An essay on
intellect …
The Narrow-minded: The Hammer of Superstition and the Anvil of Truth
Ahmed
Khalis Shalan
مقالة
في التفكير . .
العقل المؤطر ... بين مطرقة الخرافة و سندان
العقل
أحمد خالص الشعلان
A. L. Tennyson |
A. Kh. Shalan |
من ميزات العقل البشري
أنه . . ما أن يتحرر من المبررات التي يختلـِّقها لأفعاله المضادة لطبيعته، يروح
بالمقابل دؤوباً يبحث عن آفاق جديدة يشبع بها حاجاته الى المعرفة. و كلما إصرَّ
العقل على تحرره من مبررات يخلقها إضطراب حاصل في بوصلة وعيه تطوره العقلي، إتسع
أمامه الأفق الذي يرضي عنده نهمه الى المعرفة. و العقل المتحرر هذا، في توقه
المتواصل الى الإستزادة من المعرفة، يشبه الى حد بعيد عقل يوليسيز بطل الشاعر
الفرد لورد تينسن في قصيدته المعروفة "يوليسيز"[1]. إذ يصور تينسن يوليسيز على
خلاف ما تمثلته ملحمة الأغريق "الأوديسة"، إذ نراه فيها مكبلاً بأقدار
الآلهة و أطرها الخرافية، بأن أظهره تينسن تواقاً للحرية و المعرفة و إقتحام
المجهول بكل المعاني و المستويات، واضعاً (تينسن) إياه بمصاف الآلهة يتحكم بقدره
مثلما يريد:
Death closes all; but
something ere the end,
Some work of
noble note, may yet be done,
Not unbecoming men
that strove with Gods.
الموت ختام كل شئ؛ لكن
مأثرةً ما قبل الختام،
لا بد أن تُجترَح؛ صنيع من نوع نبيل، هو
ألا نظل رجالاً قاتلوا في صف الآلهة.
و يذكرنا هذا . . بصرخة آلكزندر
بوب في حقبة سميت بـ"عصر العقل" أطلقها بوجه العقل المؤطر:
Yet cry, if man’s
unhappy, God’s unjust;
If man alone
ingross not Heaven’s high care,
Alone made
perfect here, immortal there:
Snatch from his
hand the balance and the rod,
Re-judge him, be
the God of God.
يصرخ الإنسان التعيس محتجاً على جور الإله؛
و إذ لوحده لا يحظى الإنسان بالعناية الإلهية،
بيده لوحده أن يُصوِّبَ الأشياء هنا و يجعلها
خالدة هناك
فأُخطِف من يده الميزان و الصولجان
كن إله الإله، و إستَحِجَّهُ بالبرهان
و من هنا . . نجد الشاعر تينسن يصوَّرُ
يوليسيِّز صاحبَ روحٍ لا تكتفي سفينته
بالتوغل في عَرضِ اليَمِّ كي تدرك الأفق، بل تتقدم أبداً كي تجعل الأفق يتحرك أمامها،
فيزداد إتساعاً و انتشاراً، ما يجعل وعيه يرتقي درجات لا يتصوره عقل إنسان بقدرته
على إقتحام المجهول . . و هكذا حقق تينسن عملاً فنياً فائق العادة يرينا فيه الطريقة
التي يهشَّم بها عقل البطل أطُر المكان و الزمان التي وضعته فيها الأقدار و
الخرافة و الآراء المسبقة ليخلق امتداداً زمكانياً مدهشاً، لنقرأ هذه الأبيات:
………………………….,
Come my friends,
‘Tis not too late
to seek a newer world,
Push off, and
sitting well in order smite
The sounding
furrows; for my purpose holds
To sail beyond
the sunset, and the baths
Of all the
western stars, until I dies.
………………………………………………………
……………………………………………………..
…………………………………………………………..
………………………………………..;
and though
We are not now
that strength which in old days
Moved earth and
heaven, that which we are, we are—
One equal temper
of heroic hearts,
Made weak by time
and fate, but strong in will
To
strive, to seek, to find, and not to yield.
...............................،
إليّ يا صحابي،
لم يفت الآوان بعدُ للبحث عن عالم جديد،
كي نبحر، فأثبتوا متراصين لتشقَّوا
صفحة المياه؛ فما يخطر ببالي هو
إبحار متواصل الى حيث تغيب الشمس؛ و حيث تستحم
جميع نجوم الغرب[2]، تشاركونني فيه حتى مماتي.
.......................................
........................................
..........................................
.........................، و مع أننا
لسنا اليومَ بقوة أزمانٍ غابرةٍ
زعزعت آنذاك الأرضَ و السماءَ، إلا أننا
من الطينة نفسها خـُلِقنا، بقلوب لا تعرف الخوف
و مهما أضعفتنا الأيامُ و الأقدارُ، ما تزال أقوياءً
الشكيمةِ
لنبقى، و نبحث، و نكتشف، ولا نستكين.
و
على نحو المثال الذي أبدعه تينسن في "يوليسيز"، هل يستطيع أي عقل كان التحرر
من الأطر التي وضعته فيها الأقدار في قلب الخرافة؟
و
الجواب قد يكون . . ربما، و لكن نادرا جدا!
* * * * * * * * * * * * * * * * *
الأطرُ
. . هي أشدُّ أعداء العقل ضراوة، بخاصة إذا كان صاحب العقل من نوع يرنو الى ذرى مثالية
في التفكير لكي ترفع من قيمة عقله و شخصه و أفكاره. فالأطار كان دوماً سمة العقل
المنغلق على فعالياته، لأنه يشبه الصورة الموضوعة في إطار، فإذ تبيح هذه الصورة
نفسها للرائي حسياً، و لكنها ترفض أيةِ إضافة مادية آتية من خارج الإطار، إلا إذا
كانت تلك الإضافة إطاراً آخر يضاف داخلها، و يـۥضيّق مساحة الفن فيها، أو
إطاراً يضاف الى خارجها، قد يزخرف مظهرها
الخارجي و لكنه يقلل من حجم التوازن الموجود في حيزها الفعلي!
فالعقل المؤطر، إذن، حاله
حال الصورة التي يهرِؤُها الزمن، فتتآكل بمرور الوقت، و تغدو غير قادرة على أن
تتيح لنفسها التجديد، ما لم يكن في صلب موضوعها و تشكيلها ما يمنحها جدل الحياة
المستمر المتواصل الى ما لا نهاية، و إلا فستضطر الى الإقتيات على ما موجود من
حيثيات داخل الإطار. و بذا، تكون المحصلة نضوباً مستمراً لما في حيزها من طاقة
معرضة للنفاذ. و هذا يعني، من جانب آخر، فقدان تدريجي بمرور الزمن لخصائص المرونة و
الطراوة و إنتفاء الموضوع ما يفضي آخر الأمر الى نوع من تحجر . . و الحجارة تصبح
تاريخاً!
و
بخلاف يوليسيز المتجسد تجديداً في قصيدة تينسن، الذي تزداد حواسه إنتباهاً و تفتحاً
كلما تقدمت به سفينته الى آفاق جديدة، نجد صاحب العقل المؤطر معرَّضاً الى أن
يتحول الى كائن يسير معصوب العينين، معرضاً للنكوص، إذ لا شئ يوجهه سوى مقولات (دوغمات)
حفظها عن ظهر قلب. و ما أن تفقد تلك المقولات قيمتها بفعل التطور الحاصل في
الطبيعة و المجتمع، ستتحول تلك المقولات الى كمية من الحصى يتلاطم في قحف جمجمته،
لدرجة أن ضجيج تلاطم ذاك الحصى يصير النغمة الوحيدة التي يُسعد بسماعها صاحب العقل
المؤطر على شكل صلاة أو شعيرة أو تقديس لصنم.
و
من صفات العقل المؤطر . . الجهل بجوهر ما يدور من حوله، لأنه ميّالٌ الى تصنيف
الأحداث من حوله في أنماط تتماشى و حاجات الدوغمات المهيمنة عليه. فالمرء السوي،
لكي يصدر حكما منطقيا على الأحداث من حوله، يتطلب الأمر منه إلماماً بمعرفة وفيرة
عن ظواهر الأحداث و القوانين غير المنظورة التي تتحكم بالأحداث. أما العقل المؤطر،
فيجد من المناسب له أن يضع تصنيفات نمطية من أجل تبرير الدوغمات التي تتحكم به،
كأن يـۥسقِطُ عامداً الكثير من الحقائق التي تفرزها ظاهرات الأحداث على دوغماته
بعد ليِّ عُنُقِ تلك الحقائق التي تخص نواميس الطبيعة، كأن يسمح لنفسه بتصور للشمس
تعود به القهقرى من وقت العصر الى وقت الظهر كي يكون بمقدور قديسه أداء صلاة الظهر في وقتها، لأن صلاة
الظهر فاتته في وقتها الطبيعي لأنه كان مشغولاً بحرب أو مشغولاً بالتسرّي بجاريةٍ
مما ملكت أيمانه!
و العقل، بوصفه أبرز ظاهرة
تعالت بها الطبيعة على ذاتها، خاض عبر تاريخٍ يمتدُّ الى عشرات آلاف الأعوام، نضالاً
ضد الجهل و التحيز و الهوى. و الجهل و التحيز و الهوى هي صفات تطبع كل عقلٍ متعصبٍ،
بخاصة حين تسوقه هذه الصفات الى وضع تصنيفات فئوية مبالغ فيها، و تؤدي به بالنتيجة
الى إطلاق تعميمات لا سند علمي لها. و الأدهى من ذلك أنه يقع أسير أحكامها المسبقة
الإطلاقية، كأن يقوم هذا العقل بتجميع أفكار في خزينه لا يتسنى لها في أغلب
الأحوال تطابقاً مع الواقع الخارجي، أو مع الطبيعة. و ذلك، بأن تمهد الصفات المذكورة
الى خلق عالم من العفاريت و الجن و ما الى ذلك من الكائنات الوهمية القادرة على
الاختفاء، أو الغياب، عن العالم المادي دون . . طاقية إخفاء . . خيالية من تلك التي
تخلقتها العقلية العملية للانسان الحالم، بل و أحيانا يتمادى هذا العقل المؤطر و
يصور لنا، بإرادته، تلك الكائنات تخرج اليه كي . . يشرب معها الشاي! . . و . . يتزوّج بعضها من أخواته أو إخوانه . . و إذا
ما سايرناه، يروح حينئذٍ ليزداد تمادياً و
. . يزوِّج نفسه . . بتلك الكائنات
الخرافية، و يخلـِّف منها، بل و قد يحدثنا عن بنات و بنين له منها بتسميات من قبيل
. . علي و عمر و محمد و فاطمة و خديجة و عائشة . . لا نراهم نحن طبعا . . فهو وحده
الذي يراهم! . . و أحيانا يخبرنا أن تلك الكائنات الخرافية تبعث بسفراء أو ممثلين
أو ناطقين عنها! . . و سرعان ما يتحول كل ذلك الى مسلمات يريد منا تصديقها، و إن
لم نفعل فالويل لنا لأننا لا نصدق ترهات العقل المؤطر! . . و بصمات عمل المخيلة
السلبية للعقل المؤطر واضحة هنا. و لكن الفرق بين مخيلة من هذا النوع و مخيلة
الفنان هو أن عمل مخيلة الفنان مبني على خبرة فعلية موجودة خيوطها في الواقع، مهما
حاول أن يموهها الفنان و يتعالى بها و يجردها، في حين نجد أن عمل مخيلة العقل
المؤطر مبنيةٌ على هذيان يدور في الإطار! . . و قد تقرأ لصاحب عقل مؤطر كتاباً
سهرَ لأجله مئات الليالي من مئات الصفحات يلف به و يدور و يصوغ جملأ بآلاف الكلمات
يلويها ليّاً عن المطلق الموجود في الكون لكي يشكل ما يظنه مقولات فلسفية، تبلغ حد
السماجة في التكرار، مرادها آخر الأمر إثبات و جودٍ من نوع ما لجنة و نار وهميتين!
. . حصى يتلاطم قحف جمجمة و يتردد صداه عند العقل المؤطر!
و
التعصب بوصفه مثلما قلنا أحد النتائج الحتمية لجهل و تحيز و هوى العقل المؤطر، هو
الصفة التي يتميز بها غالبا التفكير اللامنطقي الميال للتعميم المفرط و الظلم
للآخر، كأن يبتدئ هذا العقل بتقديس شخص و تقليده في تفكيره و ملبسه و مأكله و
أشياء أخرى، و يتماهى مع الوضعية و يذهب ليتجاوز حتى الحدود (و لنقل جدلاً العقلانية)
القصوى للتقديس، مثلما راح رجال الدين أيام حكم العثمانيين و الصفويين في مغالاتهم
في مسعاهم لوضع فتوى لمسألة من قبيل:
"هل أن براز الرجل المقدس طاهر؟"[3]
هكذا! . . و نجدهم في أروقتهم الخاصة يسخرون من
الهندوسي لأنه يضع على جبهته روث البقرة تقديسا لها . . مع الفارق طبعاً، فروث
البقر يستعمل عندنا هنا، لا عند الهندوس، وقوداً تُسخـِّنُ به أمهاتنا تنانيرهن لإنتاج
الخبز . . و أولئك الهندوس يقدسون البقرة لأنها تدرُّ لهم لبناً هو أساس غذائهم و
ديموتهم . . و من سيدلنا هنا يا ترى على قديس يدرُّ حليباً مثلما تفعل بقرة
الهندوسي!
و لننصت مثلاً الى أحد العقول المؤطرة يسمونه (حجةً!)،
يتحدث على تسجيلات اليوتيوب الرائجة هذه الأيام، و كأن في ذهنه مسطرة (دوغما)
معينة يعيِّن بها قياس الناس الذين يصلحون لدخول الجنة، فيقول "تسألوننيييييييييييييي
اذا كانَََََََ (القوم الفلانيون) يدخلون الجنةةةةةةةةةةةةةةةةةةة قبل أهل (كذا) أقول
نعم هؤلااااااااااااااااااء سيدخلونها لأنهم يحبونََََََ (فلاناً) و أولئك لا
يدخلونها لأنهم لا يحبونَََََََََََ (فستاناً)"
و
نشاهد، على إحدى الفضائيات، داعية مؤطرً من الصنف الخصم للأول، لا يختلف عن كلام
ذاك (الحجة) بالمضمون، و لكنه بالإتجاه المعاكس، إذ أنه و بعد أن يفصِّل مسطرته
الفردوسية تلك، التي لا تجيز، برأيه، إلا لفئة محدودة من البشر (الذين هم من
شاكلته) دخول الجنة، و يروح بعدئذ يحدِّث
الجمهور عن رحمة واسعة وسع السماوات و الأرض، بحيث تشمل كل مستغفر تواب! . .
تصوروا! . . . توابٍ من أي ذنب! . . حتى و إن كان ذنبه الفسق الدائم حتى مماته و
السرقة الدائمة حتى يوم منيته و القتل الدائم لغاية آخر يوم في حياته! . . و
بالتالي تبقى ليرة غوار الطوشة الشهيرة هي الوحيدة اليتيمة التي تنكشف بأشعة أكس
الإلهية . . و لا أحد يغفر لغوار سرقته لليرة بسبب جوعه!
و
هكذا . . يمضي العقل المؤطر في غيّه ليغدو أسير بُدع يشيعها تفكيره المتعصب، و العصابي
غالباً، لدرجة أنه لا يُبدي مطلقاً إستعداداً، أياً كان نوعه، للإنصات الى أية حجج
نقدية، ترُدُّ على بدع تحولت عنده الى مسلمات (دوغمات). و بعبارة أخرى تحولت تلك
البدع عنده الى معتقد قاطع مغلق، لا يتسع لأي نقاش، و لا يقبل بأي جدل أو رأي
مخالف. و بالنتيجة، لا يبدي قبولاً لأي تصويب أو تكييف. و هو الأمر الذي يبقيه في
حالةِ عمىً مطلق دائمٍ عن حركة الحياة التي تجري من حوله. و ليس ذلك فحسب، بل أنه
أيضاً لا يكتفي برفض الرأي المخالف، و إنما أيضا يسعى الى تسفيه و تجاهل أية حجج
أو دلائل أو براهين منطقية تساق لتفنيد بدعه . . ذلك، لأنه أصلاً لا يجادل و لا
يؤمن بأي جدال فيما يعدونه . . لغواً في
إيمانه! . . و عند الحاجة تكون يده أقرب الى ساطوره أو مسدسه، حين يضطر الى
التحادث مع أي آخر يقف قبالته، لأن تعصبه هو نوع من البارانويا، تقف حائلاً بينه و
محاولة فهم الآخرين، لكونه يعيش في عالم مملوء بالشكوك و الأوهام. و هذا العالم هو
الذي يوجهه الى الكيفية التي يميل بها الى السلوك تجاه الآخر الذي لا يتفق معه،
لأن هذه الكيفية هي التي يجد فيها العقل المؤطر، و هو واع لنفسه، متنفساً لأزمته
الأبدية المؤطرة، و نفسه في الغالب نزّاعةٌ الى السيطرة و الإستحواذ، مهما كلف
الثمن! . .
و لا بد لهذا، دون ريب، أن
يخالف منطقَ الفكرِ الانساني الذي وصفه الفيلسوف باروخ سبينوزا بأنه يتميز بكونه
لا يعكس فحسب التغييرات في سائر الأحداث، بل أنه أيضا يعكس نفسه، أي يتأمل نفسه،
أي أنه واع لنفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق