An essay on
translation …
Reflections of
a Passionately-disposed Translator
By Ahmed
Khalis Shalan
مقالة في الترجمة
إعترافات ورّاق ترجمي الهوى
أحمد خالص الشعلان
يقال أن الشاعر
يتألق في إيجاد "لغة في اللغة" بمعنى أنه قادر على الإرتقاء بالكلمات القاموسية
في لغة ما ليصنع منها عملا إبداعيا متميزا
يتمثل بقصيدة لها فعل السحر على المتلقي.
و في الواقع ، ليس الشاعر وحده من يسعى الى
إيجاد لغة في اللغة . فالمفردة القاموسية عند أغلب علماء اللغة ليست أكثر من جثة corpus
يعيدها الى الحياة مستخدم هذه
المفردة ، سواء أكان شاعرا، أو كاتب قصة، أو مسرحيا، أو كاتب مقالة، أو خاطرة، أو
أي متحدث بتلك المفردات في الحياة اليومية. ألا يحصل أحيانا، مثلا، و أن يلتقي المرء
شخصا بمجرد أن يتحدث إليه يجد المرء نفسه
و قد وقع تحت تأثير خطابه فورا، و كأنه سحر فن من الفنون! . . فالكلمة القاموسية
ليست هي، إذا جاز لنا القول، الدلالة بعينها، و إنما هي الدليل الى الدلالة . و ينطبق
هذا أيضا حتى على لغة العلم، إذ نجد بعض المصطلحات المتداولة في أكثر من حقل واحد،
حين يستعمل عالم أو باحث لمصطلح ما في حقل
ما، فيشحن ذاك المصطلح بمعنى يختلف أحيانا
كليا عن المعنى الموظف للمصطلح في الحقول الأخرى ، و ألأمثلة لا تعز علينا هنا. و
أظن أن هذا هو واحد من حقول دراسة اللغة، و هو ما يدعى بـ "التداول pragmatics
"، الذي يبحث في وجوه إستعمال المفردة
القاموسية و نوع الشحنة التي يشحنها بها مستخدمها و في أي سياق يريده، سواء أكان
كاتبا من أي نوع أو من أية درجة، أو كان متحدثا من أي نوع أو من أية درجة درجة، مع
الإعتراف طبعا بالقدرة الفذة المميزة التي يستعمل بها الشاعر. و مع ذلك، فليس أي
شاعر، دون ريب، أن يخطف ،بومضة ذهنية فائقة السرعة، من بين المفردات المتاحة و
توظيفها على الوجه الذي يخلق بها ذاك السحر الذي نتحدث عنه.
و المترجم لا يشذ عن هذا إطلاقا. و لكن مع فارق
نوعي بين الشاعر و المترجم، إذا أحببنا أن نقارن بين الإثنين . فالشاعر يقوم بنقل
رسالته هو بنفسه و بخطابه المختار، في حين يقوم المترجم بنقل رسالة لا تعود له بالأساس،
بل إلى شخص آخر، و بخطاب هذا الشخص الآخر. و هذه المهمة وجدتها، بوصفي مترجما،
أكثر تعقيدا مما يظنه كثيرون، لأن الأمانة تقتضي المترجم هنا أن يحاول جاهدا، و هو
من باب المستحيل، تحرير خطاب الرسالة المنقولة في النص الأصل من تدخلات خطابه و
تدخلات آليات لغته الهدف و مبانيها و إشتراطات هذه الأبنية . فإذا كان ما يترجمه
المترجم شعرا، سيكون عليه إذن أن يستحضر حالة الإلهام، أو حالة الخلق، التي مر بها
شاعر القصيدة، و أقصد بذلك تلك النقطة التي يتصل بها إلهامه بالمطلق الكوني ليكون
خيطا في نسيجه. و هيهات أن يتحقق هذا للمترجم إلا نادرا، إن لم يكن مستحيلا! . . و
إذا كانت المادة المترجمة قصة أو رواية، فلك أن تتخيل مقدار الوجع الذي يتعرض له
المترجم في مسعاه لتصور المناخ الذي يدور
به الحدث و الإحاطة به و إستحضاره، بخاصة حين لا يكون المترجم قد عاش مدة في بلد
اللغة التي ينقل منها، أو عايش ثقافة تلك اللغة و الأماكن التي تدور بها أحداث
الرواية، أو محاولة مقاربة الخطاب الذي يستعمله الشخوص في حواراتهم، ناهيك عن تعدد
الأصوات في أي نص أدبي.
و
أذكر في هذا الشأن موقفين تعرضت لهما. الأول في الشعر ، إذ حصل لي مرة و كنت أقرأ
قصيدة للشاعرة ألإنكليزية "سلفيا
بلاث Silvia Plath"، و هي
شاعرة من ثلاثة شعراء كانوا يسمون في ستينيات القرن العشرين بـ "عصبة الشعراء المجانين". و كانت
قصيدتها تلك في منتهى التركيز و الكثافة الى درجة أن اللحظة الشعرية فيها لم
تستغرق أكثر من أربعة أو خمسة أبيات قصيرة هي الأخرى. و كانت تتحدث عن شئ لامرئي، ربما
خاطرة، سقط في هنيهة من الشاعرة بين ثنايا العشب و غاب هناك، بل تاه هناك بين و
ريقات العشب. و قد لا يتخيل القارئ ما حصل لي بعد أن تشربت التجربة التي في
القصيدة لا شعوريا أثناء القراءة و سكرت بها، و لا أظنني سكرت من قبل على هذا
النحو قط بقصيدة أقرأها بلغة غير لغتي، و لم أسكر لحد الآن حتى كتابة هذه السطور
بمثل تلك النشوة التي لم تستغرق سوى ثوان. ذلك، فقد صادف حين قرأتها أني كنت جالسا
على مصطبة في الكلية وسط العشب، فليتأمل القارئ ما حصل حين راحت عيناي لا شعوريا
تبحثان، تماهيا مع التجربة الإدراكية الشاعرة، عن ذاك الخيال اللامرئي الذي ضاع بين
وريقات العشب، لغاية أن أفاقتني منه زميلة لي أتت فجأة، و لـُمتها في حينها على ما
فعلت قائلا . . . "لقد أخرجتني للتو من الجنة" . . . فاعتذرت. ما يعني إني كنت قد أمسكت (أو
هكذا أزعم الآن!) الى حد ما بلحظة الخلق التي إعترت الشاعرة، و هو ما أغراني في
ترجمتها فورا قبل أن تضيع مني تلك النشوة! . . و لكن هيهات! فأنا، في الواقع، حين
أتيت الى ترجمتها آنذاك الى العربية، وجدت
نفسي عاجزا، و لم أجد في كل مفردات القاموس العربية، و لا في كل معاجم العربية، ما
يسعفني في نقل رسالة الشاعرة و تجربتها مع اللامرئي الذي ضاع منها. . . كررت
المحاولة . . . و كررتها . . لغاية أن أصبح أمامي ليس اقل من عشرة ترجمات للقصيدة
. . حين راجعتها جميعا . . لم أجد بينها و أنا اقرأها بالعربية، و يعيد لي التجربة
الإدراكية التي مررت بها و أنا اقرأ القصيدة بلغتها الأم! . . فقررت الإحجام عن نشر أية واحدة من ترجماتي
المذكورة للقصيدة، كي لا أسئ الى كل ذاك الجمال الذي غمرني و أنا أتقمص لحظة الخلق
عند الشاعرة. و تجربتي، مع هذه القصيدة، بوصفي قارئا أولا، قبل أن أكون مترجما، هي
من الحالات النادرة جدا. و لا أدري إن كان أحد قد مر بهذه التجربة من مترجمي الشعر
على قلتهم. و صرت بعدها كلما تكررت هذه الحالة أحجم عن الترجمة ، لسبب أوحد، هو أنها بعد قراءتها تتركني، و كأنني قد مارس
الحب للتو . . خليا و سعيدا و راضيا . . ما يكفيني عن طلب المزيد!
أوليست هذه هي الغاية الجوهرية للفن؟
و الموقف الثاني لي كان عام 2001 في مجال القصة
و الرواية ، إذ جرت بيني و بين الروائي العراقي الكبير "فؤاد التكرلي"،
أثناء إقامته في تونس، مراسلات حول ترجمة روايته "الرجع البعيد" الى
ألإنكليزية (رواية التكرلي هذه تصور الأجواء التي أعقبت إنقلاب 8 شباط 1963 الفاشي
و عقابيله). و بعد أشهر من المكاتبات المضنية بيننا، خاصة حول ترجمة عنوان الرواية
بالذات و ما تحمله من مضامين، و لأجل وضع خطة لترجمتها آخر الأمر، فاجأني في إحدى رسائله أنه تسلم مفاتحة أولية
لترجمة الرواية من بروفيسور "كاثرين
كوبهام"، أستاذة الأدب العربي في جامعة "سنت أندروز" الأسكتلندية.
فكان ردي عليه دون تردد هو: "إذا حضر الماء بطل التيمم، سيدي!". ذلك،
لأن واحدة من التقاليد الشائعة و المبادئ المتعارف عليها في الترجمة هي تفضيل أن
يقوم المترجم بالنقل الى لغته الأم و ليس العكس، إلا عند الضرورة. و بعث الي
التكرلي آنذاك بعنوانها، لكي أعلن لها التنازل لها شخصيا عن المهمة. و لكني نبهتها
الى أنها قد تكون أعرف مني الى حد كبير بالخطاب الروائي الذي تحتاجه في لغتها الهدف،
غير أنه سيكون عليها من الصعوبة أن تستحضر المناخات التي تدور فيها أحداث الرواية في
ستينيات القرن العشرين في أزقة حي الأكراد الواقع بين شارع الكفاح و شارع الشيخ
عمر، وهي منطقة درابين ضيقة و متلاصقة لا يدخلها نور الشمس الا نادرا، و قلت لها
في رسالتي أيضا أن هذا هو السبب الذي يجعلني أعزف عن ترجمة الروايات و القصص
الانكليزية لأني لم أعش هناك عندهم، و ضربت لها مثلا مترجم رواية يوليسيس العظيمة
حين أضطر الى العيش في آيرلندا ردحا من الزمن متعايشا ناس و مناطق دبلن التي جرت
بها أحداث الرواية قبل أن يبدأ مغامرته في ترجمة الرواية. و طلبت منها آخر الأمر
أن تبعث لي بنسخة من ترجمتها لرواية "الرجع البعيد" حين تنتهي منها، لأتبين
، بوصفي قارئا مغرما بتلك الرواية ما تحقق من خلال الترجمة. و لكنها لم تفعل للأسف، و لا أنا سألت "التكرلي" نفسه آنذاك أن يفعل ذلك فيما بعد. و لكني أذكر
شيئا لا أنساه هو أن التكرلي حين فاتحته بأمر ترجمة "الرجع البعيد"، قال
في رسالته كلاماً فحواه أن ترجمة الرواية الى لغة أخرى لا يعني إلا شيئا قليل
الأهمية!
و خلاصة القول هو: أن المترجم حاله حال أي مبدع حين
يستعمل اللغة الخام، يضفي عليها معان من خلال إمساكه بلحظة يتناغم بها مع الكون
خاصة به و ليست خاصة بكاتب النص الأصلي، و لكن ليس بالمعنى الميتافيزيقي دون شك، و
لكن بالمعنى الذي قيل فيه أن أية زهرة تهزها الريح على كوكب الأرض ترتعش لها نجمة
لا ندري أين و في أية مجرة من مجرات الكون!
***** ***** *****
يقال أن المترجم هو الكاتب الثاني للنص . .
-
فيا ترى ماهي مسوغات الإتفاق أو مبررات الاختلاف هنا؟
أزعم اني أتفق
الى حد كبير مع فكرة الخلق الثاني للنص أثناء الترجمة، و لكن بمستويات متفاوتة ، و
تبعا لنوع النص و جنسه، مع أن الفكرة هي في الواقع تظل مصدراً لكثير من الإلتباس. ففي
ترجمة النصوص العلمية مثلا، ليس ثمة كتابة ثانية للنص إلا في حدودها الدنيا، و
إنما يستطيع المرء أن يتحدث هنا عن دقة و وضوح في نقل الرسالة المبنية على الحقائق
العلمية الموجودة. أما في حالة النصوص الأخرى التي لا تندرج تحت هذا الباب، فيبدأ
دور المترجم كخالق ثان للنص في التعاظم، إبتداءً من السرد القصصي حتى يبلغ، مرورا
بطيف واسع من الأجناس، في ترجمة الشعر أعلى درجاته، لأسباب لسنا في وارد ذكرها هنا.
و أذكر إني حين كنت أعمل في ترجمة كتاب "تفسير جديد لمفهوم المحاكاة A
New Mimesis" للناقد الإنكليزي "ناتول Nattull" مرت
علي قصيدتان بمنتهى الجمال لشاعرين
إنكليزيين هما د. جونسون و ي. ي. كامنغز .
كان للقصيدتين نصيب إستثنائي في لعبة
تناغم الشكل و الموسيقى، اللذين هما جوهر الشعر، ما يجعلهما عصيتين على الترجمة من
ناحية، ولكنهما من ناحية ثانية تشكلان إغراء طاغيا لأي مترجم مولع بفك رموز لغة
غير لغته برموز لغة مقابلة، أو التلاعب بها، و هو التحدي الأكبر. فقررت المغامرة،
مع علمي مقدما بإستحالة تحقيق نجاح في الإمساك
بلحظة الخلق الشعري، مثل ذاك الذي حققته في حالة قصيدة "سلفيا بلاث" المذكورة آنفا. و لكني
قررت، بدافع الفضول، القبول بالمغامرة لأرى النتيجة. ترجمت القصيدتين. و حين قرأت
ما تحقق لم أجد له سوى علاقة واهية بالأصل، على الرغم مما بذلته من جهد لخلق
موسيقى داخلية (أو هكذا توهمت!) للقصيدة بالمفردات العربية، بحيث يصير للقصيدة
إيقاع يجذب القارئ للإستمتاع بالقراءة ، حسبما ظننت. ثم عاودت ترجمتهما مرة ثانية
بعد يومين، محاولاً التحرر نسبيا من
تأثيرات الترجمة الأولى و ترسباتها في ذهني، فخرجت بنتيجة لا تختلف عن التي قبلها على
الرغم من إختلاف الخطاب و المفردات التي أستعملتها . . و جاءت الحصيلة هذه المرة نصين عربيين يختلفان عن الأولين و عن النصين الإنكليزيين
على حد سواء. فما الذي يمكن أن يسمي المرء ما خرج من يديَّ؟ . . أهو خلق ثان، أو ثالث للنص . . أم ماذا؟ . . فإذا أردت أن أزعم أن الترجمة
في المرتين أنتجت قصيدتين كتبتهما أنا، سيكون في هذا الكثير من الزيف و التعسف و
السرقة، على الرغم من وجود نهج معترف به في عالم الشعر و عند كل الثقافات، و هو كتابة
قصيدة إنطلاقا من قراءة قصيدة لشاعر آخر. و إذا قلت إنهما ترجمتان لقصيدتين
قرأتهما بالإنكليزية، سيكون في هذا تجن على إبداع الشاعريين الإنكليزيين و على
المتعة التي توفرها القصيدتان لقرائهما بالإنكليزية. و مع ذلك قررت آخر الأمر نشر ما كان برأيي أفضل الترجمتين اللتين تحققتا، و
لكن مسبوقتين بشرح مفصل لتجربة الترجمة بأمانة، لكي لا ينخدع القارئ فيما يقرأ من
ترجمات للشعر. و نشرت الترجمتين في أحد أعداد مجلة "دجلة" لسنة 2005، و
هي مجلة تصدرها وزارة الثقافة. و قد علمت فيما بعد أنه كان هنالك من أستمتع
بقراءتهما . فهل هذا هو ما يقصد
بـ"الكتابة الثانية للنص" عند الترجمة؟ . . و دون ريب هذا موقف
فيه الكثير من الإلتباس مثلما قلت سابقا. فأنا في الواقع لست مغرما بالتسميات! و
لكني، دون ريب، توصلت الى نتيجة فحواها: أنه من الوارد أن تشكل القصيدة للمترجم
إغراءا، و لكن إذا ما نجح عند قراءتها في الإمساك
بلحظة الخلق أو قارب تلك اللحظة بطريقة ما، أو توهم أنه فعل، فعليه، إذن ، برأيي
أن يكتفي بإستمتاعه الشخصي بقراءتها و ألا يجازف و يترجمها، و تكون المحصلة عبثٌ
بالجمال و السحر الذي فيها!
***** ***** *****
غالبا ما أقرأ
أن البعض يصنف الترجمة الى ثلاثة أصناف، الأولى ترجمة تحصيلية والثانية توصيلية و
الثالثة تأصيلية. أما كيف يجري هذا التصنيف؟. . و على أية أسس. . . فهذا شئ، دون
ريب، فيه الكثير من فلسفة اللغة و القليل من فلسفة الترجمة؟ . . إذ كيف سنحدد
ماهية كل صنف من هذه الأصناف؟ . . هذا فيه
الكثير مما يرضي العقلية الإسهابية، ناهيك
عن أني في الواقع، بوصفي مترجما، لا تهمني أية من هذه التصنيفات للترجمة. هذا،
ببساطة لأني حين أترجم لا تحظر أمامي أية من هذه التصنيفات، فأنا، في اول الأمر و
آخره ، مترجم إنطباعي. إذا نويت أن أترجم نصا، و قيل لي مثلاً أن هذا النص مترجم من
قبل، لا أذهب و أقرأ ذلك النص، لسبب بسيط، هو إني أولا لا أريد أن أفسد مغامرتي و
متعتي و شوقي المعرفي لإكتشاف بعض زوايا و خبايا الطريق، و ثانيا كي لا أتشبع لا
شعوريا بنهج مترجم ذاك النص. هذا، عدا أن العاملين في حقل اللغة، و حتى في خارجه
يحاولون دائما مط المفاهيم اللغوية، لكي
يدخلونها في خانات جديدة و بفذلكات جديدة، و يروحون لكي يجدوا أساسا تطبيقيا
لتصنيفاتهم، و لكني و بصراحة تامة حين آتي لقراءة محاولات تطبيق هذه التصنيفات على
النصوص لا أفهم كيف جرى الأمر و ما هو تأثير ذلك على المترجم! . . حتى أن المرء قد
يجد أنه، نتيجة الولع و الشغف بالجديد، قد يسعى البعض الى إجراء تعديلات و وضع إضافات زركشية على القمصان القديمة كي
تبدو جديدة، و بذا نراهم يفلسفون للشئ ذاته بإستبدال تسمياته القديمة الدارجة بتسميات
جديدة . . و و التسويغ هنا هو أن العقل البشري يجهد دائما، مثلما تقول الفلسفة، و
يسعى إلى إيجاد تبريرات معقولة و منطقية لحاجاته. و إذا أرادنا، تماشيا مع الحال و
موظة التصنيف أن نجد أساسا للتصنيف المذكور آنفا، فالترجمة بإختصار شديد، بوصفها عمليةprocess
معرفية، تتشكل من خطوات من الأنشطة العقلية و الإدراكية
و المعرفية، فهي "تحصيل" (كذا!) ذهني و نفسي يكتسبه المترجم من قراءة نص
مكتوب بلغة ما غير لغته الأم. و بما أن اللغة هي الواسطة التي ينقل بها المترجم
النص حيث يسعى الى "
communicate توصيلـ"
ـه (كذا!) الى ضفاف لغة أخرى، إذ يجري
" give a firm foundationتأصيلـ
" ـه هناك لكي يكون جزءً من ثقافة اللغة الهدف. و هو ما يعبر عنه تصنيف آخر
قريب من هذا التصنيف و لكن بمصطلحات أخرى هي: decode
(و يعني فك رموز اللغة المنقول منها)، و transcode
(و يعني نقل تفسير هذه الرموز بواسطة ما، و هي المترجم قطعا أو آلة الترجمة)، و encode
(و
تعني تشكيل هذه الرموز باللغة الهدف).
و إذا جئنا الى تصنيفات الترجمة المعروفة عند دارسيها،
سنجد أنها، من ناحية الواسطة، تصنف الى: ترجمة
"مكتوبة written
" (و لها أشكالها و مستوياته بحسب الجنس
و الخطاب)؛ و ترجمة "حية live"
(و تسمى أحيانا "ترجمة منطوقة" و هذه تقسم بدورها الى فورية consecutive وأخرى تبادلية
simultaneous (و يسمى المشتغل بها في الغالب "مفسرا interpreter"
و ليس "مترجما translator") لغرض التخصص، و كل من هذين النوعين من الترجمة
معروف بغايته. و ثمة مستوى آخر لتصنيف الترجمة بحسب طبيعة المادة المترجمة ، إذ
تقسم الى ترجمة "علمية factual " و
ترجمة "أدبية literary " (و
يسميان أحيانا بـ "الترجمة الحرفيةliteral translation " و "الترجمة الحرة free translation"). و
هذان أيضا يفسران نفسيهما دون عناء.
* * * *
* ***** *****
يدور أحيانا سؤال يجلب الإنتباه هو:
-
هل يمكن إعتبار
الترجمة ميدانا من ميادين الأدب؟ أم أن ميدانها مستقل عن ذلك؟
و الجواب هو: عجبا! . . ثم عجبا!
إن الترجمة هي،
دون ريب، ميدان من ميادين الأدب. و جدال شبيه بهذا كان يدورقائما منذ عهد بعيد، و ما
يزال مستمرا، حول ما إذا كانت الترجمة، من ناحية أخرى، علما أو فنا . . في الحقيقة،
إنها الإثنان معا. فطالما كان المترجم بحاجة الى معرفة واسعة بقواعد اللغتين، و هذا
الاحتكام للغة يضع العملية على مستوى العلم. و بما أنه، من ناحية ثانية، عليه أن
يتخير مقاربة الأسلوب الذي يمكنه من حمل رسالة النص على أجمل ما يكون عليه الحمل،
عدا عن تمتعه بحس و فطرة سليمين لإختيار المفردات الأكثر صلاحية، وهي ناحية لها
علاقة، دون ريب، بالذائقة، فهذا يضع مهمة الترجمة في رحاب الفن. و مثلما نرى، إذ
أنه في الحالتين سواء أعند إحتكامه المترجم الى اللغة أو عند إستعانته بالفن، فهذا
سيدخله، دون ريب، رحاب الأدب من أوسع باب . ، و إذا أخذنا جملة العوامل تلك مجتمعة
، فإن أي خطاب مكتوب أو غير مكتوب له علاقة ، الى هذا الحد أو ذاك، بالأدب ما دام
الأدب يؤدي دور "التغذية الراجعة feedback " للغة
على الدوام . . لنأخذ مثلاً على ذلك ما هو شائع في إطلاق مفردة "أدبيات"
في العربية، أو مفردة "literature "
المرادفة لها في الإنكليزية، على مجموع المعارف المتحققة في أي حقل من حقول
المعرفة سواء أكانت علوم إنسانية أو علوم بحتة، إذ نجد في ثنايا كتابتها ما يشير
إلى علاقة إفتراضية، منظورة أو غير منظورة، بالأدب. و بما أن الترجمة هي الوسيلة لنقل
الخطاب من لغة الى لغة أخرى، لا بد أن تكون لها علاقة بميدان الأدب، شئنا أم
أبينا، فضلاً عن ميل منشئي النصوص و الكتابات جميعا، أي كان صنفها أو جنسها، الى
إظهار ما يكتبون بأبهى حلة. و هذا لوحده كفيل بربطها بالأدب!
* * * ** ****** ******
ثمة
ظاهرة تسترعي الإنتباه . . و هي أن غالبية المترجمين المبدعين، عربيا و الى حد ما
عراقيا، هم من خارج الاختصاص. فنرى مثلا أن منيربعلبكي صاحب القاموس الشهير، الذي
ندين له بالكثير، كان إختصاصه التاريخ! . . و طيب الذكر يوسف عبد المسيح ثروة كان
خريج الدراسة الإعدادية و معلما للغة الإنكليزية في المدارس الإبتدائية و ليس أكثر
من هذا! . . و محمد حسنين هيكل كان قد تألق في الترجمة مع أنه تعلم اللغة
الإنكليزية تعلما ذاتيا! . . و هذا هو العقاد أيضا لم يكمل الابتدائية! . .
-
فكيف يفسر المرء هذه الظاهرة؟
إن جئنا الى
الواقع . . سنجد أن في هذا الموضوع مفارقة كبيرة دون ريب، و لكنه أضا موضوع يسترعي
الانتباه. و مع ذلك، فهو ليس غريبا و لا
نادرا أن نجد الأمور تسير في هذا المنحى. و أقصد بذلك: أن يبرز شخص و يصير معروفا
في غير الإختصاص الذي درسه أو الذي تدرب عليه. و لا يقتصر هذا على حقل الترجمة.
فبالإضافة إلى الأسماء التي ذكرناها آنفا كان مصطفى جواد الذي إعتدنا على توصيفه "علامة
بالعربية" لم يكن إختصاصه العربية أصلا، بل إختصاصه الأكاديمي كان غيرها! . .
و علاء بشير التشكيلي المعروف هو في الأساس طبيب! . . و أحد أهم مترجمي الرواية عندنا
حاليا طبيب أسنان هو د. عبد الأمير صالح الحكيم الذي ترجم لحد الآن على ما يربو على
عشر روايات! . . و لا ننسى أيضا واحدا من أهم المغامرين في ترجمة الشعر و هو د.
ماجد الحيدر، فهو أيضا طبيب أسنان حول عيادته في المقدادية الى منتدى أدبي يلتقي
فيه أصحاب الحرف بعد أن يفرغ من مراجعيه ،حسبما أعلم! . . و إذا ذهبنا بعيدا قد يتفاجأ
المرء إذا ما علم بأن أغلب علماء اللغة في الغرب هم من خارج إختصاص اللغة، بخاصة تلك
الأسماء المعروفة التي أحدث أصحابها إنعطافا
مهما و مثيرا في دراسة اللغة، بخاصة في حقبة ما بعد البنيوية. و أقرب مثال
لدينا هنا هو نعوم جومسكي، الذي أوجد فكره اللغوي أغلب ما شاع من مفاهيم في دراسة
اللغة من قبيل "المدرسة التوليدية generative "
و " المدرسة التحويلية transformationalist"،
إذ كان إختصاصه الأصلي في الرياضيات، ناهيك عن إشتغالع بقسم لا علاقة له بدراسة
اللغة (في كلية بوليتكنك) . . و غيره العديدون. و الشئ بالشئ يذكر، فإن طيب الذكر
عبد المسيح ثروة كان معلما للإنكليزية، و كان معلمي أنا شخصيا، و إبن محلة
"القيصرية" المقابلة لمحلتنا "الكنث" قي بعقوبة، و صار فيما
بعد رفيق سجني في معتقل بعقوبة عام 1963، و قد تعلمت منه الكثير. و كان مثلي الأعلى للعصامي
الذي يعلـِّم نفسه، فأنا أيضا مثله تعلمت الإنكليزية بمواهبي الذاتية، حتى أني حين
إلتحقت بكلية التربية (أبن رشد) و قد جاوزت الخمسين من العمر، تفاجأ أساتذتي
بحصيلتي، التي قالوا عنها آنذاك إنها أكثر بكثير مما يتلقاه خريج البكالوريوس في
اربع سنوات دراسية. و من هنا . . فأنا، في الواقع، أرى أن علاقة جرثومة المعرفة و
الإبداع يغذيها مصدر لا نعرف عن سره إلا القليل. إنه سر الطبيعة السرمدي. و أنا
ألوم أنظمتنا التربوية التي أخفقت حتى الآن في إيجاد آلية يستطيع بها المجتمع إكتشاف ما أسميه مجازا "الميول المعرفية cognitive
dispositions " في عمر مبكر من حياة الفرد، لكي يتسنى
له أن يحظى بالرعاية المطلوبة اسريا و اجتماعيا.
و إذا عدنا إلى
الترجمة . . لن يكون ثمة ما هو جدير بالإعتبار إذا ما علمنا، مثلما قلت، بوجود
تقليد غير مدون في حقل الترجمة . . و هو تفضيل
أن ينصب جهد المترجم أساسا على الترجمة إلى لغته الأم و ليس العكس، و يفضل أيضا أن تجري الترجمة من
المصادر العلمية من لدن مختص بالحقل المعرفي المعني بعد أن يحصل على تحصيل أولي باللغة المعنية. كأن يترجم المختص بالتربية كتبا في
التربية لا في غيرها، و ما شابه ، لأنه سيكون أقرب الى "معجم register"
مصطلحات إختصاصه و دلالاتها من غيره من
المترجمين. و لكن بشرط مثلما قلت، و هو أن يحصل على تأهيل كاف باللغتين، باللغة
المصدر و باللغة الهدف، لأنه بذا يكون الأقرب إلى، و الأكثر تماسا مع و دراية،
بمفاهيم اللغة المتداولة في إختصاص.
a_kh_shalan@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق