بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 5 أكتوبر 2016

عربة الترجمة: أيفضل أن تجرها خيول مطهمة أم خيول جامحة؟

An essay on translation criticism
The Chariot of Translation: Should it pulled by a Tamed Pony or by a Wild One?
By: Ahmed Khalis Shalan
مقالة في النقد الترجمي
عربة الترجمة: أيفضل أن تجرها خيول مطهمة أم خيول جامحة؟                              أحمد خالص الشعلان

ما كانت علاقتي بالترجمة قط وليدة رغبة عابرة أو نزوة من الممكن أن أتحول الى غيرها بيسر ، اذ كان حلمي يتكرر لأكثر من ثلاثة عقود من السنين، و ما يزال، هو نقل عمل جيمس جويس الخالد "يوليسيز    Ulysses " الى العربية أثناء قراءتي له ، على الرغم من صدور ترجمة وافية لهذه الرواية . و لكني ، ما كنت على عدد المرات التي  قراءتها بها بالانكليزية أكاد أنتهي،  الا و تحضرالى  ذهني في كل مرة الحكمة التي أطلقها إبن رشد مرة :
                               " ما قرأت أكثر إلا و إزددت علما بجهلي "
فيرتد بصري حسيرا بمجرد انتهائي من قراءة الرواية ، و لكنه يعاود الظهور على نحو في مرة القراءة التي تلي .  
تذكر مونا بيكر Muna Baker  في كتابها الموسوم "بعبارة أخرى  In Other Words" انه بالامكان الحديث عن نوعين من المترجمين؛ ألأول، هم أولئك الذين صاروا مترجمين أكفاء من طريق الممارسة، فوصلوا بذلك الى مستوى أداء راق في الترجمة، لدرجة أن تجاهلهم أو اغفال انجازهم ربما يشكل خسارة فادحة للثقافة و  فيه غبن كبير بما يحمله من تعسف بحقهم، و أذكر من أولئك المترجمين المترجم المعروف المرحوم يوسف عبد المسيح ثروة ( و هو دون ريب أحد أولئك الجنود المجهولين الذين نغفل عن ذكرهم  ) ، لأن المترجمين الذين من طرازه لم يبلغوا ما بلغوه، في الواقع، الا بما يدل على فطنتهم و فطرتهم السليمة و قدرتهم العالية على الاستنتاج في ايجاد الستراتيجيات التي تمكنهم من حل أغلب المعضلات التي تواجههم عند الترجمة. و ذلك، بحدس الطرق التي توصلهم، و أقولها مجازا، الى بر ألأمان و الأمانة في الترجمة. و مع ذلك ،فان نهجا من هذا النوع (بحسب تجربة كاتب هذه السطور قبل أن يتخصص بالترجمة أكاديميا) قد يأخذ وقتا طويلا يقدم فيه الممارس خلاله مضطرا الكثير من الثمر الفج (و هذا لا يعني ،من ناحية أخرى بأن المترجم المتبع لأي نهج آخر لا يقدم ثمرا فجا و لو الى حين) قبل أن يبدأ بطرح ثمر يانع ،بعد أن ينتبه بالتدريج ،أو ربما يجري تنبيهه ،الى عثراته ، فيتجاوزها متمهلا. و يتوقف هذا ،دون ريب ،على مدى ثقافته ،و سرعة بديهته ، و دافعه تجاه اللغة ألأخرى التي يتعامل بها و ثقافتها ،فيما اذا كان ذرائعيا  instrumental أو اندماجيا  integrative ، من ناحية ،و المامه باللغتين الماما شاملا ،من ناحية أخرى . فتلك العوامل ستتفاعل ،بالتأكيد ،لتحاصر المشكلات التي تواجهه الى أضيق حد ممكن ، كي تصبح بالتالي ذات طابع تقني صرف ،ما يساعده على تكريس جهده لتبني تقنية ملائمة سهلة الى حد ما ،و بذا يغدو عنده عندئذ تذليل أغلب العقبات ممكنا.
أما الصنف الثاني من المترجمين الذي تذكره مونا بيكر، فهم أولئك المترجمون الذين يأتون من نهج التأهيل ألأكاديمي ، اذ يمر المترجم بأقنية فصول دراسية في الترجمة ، يتلقى فيها الدارس خلاصة معرفة البشرية في تقنيات الترجمة ، الى جانب معارف غزيرة أخرى في فروع علم اللغة ذات صلة بالترجمة ، فيتخرج متزودا بذخيرة معرفية في الترجمة تمكنه من استنباط ستراتيجيات في حل ما يسمى بتقاطعات الخطاب عبر الثقافات cross-cultural discourse ، كي يغدو مترجما مؤهلا.
-          أهذه هي نهاية المطاف؟
-          لا أظن!
فالتجربة في الترجمة تعلمنا، يوما بعد يوم، أن مشاكل الترجمة قد لا تنجم، في الغالب، من قصور في فهم المترجم للرسالة التي يحملها النص المصدر، و لا في طريقة استيعابه لها، فهو يفهم على ألأرجح فهم اليقين ما يقرأه، بل أن تلك المشاكل تنجم من فرن اللغة الهدف الذي تنضج الرسالة المحمولة على ناره. فالرسالة هنا تشبه، ان جاز القول، رغيف الخبز، ان تعجله الخباز خرج فطيرا ، و ان تركه خرج مدة أطول خرج محروقا. و في كلتا الحالتين قد يتشوه الرغيف، و يفقد لكثير من روحه، فمن أين لنا ياترى بخباز يخرج الرغيف في أوانه، فيسر بذلك الناظر و السامع و المتحسس؟!
و صدق بذلك أستاذنا د. ماجد النجار الذي درسنا تقنيات الترجمة، إذ أوصانا أن نترك النص الهدف مدة كافية، بعد انتهائنا من ترجمته ،لكي يختمر ما انجزناه في وعينا، و نعود اليه لكي نجري التصويبات المطلوبة عليه!
و لكن هذا الأمر قد يجرنا، من ناحية أخرى، الى سؤال هو:
-          أينبغي، لأجل ذلك، ان يكون المترجم أديبا اريبا؟
فنحن غالبا ما نقرأ أعمالا ترجمها أناس مؤهلون لدرجة أن أسمائهم صارت أعلاما في الصنعة و من ذوي الألقاب فيها، و مع ذلك نحس فيها، على الرغم من عدم اطلاعنا على ألأصل، بعثرات المترجم ( و من منا سالم منها) ما بين السطور. هنا، تتباين الاجابة على السؤال المذكور في أعلاه، بقدر اختلاف ذوي الشأن في ألأمر. فثمة من يقول ان الترجمة العلمية (و قد يصنف البعض كتاب "الجنس الأدبي" الذي بين أيدينا منها)، لأنها تنقل حقائق ثابة الماهية، لذا فهي لا تحتاج الى مترجم أديب أريب قدر حاجتها الى من يتصور الحقائق المحمولة في النص المصدر تصورا دقيقا. و من هنا راود المرء تساؤل: عما هو أفضل، لأغراض مهنية بحت، ناهيك عن الأغراض الجمالية، في الاختيار بين عربتين تنقلان الحقيقة العلمية؛ احداهما "كركوبة" (عذرا للقارئ لأني لم أجد غير هذه المفدة العامية المصرية للتعبير عن الاحساس الذي أريد، و هذه مشكلة في الترجمة سأعود اليها لاحقا) يجرها جحش أجرب أو حصان جامح (مع الاعتذار للمترجمين!) و عربة أخرى ملوكية تجرها خيل مطهمة! . . . الإحتكام هنا لا بد أن يكون بالتالي الى رأي القارئ و تجربته (فما أكثر ما نتجاهل نحن وعي القراءة عند إنشغالنا بوعينا الترجمي و التأليفي!). ألم يحصل، مثلا، أن اجتذب هذا القارئ عنوان كتاب مترجم لمؤلف معروف بامكانياته و دقته العلمية و بأهية آرائه في مجال اختصاصه، و لكنه (القارئ)، و بمجرد أن يقرأ ثلاث أو أربع صفحات من هذا الكتاب، فينفر منه بعدها بسبب ركاكة لغة المترجم و فقر وسيلته، فتعاف نفسه قراءة الكتاب رحمة بأعصابه؟
و هنالك، فضلا عن ذلك، مشكلات محيرة، منها مثلا؛ مشكلة الالتباس الذي يحصل لدى القارئ و لا يد للمترجم فيه، و أعني بذلك؛حين تكون أفكار مؤلف الكتاب نفسه مشوشة أصلا، فينقلها المترجم كما وردت بدافع الأمانة، فيظن القارئ عندئذ ان ذلك متأت من علة في الترجمة؛ أعلى المترجم، تبعا لذلك، أن يشير الى هنات التأليف مثل لكي يبرأ نفسه أم ماذا!
و لو إفترضنا، من ناحية أخرى، أن المترجمين جميعا هم أدباء أريبون، ما تزال أمامنا المشكلة الأهم، بل و ربما هي مشكلة المشاكل، أعني المتاهة التي قد يجد المترجم نفسه في منعطفاتها الحادة (التي كانت تعرضه على كر القرون لتهمة الخيانة) و هي ما نسميها "المعنى"، التي يتلقى المترجم بسببها أحيانا لوما أو تأنيبا أو تقريعا أو لربما ما هو أقسى فيخج أحد ما و يتهمه يالفساد ! و مع ذلك يبقى المترجمون قوما ينطبق عليهم ما قاله الكسندر بوب عن الشعراء في قصيدته الطويلة "مقالة في النقد  Essay on Criticism " من أنهم قوم مغامرون، لا يمنعهم طول الحدود، لأنهم قبلوا بالحرية و آمنوا بها. فالمترجم غالبا ما توجهه مفردة في سياق معين (مثلما يحصل لكاتب هذه السطور)، اذ على الرغم من استنفاره لكل القواميس و المعاجم و المراجع ذات الصلة التي بحوزته، لتطرح جميع ما تحمله المفردة من تضمينات دلالية بانواع شتى، و بضمنها حتى تلك التي تقع في دائرة الظلال ، قد لا يجد أي مقابل يضبط المعنى في اللغة الهدف، مما يخدم المعنى المحسوس sense في اللغة الأصل. و بذلك، تبقى كل المقابلات equivalents  على الإطلاق تقريبية و افتراضية!
-          فما العمل اذن؟
آنذاك لا بد أن يلوذ المترجم الحريص على صنعته بالحدس و الاجتهاد و ركوب المغامرة التي لا بد منها  . و عندها قد لا يعامل المترجم على أساس أنه مجتهد أن أصاب له أجران و ان أخطأ فله أجر واحد ، و انما يعامل ربما على وفق المبدا الذي ذكره ثربانتس على لسان "دون كيخوته"، اذ يقول هذا ألأخير مخاطبا تابعه : "إعلم ياسنشو بانثا أنه إذا ما وقع الحجر على الإبريق فالويل للإبريق، أما إذا وقع الإبريق على الحجر فالويل أيضا للإبريق!"
و جدير بنا أن نتذكر بأن المترجمين ليسوا قوما مغامرين فحسب، بل أناس يدفعهم عمق ما في نفوسهم من سمو للقيام بأخطر المهن على الاطلاق، تلك هي نقل أفكار انسان الى آخر ، و بالتالي نقل ثقافة شعب الى شعب آخر، و هي مهمة تفصح بالتالي عن نبل مساعيهم. و مغامرة المترجم في بحر المعاني و الدلالات يشبه، الى حد بعيد، اللعب عند هيرمان هيسه في روايته الشهيرة " لعبة الكريات الزجاجية"، و هي لعبة روحية دون قواعد تدور على طول تلك الرواية الجميلة ، و على اللاعب المشارك فيها أن يكتشف قواعدها بفطنته من مجرى اللعب ، و حين يكتشف أية من تلك القواعد ، فيظن بنفسه خيرا بأنه على طريق الفوز، يتفاجأ في المرحلة التالية على اكتشافه ذاك ان لا نفع لما عرفه في المراحل التي تلي و عليه أن يكتشف من جديد اصول اللعب في لعبة لا أصول لها ، ما يقوده باستمرار الى الاكتشاف المنطقي الذي لا بد منه و هو أن العقل هو سيد الموقف في كل مراحل اللعبة، و أن لا مثال سابقا ينفع. و بذا تبقى حاجات العقل و الروح أجل و أسمى من كل القواعد في كل مرحلة من مراحل اللعبة، و هي لعبة لا يبرع فيها الا مترجم فيلسوف ، لأنها و ببساطة لعبة العقل المحض الذي تحدث عنه ايمانويل كانت. و لربما هنا يكمن مصدر ألأسى عند مونا بيكر التي تذكر بأسف في كتابها المذكور سابقا بان المترجم لم يتبوأ (هذا في مجتمع مثل المجتمع الذي تعيش فيه مونا بيكر، فما بالك في مجتمع بائس ثقافيا و حضاريا و ترجميا مثل المجتمع العراقي!) المكانة اللائقة به، على الرغم من المهمة الجليلة التي يؤديها!
-          فهل آن آوان الدعوة الى أن يتبوأ المترجم مثل تلك المكانة التي تصورها الكسندر بوب للشعراء، أقصد مكانة فوق العقل؟
 أظن أن هذا سيحصل . . . و لكن ليس في مجتمعنا بالطبع! 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق