An
essay on educational concerns ...
Education
and Culture in the Iraqi Schools: The
Infrastructure of the Iraqi Culture.
Ahmed Khalis Shalan
مقالة في الشأن الثقافي ...
التربية و الثقافة في
المدارس العراقية: البنية التحتية للثقافة العراقية
أحمد خالص الشعلان
هل ثمة من بين أهل الثقافة من يقدر على الإجابة بـ "نعم" على
سؤال من قبيل:
-
هل مشهدنا الثقافي يسرّ الناظر إليه من أهل الثقافة؟
لا أظن أننا قد نجد من سيقول "نعم"، إلا إذا
كان شخصا من نوع تركبه الأوهام حول مفهوم الثقافة!
و إذا ما جاءت الإجابة
"لا ليس ثمة ما يسرّ!"، صريحة على هذا النحو . . فما هو الحل، إذن؟
في الواقع، نحن غالبا ما نقرأ على صفحات المجلات و على صفحات
الجرائد الثقافية الكثير من سرداً عموميا له شأن بمشكلة الثقافة، و لكننا نادرا ما نسمع من أحد، أو نقرأ
عند أحد، كلاما يضع اليد على الجرح . . أعني أن يشير أحد ما لنا قائلا: "أن الحل
يبدأ من هنا" . . مع أننا أحيانا نقرأ رأيا يقول بأن المثقف لا يعطي حلولا!
عجبا! . . بيد من، يا ترى، هي الحلول التي ستنتشل الثقافة
العراقية من حالها المزري؟ أهو بيد المثقفين، أم بيد غيرهم؟
علينا إذن أن نحدد من أين نبدأ!
و لا أريد هنا أن أعيد ما قيل، و ما يزال يقال، من كلام إمتلأت
به آلاف الصفحات منذ نيسان 2003 و حتى الآن. و كلٌ أراد أن يدلو بدلوه في هذا الأمر،
لتبيان تلك الحقيقة المرة، التي نعرفها جميعا، حكاية نهج التسطيح و التغييب الذي
مورس ضد العقل و الوعي العراقي أبان عقود طويلة. و لكن المرء، لكي يعرف من أين يبدأ
لإنتشال ما تبقى من ذاك الوعي، و من أجل ضخ دماء جديدة فيه، عليه أولا أن يحدد حجم
الكارثة التي حلت بالثقافة العراقية، محصلة لذاك التسطيح والتغييب!
فالديكتاتورية لم تكن غشيمة، مثلما لم تكن بريئة! . .
ذلك، لأنه صحيح أنها حاولت بالظاهر أن تجيّر النشاط الثقافي لصالح سياساتها
الأيديولوجية، بالترهيب حينا و بالترغيب حينا، الا أنها، من ناحية أخرى، حاولت على
الأقل أن تبقي القنوات الثقافية في المدارس مفتوحة أمام تلامذة المدارس، مع سعيها
للإستفادة من قول القائل: "خذوهم صغار". و ذلك، بإستغلال سافر لدروس
الثقافة في المدارس . . و أعني هنا دروس الرسم و الموسيقى و معها دروس الرياضة، إذ
سعت من خلال هذه الدروس الى تحويل الفتية الصغار الى كائنات "حنديرية" (و
الحنديري هو الغطاء الذي يوضع على عيني الحصان عند العدو لا يرى شمالا أو يمينا-
مع الإعتذار لنصيف فلك). فوقع المحذور و "أخذتهم" الديكتاتورية "صغارا"
في رياض الأطفال و المدارس الإبتدائية و المتوسطة و الثانوية، و إنتقلت مع أولئك
الصغار إلى الكلية، حيث حلت الكارثة بالعقل العراقي في أعتى مراحل سقوطه تراجيديةً.
و منذ ذاك الزمان توالت إنكسارات العقل العراقي!
و المرء لا ينسى أبدا كيف كانت تتشكل البنية (المعنوية)
للثقافة العراقية في المدارس، قبل الانقلاب على الملكية في الرابع عشر من تموز
1958، و بعد الرابع عشر من تموز . . إذ كانت البنية الثقافية في المدارس تتشكل بوجود
حصص عملية لممارسة الرسم و الموسيقى و الرياضة (الرياضة برأيي هي أيضا ثقافة)، تساهم
جميعا لا بخلق توجهات فنية كي تتحول فيما بعد الى قيم ثقافية يكتسبها التلامذة
الصغار بالتدريج فحسب، و إنما تساهم أيضا بصياغة الأشكال الأولية للوعي الجمالي عند
التلامذة، و هم يتحولون الى فتية لهم إهتماماتهم الثقافية و الجمالية، فضلا عن إرضائها
للكثير من الجوانب الروحية . . و المرء هنا لا ينسى أيضا كيف كرست تلك الحصص
الدراسية، أبان حقبة الديكتاتورية، لتمجيد الدكتاتور و ليس لتمجيد الوطن و ثقافته
الروحية. و ذلك، بتنمية روح الحرب و البداوة، على حساب القيم الجمالية الحضرية و الإنسانية
الحقيقية، و على حساب الإرث العقلي و الجمالي العراقي بكل مكوناته . . و مثلما
قلت، لم تكن الدكتاتورية بريئة و لا غشيمة و لا متحفظة، بل كانت أيضا صلفة و وقحة إلى
حد الإستخفاف بأبسط القيم التربوية، بخاصة حين أرادت لهذه القيم التربوية الثقافية
أن تنخرط في سيناريو الحرب العراقية - الإيرانية (التي كان الطرف ألآخر، الفارسي، فيها
أشد بداوة عقلية و تخلفا و رجعية طائفية و حبا لسفك الدم، إن لم يكن ذاك الطرف
أبشع بكثي، و هذا ما تثبته لنا هذه الأيام!)
و لم يكن ذاك، في الواقع، سوى إستغلال فظ للتربية و
الثقافة، تمادى فيه من تمادى، فأوصل النظام التربوي، بوصفه المنظومة المسؤولة عن
تشكيل البنية التحتية المعنوية للثقافة العراقية و للذائقة الجمالية و الروحية
للفرد المتعلم، الى أسفل درك استطاع ذاك الاستغلال بلوغه!
و ذاكرة المرء هنا، من أجل
المفارقة الدلالية، قد لا تنسى أبداً تلك الزيارة، التي بـُثت من على شاشة
التلفزيون أبان ثمانينيات القرن العشرين، إستخفافا بالعقل العراقي . . تلك الزيارة
التي فاجأ الديكتاتور بها إحدى مدارس قضاء الخالص، فإرتبك معلموها لعدم إستعدادهم
لتلك الزيارة. حين دخل الديكتاتور هناك على أحد المعلمين في درس العلوم، فوجده
يقدم لتلامذته تلك التجربة المعروفة الشهيرة، التي مرت علينا جميعا و نحن تلامذة،
تجربة البيضة المسلوقة و القنينة، التي تتحدث عن تأثير الضغط الجوي. و لكن ما حصل
آنذاك هو أن ذاك المعلم، العاثر الحظ، لم يكن
قد عثر آنذاك على قنينة بالحجم المطلوب، فأتى على إستعجال بقنينة معجون، بالإمكان
أن تنزل من فوهتها، لا بيضة واحدة فقط، بل خمسة بيضات مرة واحدة، طبعا دون عون من
أي ضغط جوي و لا هم يحزنون! . . و راح المعلم المسكين يحمل بيده بيضة غير مسلوقة،
و دون أن يشعل نارا في القنينة ليطرد ما فيها من ضغط، مخاطبا تلامذته قائلا: "أنظروا
كيف تنزل البيضة بسهولة في القنينة بتأثير الضغط الجوي"، فضحك الديكتاتور
ضحكته المجلجة المعروفة تلك، و علق مخاطبا المعلم المسكين: "أستاذ، هذي بيضتك
راح تنزل ركض بلا ضغط جوي!". ثم سرعامن ما تجاهل الدكتاتور ذاك المعلم، و إستدار
الدكتاتور ليخاطب التلامذة الصغار سائلا إياهم أولا فيما إذا كانوا قد غسلوا صباحا
"سنيناتهم!"، ثم سألهم فيما إذا كانوا يحبون "الكوان"، و من
منهم "يريد يكاون"؟ . . فرفع الصغار جلّهم أيديهم تأييدا للكوان! و آنذاك
. . لم يكن في هذا مفاجأة سوى لقلة محدودة من الناس آنذاك (أزعم أني وحدا منهم)
بعد أن وضفت دروس الرسم لمدة طويلة لتدريب الطلبة على رسم البنادق و الدبابات
الهادرة و الطائرات المغيرة حسب، و تدربوا في درس الموسيقى أناشيدا لتأليه
الديكتاتور!
يذكرنا هذا، دون ريب و بمرارة، بما قاله دون كيشوتة بطل
ثيربانتس لتابعه سانشو بانثا "اعلم يا عزيزي سانشو أنه إذا وقع حجر على إبريق
فالويل للإبريق، أما إذا وقع إبريق على حجر، فالويل أيضا للإبريق!
و هكذا حصل آنذاك . فوقع، في ذاك الزمان، حجر البداوة
و العنجهية مصحوبا بتعصب العشيرة على إبريق الثقافة التربية، و كان
الويل للإبريق! . . و ها هو إبريق
الثقافة و التربية هو الواقع، منذ عام 2003 في زمن الديمقراطية، على حجر
البداوة و العجنهية مصحوبا هذه المرة بعصاب الطائفية، و ها هو أمام أنظارنا
الويل أيضا للأبريق!
و سرعان ما تحولت زيارة الدكتاتور المشهورة تلك آنذاك عند
أنصاف المتعلمين من المعلمين الى مادة للتندر على المعلم المسكين، في حين كان لا
بد لها بالأحرى أن تكون مناسبة، و موقفا جللا، لرثاء العقل العراقي و الثقافة
العراقية، جراء الحجر الذي أصاب حب العراقيين للمعرفة و تقديرهم لقيم الجمال، بسبب
فظاظة الحجر، الذي ألقي على الثقافة العراقية و التربية العراقية و بشاعته و
قسوته، في تعميق نهج قائم على مسك الذهب و تحويله الى تراب، و مسك الإنسان و
تحويله إلى مسخ! . . و كان قدرنا الإنتظار،
حتى نرى بأم أعيننا أيضا كيف جرى ترسيخ هذا النهج بعد الإحتلال، حين راحت قوى
الظلام ببكائياتها السمجة، و هي تحاول تحويل المسخ الى مسخ بإمتياز!
و الشئ بالشئ يذكر . . لم تكن ثلة الدجالين، عند الطرف
الآخر، في إيران، هي الآخرى لتفعل بالثقافة إلا ما يحسب، دون ريب، أشنع من هذا
بكثير! . . و حقيقة من هذا النوع عرفناها
بعد الإحتلال، بدلالة ما يفعله بالثقافة أعوان أولئك الدجالين من العراقيين
المنتشرين في المدارس العراقية بعد نيسان 2003!
و الآن . . و ها نحن نعلم حجم الكارثة و فداحة المصاب! فما هو الحل يا ترى؟ . . و من أين نبدأ؟
دار
كلام كثير، و ما يزال يدور، عن هذه العلة . . فأين تكمن العلة؟
هل العلة في المثقف ذاته، أم في
المنظومة السياسية - الإجتماعية الحالية التي يتفرع منها نظامنا التربوي الحالي،
أم في هذا الطلاق الذي نراه بيّنا بين السياسيين و المتدينين من طرف و الثقافة من
طرف آخر؟
يقال لنا، تارة، إن ما يجري الآن من تغييب لتربية
الذائقة في المدارس مرده الى أن المثقف صار، منذ نيسان 2003، يتعالى على السياسي، تعويضا عن طول إذعان
للسياسي الديكتاتور، ما أدى الى تجاهل السياسي لموضوع الثقافة، فتدهور حالها في
المدارس!
عجبا! . . مثقف يتعالى على السياسي، ثم يروح ليستجدي من السياسي
في أول فرصة سانحة قطعة أرض، أو راتبا من نوع ما، أو هبة من أي نوع!
و يقال لنا، تارة أخرى، أن الساسة الحاليين منشغلون فيما
يعدّ عندهم أهم من الثقافة بكثير، في مسعى لا تقدم فيه الثقافة، أو تؤخر رجلا، في
الصراع على مراكز القوى و مصادر الثروة و غرف الأموال و الإستحواذ على كل ما يمد
السلطة بأسباب البقاء، بتغليف هذا الصراع، طيلة الحقبة الماضية، بحرص على البلد بالتظاهر
بالعمل من أجل إخراج المحتل من الجنة التي دنسها بمجيئه، و كأن حالنا كان قبل
مجيئه يشبه حال المؤمنين الذين فازوا بالجنة؛ يفطرون عسلا، و يتغذون على قطوف
دانية، و يتعشون من سواقي لبن و خمر لا تنضب . . و يقضون لياليهم مع الحور الحسان!
و الآن . . ما العمل و قد ولىّ المحتل الى غير رجعة منذ
أربعة أعوام و نيف؟
ها هم نراهم . . ما أن ينوي المرء فتح ملف الثقافة و دور
التربية في الثقافة، و دور الثقافة في التربية، مع أي من السياسيين، نجده يروح
يروج لأحدوثة تصنيف المداخل التي نحتاجها لتنمية البلد الى مداخل رئيسة و فرعية، فيتحدثون
عن الحاجة الى الأمن أولا من أجل الحفاظ على المكسب الديمقراطي (كذا!) كمدخل رئيس،
و يروحون في الوقت نفسه يصفون مدخل التربية و الثقافة على أنه مدخل فرعي، بالكاد
يوجد له دورٌ مقارنة بالأمن!
و لكن السؤال الذي يبرز حالا هو:
- أيمكن الحفاظ على العملية الديمقراطية و تطويرها،
ما لم يجري بالتوازي معها التأسيس لسلوك تربوي ثقافي يكون عونا للعملية
الديمقراطية؟!
و المنطق هنا يقول أن مهمة من هذا النوع لا تجري بمعزل
عن خطة للنهوض بالمدرسة العراقية و السياسة التربوية، غايتها إشاعة متطلبات مناهج تربوية ذات خواص ثقافية تقدمية
تنويرية، لأن مناهج المدارس بوضعها الحالي بإمكانها أن تضع مليونا من العصي في
عجلة الديمقراطية (و أقولها و قلبي يقطر حزنا، بسبب تدني وعي المعلمين و المدرسين
و ترويجهم للخرافة أيضا و لكا ما يعادي الثقافة و العلم!).
المطلوب من الجميع، إذن، عدم الإنكفاء، و نسيان الماضي،
بخاصة روح الإنتقام و الثأر التي تغذيها الخرافة عند القائمين على أمور التربية
حاليا . . ذلك، لأن موضوعا خطيرا مثل موضوع الثقافة هو الذي سيؤسس للسلوك الثقافي،
الذي ليس من غاياته إقحام الثقافة في سياقات الغاية منها الترويج للخرافة، هكذا
تعسفا، بل التأسيس لنهج طويل الأمد، عبر الإهتمام بالسياسة التربوية، تكون محصلته
إنشاء بنية تحتية جديدة للثقافة العراقية في المدارس في كل مراحلها، عمادها إعادة
الحياة إلى أنشطة فنية متنوعة كانت تزدهر بها يوما ما النشاطات اللاصفية في المدارس.
و إستعمال القوى الديمقراطية الحقيقية في البلد عامل ضغط بإتجاه تحييد مناهج التربية
و تحويلها الى منظومة وطنية إنسانية لا تركع لدين معين، أو لطائفة معينة، أو لقومية
معينة، أو لأي نوع من أنواع التخلف!
المهمة هنا . . مثلما هو واضح، إذن، هي تحرير عقول المعلمين
قبل التفكير بكيفية تحرير عقول الغضة للمتعلمين الصغار، التي يدأب، بل يبرع، أغلب المعلمين
الحاليين في جعل تلك العقول، معلقة في حاضر غائم، بين ماض غابر ملئ بالدم و مستقبل
ساحر هو الآخر ملئ بالدم، بمجيء "قوي أمين!" من نوع ما أو "مخلص منتظر!"
و سفك الدم هي أولى علامات حضوره! . . و لا أظنني أظلم شريحة من جمهور المعلمين
ممن ليسو أرقى وعيا من تلامذتهم، لأني أنا نفسي كنت معلما أبان حكم الدكتاتورية، و
شاهدت بأم عيني كيف إنساق المعلمون، و المدرسون، وراء نهج لم يكتف بإفساد ذائقتهم
و ذائقة تلامذتهم، بل سعى أيضا الى إفساد ضمائرهم . . و أنا لن أنسى أبدا ذاك
المعلم البعقوبي الذي رأيته قبل شهور في بغداد صدفة، و كان فيما مضى معلما للنشيد
و الموسيقى، ثم إرتقى آنذاك الى قارئ مقام معروف في الإذاعة و التلفزيون، و سألته
بلهفة عن حال الفن في بعقوبة، فأجابني بالنص "لا أستاذ! . . أستغفر الله! لا فن
بعد اليوم و لا يحزنون، فأنا الآن أؤدي فرائضي الدينية على الوجه الأكمل، و تبت
الى الله توبة نصوح!" . . و كان قد قالها، كما لو أنه يتوب عن "عهر" من نوع معين!
و الخلاصة هي . . أن المدارس في وضعها الحالي لا يمكن أن
تؤسس لثقافة، إن لم تكن تعمل الآن على تآكل قلب ثقافة الذي ينبض واهنا، بعد أن
أكلت الديكتاتورية أطرافها! . . و نحن ليس من حقنا أن نحاسب الناس على دياناتهم و
معتقداتهم، فهم أحرار فيها، و لكن في بيوتهم و ليس في مدارسنا! . . و من هنا، يكون
من حقنا أن نعترض، و أن نقاوم سلميا الى آخر رمق، بالحجة و الحجة المضادة، أولئك
الذين يريدون أن يحولوا ما يؤمنون به من مسلمات الى عقيدة للمجتمع بأسره، بأن
يفرضوها بالقوة على أولادنا في مدارسهم!
و قد يكون علينا إلا ننسى بأن التعليم، في كل حقب
التاريخ، كان دوما مشروطا بالأشكال الثقافية المسيطرة بقوة المركز السياسي و الإقتصادي
. . و هذا يصح على إتجاهات التفكير، كونها لا تجري في جو من اللاتحيز الشفاف. و
هنالك من شواهد التاريخ ما يكفي مما يبين للمرء
أن التعليم و بإستمرار يغدو وسطا يمثل إتجاهات للتفكير، ليست حيادية. إذ جرى في
حقبة الديكتاتورية، مثلما يجري الآن في المدارس، تغريب المتعلم عن بيئته الطبيعية،
على وفق مناهج تحرمه من ثقافته الروحية الأساسية المتمثلة بممارسة الفنون في دروس
لا صفية، التي كانت في حقبة الدكتاتورية مبنية على أساس مبدأ عماده خليط طائفي –
قومي . . و الآن يجري بناؤها على أساس مبدأ عماده خليط طائفي – ديني، بنهج متواصل
لوضع أسس دينية طائفية للتربية، غايتها حرمان الدارس من حقوق وهبته إياها الطبيعة،
حقوق من قبيل: الحرية، و التلقائية، و العقلانية، و الوجدان، و حب القيم الإنسانية
المشتركة. و هي حقوق، برأي الساعين إلى نهج السياسات الحنديرية، لا يتمتع بها أحد سوى
الآلهة المتعالية، و ظلالها من أنصاف الآلهة و أرباعها من البشر التابعين و
المقلدين على ألأرض.
ان إشاعة ثقافة من هذا النوع لا بد أن تؤدي، آخر الأمر، إلى
غياب العمق الداخلي و النشاط العقلي التلقائي. ناهيك عن أنها لا تدرب الفتية
الصغار على إتخاذ قرارات تخص مستقبلهم و وجودهم الإنساني، لأن إتجاهاتهم سترسم على
أساس "الحنديرية الثقافية" أحادية الجانب، و ليس على أساس التنوع الخلاق.
و هكذا يجري، في ظل مثل هذا النهج، إستبدال النزوع الطبيعي لمعرفة الحقيقة بحشفيات
من الفكر المتخلف، قد تحفز العقل، و لكنها لا تغذيه!
و إذا رغبنا حقا بإنشاء بشر متشبعين بفكرة العدالة و
المساواة و القيم الانسانية و الجمالية الخلاقة . . علينا إذن أن نعتني بكيفية إنعكاس
مثل هذه المفاهيم لا في فن المدارس فحسب، بل بمناهج الدروس عموما، بوصفها جميعا
قيما ثقافية و طبيعية في آن، فضلا عن حب الحقيقة، يرافقه تطلع مواظب للمعرفة
الواعية، يتجاوب مع ما يقدمه الواقع، بشقيه الطبيعي و الإنساني، من براهين، لا مع
ما تقدمه الخرافة من خيالات و شطحات و نوايا سيئة يتبعها تضليل سافر للوعي الإنساني.
فلنتوقف هنا إذن . . لتقييم الوضع مرة أخرى!
لا بد لنا أن نتذكر أولا، أنه بإمكان المناهج الدراسية
أن تتمثل الواقع، و تعكسه فنيا، في قيم تسعى إليها الثقافة. لكن، مع ضرورة الإنتباه،
من ناحية أخرى، إلى واقع قدرة المناهج الدراسية على ترويج التلفيق و الخديعة و النصب
و تهييج العواطف السلبية. إذ بإمكان هذا النهج أن يروج أما لقائد يزهق ملايين
الأرواح، قبل أن تزهق روحه، أو أن يبشر بمجيء إمام أمة سيزهق أرواح الملايين، قبل أن
يبشرنا بالعدالة!
و بما أن المناهج الدراسية تنطوي على هذا القدر من العناصر
و المعاني الكامنة، مخفية و منظورة، كونها بأية حال ليست مستقلة، و لا يمكن أن
تكون مستقلة إستقلالا جوهريا كاملا و مطلقا عن العالم الذي يدور من حولنا . .
علينا إذن أن نجعلها تنحاز لما هو جميل يسعى لتحقيق الصلح الإجتماعي. و من هنا،
علينا الإنتباه الى أننا ما لم نكن قادرين على صياغة تصورات، تبين لنا الطريق قبل
الخوض في أية تجربة، فمعنى ذلك إننا سنترك التخلف يعبث مرة أخرى، الى مدة أطول،
بعقول أطفالنا و فتيتنا، أو ربما يعني أننا مقصرون عن القيام بالمهمات التي على
المعلم المثقف أن ينوء بحملها!
و علينا أن ندرك أيضا بأن التربية لها لغة، و الثقافة
بكل صنوفها تعيش على هذه اللغة، لأنها ألأداة التي تساعد على الكشف . . و من هنا، لا
بد أن يجري تفريق بين اللغة التي هي حصة العلم و الثقافة و تلك اللغة التي تستعمل
في أقبية الآيديولوجيا الدينية، إذ لكل منهما ميدان. وأي خلط من هذا القبيل بين
اللغتين، لا بد أنه سيؤدي إلى خلق أنماط من الإستعمال التداولي للغة، يتشبع بها
عقل الدارس، فتنعكس بشكل أنماط معينة للسلوك، قد لا يكون من اليسير تكييفها أو
تعديلها فيما بعد. فالإختلافات في الرأي التي يعكسها فن المدارس تعد ظاهرة صحية،
لأنها سنة الطبيعة في تخلّقها المتواصل. و لكن حين يجري إذكاء هذه الاختلإفات في
المنهج المدرسي، لا على أساس أنها تنوع تفرضه الطبيعة و علينا تقبله عقلانيا، بل
على أسس آيديولوجية تعادي المساواة بين البشر، لتصل ربما الى درجة تثير بها
إنقسامات إجتماعية، لا بد ان تكون وراءها، حينئذ، خرافة من نوع ما، تغذيها، فيتشبع
الدارس بها لا شعوريا، و بما تثيره من نوازع للنفور من الآخر، و بالتالي رفض ذاك
الآخر، بتسميته أما كافرا، أو مارقا، لا نصيب له بالجنة المرسومة، سواء أكانت
أرضية عمادها التكالب علا الغنائم المتحة أو سماوية تبذل وعودا وهمية. و بالنتيجة،
سيرفض المتعلم الغض تدريجيا أي نوع من الثقافة التي لا تتفق و الأسلوب المعروض
للوصول الى الجنة الموعودة. ما يعني، و بالنتيجة، أنه قد ينقلب على كل أنواع الثقافة
التي تشيع عادة من طريق حصص دروس الموسيقى و الرسم و الفنون الأخرى، بما توفره من
غذاء روحي، على أنها ثقافة كفر.
و
أخيرا، و ليس آخرا، إن الفلسفة التي يستند عليها واضعو المنهج المدرسي سرعان ما
تنعكس، شئنا أم أبينا، على الواقع الثقافي، سلبا أو إيجابا. و هل ينسى المرء هنا
كيف إنعكس تأطير المنهج الدراسي، في بداية الدولة السوفيتية، سلبا على ظاهرة
الشكلانيين الروس في الفن و الثقافة، مما أضطر أغلب أولئك الفنانين و المثقفين
الشكلانيين الى الفرار من الدولة السوفيتية الى الغرب، فصارت أفكارهم هناك أساسا، لكل
ما وصلنا من ظاهرات مجددة و حديثة في الفن و في الثقافة، إبتداء من البنيوية و ما
بعد البنيوية، مرورا بالحداثة و ما بعد
الحداثة، وصولا الى كل ما تفرع من ذلك من فنون و آداب و معارف غزيرة، مما فيه
تحفيز للعقل و إغنائه و تغذيته. و كان ذاك الدرس بليغا جدا جدا، إذ سقطت الدولة
السوفيتية و بقي الفن!
و على الرغم من ذلك . . نحن نعلم جيدا، فإن التاريخ
اللاحق للتجربة السوفيتية لم يعدم تلامذة تاريخيين أغبياء هنا في العراق لم يتعلموا
شيئا من هذا الدرس البليغ!
و خلاصة القول هو أنه إذا ظلت نوعية التربية، و ما يتفرع
منها من إهتمامات ثقافية، تتردى، مرة الى قومانية، و مرة الى طائفانية دينية أو
عرقية، و مرة تالية لا ندري الى ماذا، فلا مستقبل للديمقراطية، و لا للثقافة، التي
تزعم هنا أنها تبغي الإعلاء من شأن الإنسان في هذا البلد.
و إنه لمن دواعي الحزن على الثقافة الديمقراطية . . أن
يجري إستنفار الهويات القومانية و الطائفانية في مناهج التربية على حساب الثقافة
الوطنية، دون الإستفادة من دروس الماضي، و حزننا يغدو أكبر حين لا ينتبه أحد لهذا
الشأن الخطير! . . فأن يجري، لحساب التخلف و الخرافة، تضييق الدائرة المدنية
العلمانية ممثلة بدروس الرسم و الموسيقى في المدارس، و إهمالها في مناهج التربية .
. فهذا لن يؤدي حتما إلا الى نشوء ثقافة هزيلة مشوهة، لن تعود بالخير على المتعلم
الفتي و لا على مجتمعه . . و هو ما يجب على المثقف أن ينتبه له و يتصدى له!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق