين أرسى الاسلام السياسي أسسهما منذ
بواكير الدعوة الإسلامية.
وما يزال
الفضاء العربي الإسلامي يفرز عقولاً تحاول الإفلات من أسر الخرافة و
التفكير الخرافي، ولكنها ما تزال مجرد محاولات فردية لم يقوَ عودها بعد، لتكون تياراً فكرياً.
و من هنا، لم
يكن أمام العقل إلا أن يعمل الكثير، ويتحمل الكثير قبل أن يبلغ مرحلة
المعادل الموضوعي الستراتيجي لفكر الخرافة، لكي يقدر
فيما بعد على تحويلها إلى مجرد حكاية، مثلما حصل في مناطق كثيرة من العالم. وسيبقى العقل في هذه البقعة
من المعمورة يرسف تحت قسوة القوة القسرية للأصولية الدينية التي هي جحر الخرافة
الفاغر فمه دوما لإنتاج خرافات وليدة، بخاصة بعد إن تسربلت هذه الخرافة بسربال
السياسة، فصار أنصار الخرافة من الأصوليين على إختلاف طوائفهم، يختصون بمزيتين؛
دوغمائية رجل الخرافة، و ديموغاغية رجل السياسة. وفي ظل أجواء مثل هذه، يلاقي
العقل في حمأة فعله للإفلات من الخرافة عواقب دراماتيكية. فهو إما مضطر للإستجابة للقسر فيستلين
بـ . . الاعتزال . . و الأمثلة المتاحة على هذا كثيرة، منها تطليق الزوجات من ذوي
العقول المتحررة من الخرافة (مثالها حالة عالم اللغة المصري المعاصر حامد أبو زيد)،
وتكميم الأفواه، والإعتداء على النساء الحاسرات الرؤوس أو مضايقتهن،
بل وحتى إغتصابهن و كأنهن سرائر، و أما أن يلاقي العقل المصير الذي لاقاه أصحاب مئات المحاولات
المماثلة على كرّ القرون في دفعهم حياتهم ضريبة لما يفكرون به. فهل يجوز القول بان الخرافة تمكنت من عقل الإنسان
في هذه البقعة من المعمورة لدرجة بات معها خروجه من وحلها نادراً، إن لم يكن
مستحيلاً، دون فعل دراماتيكي مرعب في سياقه ومحتواه؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق