بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 5 أكتوبر 2016

كيف تعمل اللغة (2-2)


A Chapter from David Crystal’s   HOW LANGUAGE WORK  (2-2)       
Translated by: Ahmed Khalis Shalan
فصل من كتاب ديفيد كرستال . . كيف تعمل اللغة (2-2)
ترجمة:  أحمد خالص الشعلان
A. Kh. Shalan

David Crystal
                 
                                     
How to Treat Body Language
كيف نتعامل مع لغة الجسد               
حين يتحدث الناس عن لغة الجسد، فإنهم يقصدون بذلك مظاهر السلوك الجسدي تلك التي نقوم بها بدرجة معينة من السيطرة الواعية، و التي  تستعمل للتعبير عن أنواع عدة من الدلالة. و أنواع الدلالة التي نقصدها هنا عادة ما تكون  تعابير "بدائية" عن إتجاهات و علاقات إجتماعية. مثال ذلك التأثير بالآخر و العدوان و الجاذبية الجنسية و التحايا و التهاني و العرفان بالجميل و المفاجأة و محاولة جلب الإنتباه. و توظف للتعبير عن هذه الإتجاهات أشكال الإتصال اللمسية و البصرية على حد سواء.

الشكل اللمسي  
يبدأ الشكل اللمسي للإتصال غير اللفظي عمله عندما تحاول أجزاء من الجسد تحقيق إتصال جسدي مدروس مع الآخرين. و ثمة عدد كبير من النشاطات ذات الدلالة بالإمكان التعبير عنها بمثل هذا الإتصال، التي قد تعبر عنها المصطلحات المقترحة التالية:
             وكزة، عناق، مسكة، هزة، دفرة، قبلة، مس، مرغ،
             تربيتة، قرصة، لكمة، مصافحة، لطمة، صفعة، دغدغة

و تعمل الأفعال التي تعبر عنها هذه المفردات ضمن نظام بالغ التعقيد من المحددات الإجتماعية. بعض الأفعال تميل الى الظهور فقط فيما هو حميمي، مثلما هو ملاحظ في الملامسات الجنسية. و البعض الآخر مختص بالوظيفة، مثال ذلك ما تنطوي عليه النشاطات اللمسية من إباحة للأطباء أو أطباء الأسنان و الحلاقين أو الخياطين. و بعض آخر يرتبط بمناسبات معينة أو مراسيم معينة، مثالها المصافحة باليد عند عقد الأتفاقيات الرسمية أو الجثو على اليدين في بعض السياقات الدينية أو العلاجية.

إن القيمة التواصلية للنشاطات اللمسية تكون على أشد الوضوح عادة ضمن ثقافة ما. و مع  ذلك، فثمة الكثير من الإختلافات بين الثقافات. فثمة مجتمعات تعد أكثر تسامحا من مجتمعات أخرى في موضوع لمس أفرادها بعضهم لبعض، لدرجة أنه قد جرى تمييز بين المجتمعات على أساس التلامس contact و اللاتلامس non-contact ، بين تلك المجتمعات التي تفضل التلامس (مثالهم العرب و الأمريكيون اللاتينيون) وتلك التي لا تفضله (الأمريكيون الشماليون و الهنود). لذا، نجد في ثقافات المجتمعات الأولى أنه غالبا ما يمس المتحدثون أحدهم الآخر مرتين أو ثلاث في الدقيقة، في حين لا يحصل أي شئ من ذلك عند المجتمعات الأخرى.
و ثمة شئ له علاقة بإستعمالنا للإتصال الجسدي. ذاك هو الطريقة التي نستعمل بها  البعد الجسدي  و إتجاهاته من أجل إيصال المعنى المطلوب، إذ ثمة معايير لهذا الإقتراب ضمن أية ثقافة (أطواق التحفض  distance zones) التي بإمكانها أن تخبرنا عن نوع العلاقة الإجتماعية بين المشاركين في الحديث. الأمريكيون اللاتينيون، في سبيل المثال، يفضلون الوقوف على مسافة أقرب كثيرا من محدثيهم مما عند مجتمعات أوروبا الشمالية. و نجد في نظام الطبقات الدينية، مثلما موجود في الهند، إن طوق التحفظ المذكور المقبول قد يختلف الى درجة كبيرة  بين أتباع طبقة ما و أتباع طبقة أخرى، بحيث يتراوح من مترين الى عشرين مترا.

الشكل البصري  
نحن نستعمل الشكل البصري للإتصال غير اللفظي بالآخر بطرق عديدة. فنحن نقدر على إستعمال الأيماءات و تغيير تعابير الوجه، و نتصل بالآخر من طريق العين أو بتغيير وضعية الجسم. و تؤدي كل واحدة من أنواع السلوك هذه وظائف متنوعة. فحركات الوجه و الجسد تعطي مفاتيح تفسير لشخصيتنا و لوضعنا العاطفي. إن الوجه، بخاصة، بإمكانه أن يعطي إشارات عن مجموعة كبيرة من العواطف، مثل الخوف و السعادة و الحزن و الغضب و المفاجأة و الإهتمام و التقزز. و إن العديد من التعابير تختلف في معانيها عبر الثقافات. فعلينا إذن أن نتعلم أحيانا كيف نفسر الحركات الحاذقة جدا في وجوه الناس الذين يختلفون عنا في خصائصهم الإثنية.
و فضلا عن ذلك، إن الوجه و الجسد غالبا ما يبعثان بإشارات عن الطريقة التي يتواصل بها التفاعل الإجتماعي. فنحن نستعمل الإتصال بواسطة العين  eye contactلنشير الى الشخص المعني بإتصالنا من بين مجموعة من الناس، أو لنحث شخصا على التحدث من بعدنا. و نستعمل تعابيرالوجه  facial expressions  لنزود الآخرين بتغذية راجعة عن الطريقة التي تسلمنا بها رسالتهم، نعبر بها عن دلالات مثل الحيرة أو الإنكار. و نستعمل وضعية الجسد body posture، مثلا، لننقل بوساطتها موقفنا تجاه تفاعل من نوع ما يجري، كي نوضح فيما إذا كنا راغبين به أو أصابنا الملل منه. إن عددا من السياقات الإجتماعية غالبا ما يرافقها سلوك جسدي معين أو تعابير للوجه محددة، مثالها التلويح باليد ترحيبا بلقاء شخص ما، أو للإستئذان بمغادرة المكان. و نجد أيضا أن المناسبات الرسمية أو الشعائرية غالبا ما ترافقها إيماءات أو وضعيات جسدية معينة، مثالها الركوع و الوقوف و الإنحاء و التكريس.
و تستعمل بعض المظاهر البصرية على نحو واسع في الكثير من ثقافات العالم. مثال ذلك غمزة الحاجب eyebrow flash ، التي تستعمل لا شعوريا عندما يقترب الناس من بعضهم للتعبير عن رغبتهم بإقامة علاقة إجتماعية. فيقوم كل طرف بحركة يرفع بها حاجباه مرة واحدة، و يبقيهما مرفوعين  لجزء من الثانية. و يكون التأثير هنا تلقائيا، لدرجة أننا قد لا نشعر به. و لكننا من جانب آخر قد نرتبك عندما لا نتسلم غمزة متوقعة من هذا النوع  (من أحد معارفنا)؛ أو أن نستلم غمزة حاجب من شخص لا نعرفه، قد تكون غير مريحة أو باعثة للحرج أو ربما باعثة للتهديد.
و تختلف جميع الإيماءات و تعابير الوجه، من ناحية ثانية، عبر الثقافات الموجودة. و تكون هذه الإختلافات أحيانا من نوع تسهل ملاحظته جدا، بخاصة حين نزور مجتمعا تستعمل به هذه الإيماءات و تعابير الوجه بمعدل أكبر مما نستعملها نحن (مثال ذلك الإيطاليين مقارنة بالبريطانيين)، أو بمعدل أقل بكثير (مثال ذلك اليابانيين مقارنة بالبريطانيين). و نحن قد نميل حتى الى مزج عبارات للتعبير عن المعنى الذي تطلبه هذه الإختلافات، مثلما حين يحاول إنكليزي أن يصف الإيطاليين و كأنهم "يتحدثون بأيديهم"، أو  حين يشير الغربيون الى الشرقيين على أنهم أناس "غامضون".

و حتى لو بدى لنا أن مظهرا بصريا هو صفة تشترك بها مجتمعات عدة، فعلينا أن نكون حذرين، لأنه قد يكون حاملا لدلالات مختلفة. فإن رفع الإبهام قد يشير الى دلالة  إيجابية تعني إن "كل شئ على ما يرام" أو "أنا فزت" في أوروبا الغربية أو أمريكا أو في ثقافات متأثرة بالرومان عند إستعمالها كرمز على البقاء في صراع جبابرة المجالدة، لكنها في العالم العربي، مثلما هو الحال في في غرب أفريقيا و آسيا، أنها قد تعني رمزا للإهانة، مرادفا لما يفعله الغربيون حين يرفع أحدهم إصبعه الوسطى الى الأعلى (بما يسميه العراقيون "البعبوصة"– المترجم). و نتيجة  لهذا، و هو ما لم يكن واضحا تماما، بعد عقابيل حرب العراق عام 2003، حين كان العراقيون يـُرونَ على التلفزيون رافعين للأمريكيين إبهامهم الى الأعلى، فيما إذا كانت هذه  الإيماءة المعهودة عندهم بشقها الشرقي الذي ينطوي على الإهانة، أم أنها الشق الغربي للإيماءة التي تعني التعاون بوصفها إشارة للحرية.

إن معنىً معينا  بالإمكان، من الناحية الجدلية، نقله بإشارات بصرية مختلفة قائمة على التنوع. فللتعبير عن الإتضاع و الإختلاف يميل الأوروبيون، في سبيل المثال، الى مد أذرعهم و خفضها مع احناء الرأس أحيانا. و لكننا نجد في ثقافات أخرى إنحناء أشد في مثل تلك الحالات، بحيث يشمل النصف الأعلى من الجسد بالإضافة الى تذلل و زحف و سجود. و نرى أيضا أنواعا أخرى من حركات اليد، من قبيل جمع راحتي اليد و رفعها الى الأعلى (مثالها ما يحصل في شبه القارة الهندية).

خواص اللغة 
تعد لغة الجسد، مثلما هو واضح، وسيلة مهمة للإتصال بين البشر، و حين يأتي الموضوع الى العواطف و العلاقات الأساسية، تبدو لنا هذه الوسيلة و كأنها خبرة مألوفة تتجسد في إيماءة أو تعبير للوجه، بحيث يبدو جانبا من الإتصال الجسدي و كأنه "كلام بصوت عال" من غير إستعمال للكلمات. إن ما يعد كامنا في الإتصال الجسدي هو، من ناحية ثانية، قدرة اللغة الجسدية على التعبير عن الدلالة بطرق محدودة، إذا ما قورنت بتلك الطرق التي يتيحها الكلام أو الكتابة أو الإشارة. إن اللغة، مثلما سنبحث ذلك فيما بعد، تعرض خواصا معينة تعيننا على التعبير بطريقة تتفوق على أية طريقة تتيحها أية من طرق الإتصال غير اللفظية تلك. فنحن نقدر على التعبير عن دهشتنا أو غضبنا بإستعمال حركات الجسد، و لكن حين نريد أن نفسر سبب دهشتنا أو غضبنا لا بد أن نلجأ الى اللغة.

إنه لمن المحتمل أن تكون أغلب الخواص اللافتة للغة هي الطريقة التي تمكننا عمليا من الحديث عن أي شئ نريده. و إذا ما أخفقت اللغة في موقف ما، في عدم تزويدنا فورا بالكلمات  أو الجمل المطلوبة، فبإستطاعتنا تحويل مجرى التعبير للقيام بما هو مطلوب. و هذا هو ما نعنيه حين نقول إن اللغة البشرية  "منتجة  productive". إن "الإنتاجية  productivity" تعني القدرة على التعبير بإصدار عدد غير محدود من التعبيرات المحتملة و فهمها. و ذلك، بربط عناصر الجملة بطرق مستحدثة  ننتج بها كلمات جديدة مترابطة. إن أغلب الجمل التي نقرأها في أي كتاب تعد أصيلة، بمعنى أن لا أحد قد إستعمل بالذات تلك الكلمات المؤتلفة و التركيبات اللغوية من قبل. ويعني أيضا أن ليس ثمة تحديد لطول تلك الجمل، بمعنى إن أية من تلك الجمل بالإمكان إطالتها بإستعمال واو العطف and (أو أية أداة مشابهة) لربط أي كلام آخر بها. و  الشئ ذاته ينطبق على الحديث عن لامحدودية عدد الكلمات في أية لغة؛ بمعنى إن العديد من الكلمات الجديدة يجري إستتحداثها يوميا.

و عند المقارنة، فإننا لانجد أية "إنتاجية" في لغة اللمس أو اللغة البصرية، لأن عدد الإشارات التي تطلقها لغة اللمس أو لغة البصر في مجرى الحياة اليومية تعد قليلة جدا– لا تتعدى المئات فقط (مقارنة بمليون أو أكثر من الكلمات  المتداولة في اللغة الإنكليزية مثلا)، و التي لا تتيسر زيادتها إلا نادرا. فنحن بإستطاعتنا دائما إستحداث مفردة – أنا مثلا أستطيع ذلك الآن، بأن أتحدث عن السلوك "اللغوي الجسدي  bodylinguistic"، في حين سيكون ثمة محددات لقدرتنا على التخيل إذا ما طلب منا أحد أن نستحدث تعبيرا بالوجه جديدا أو إيماءة بالجسد. و ليس بإمكان طرق الإتصال غير اللفظية هذه أيضا أن تأتلف لإستحداث مجموعة كبيرة من الأفعال المتنوعة، مثلما  نستطيع ذلك حين نتعامل مع الجمل على نحو مألوف. إننا لا نجد حقا نوعا من التوسيع في الخزين الدلالي  إلا في عالم التعبيرات الفنية، ومثالها الأشكال المتنوعة في رقص الهنود، فيما تعبر عنه حركات اليد من رموز بما يعرف بـ "مودراس mudras".

و ثمة إختلاف مهم آخر بين اللغة و لغة الجسد يكمن في الدلالة الأعظم لمعمار بنية الكلام و الكتابة و الإشارة، إذ تستفيد اللغة من مستويين levels أساسيين موجودين في تنظيم هذا البناء. ففي المستوى الأول نجد إستعمال الأصوات أو الحروف - ج ، ل ، س ... الى آخره – التي ليس لها معنى فعلي، فليس من الممكن السؤال عما يعنيه حرف "ج". و على المستوى الثاني نجد هذه الأصوات أو الحروف و قد إئتلفت بطرق متعددة لكي تكون العناصر التي تنقل المعنى- في كلمات أو عبارات أو جمل. و بذا، يكون  من الممكن السؤال عما تعنيه مفردة "جلس".

تسمى هذه الخاصية بـ"ثنائية المبنى duality of structure " أو بـ"اللفظ الإزدواجي   double articulation "، و هو ما لا نجده في لغة الجسد. إن الحركات التي تتشكل منها لغة الجسد عادة ما تنقل نوعا من المعنى. و بذلك، إذا ما رفعت حاجبي الأيسر بحركة ذات مغزى، أو تبسمت، أو رفعت إبهامي الى ألأعلى، فإن ذلك يبعث تلقائيا برسالة ما، و تبقى هذه الرسالة تحمل المعنى ذاته متى ما أستعملت في إطار الثقافة التي أوجدتها. و ليس في إمكاننا بناء طيف واسع من "جمل" لغة الجسد التي تعني شيئا مختلفا عن المعنى الذي تحمله  محتويات عناصر هذه اللغة. ذلك، لأن لغة الجسد ليس بالإمكان تحليلها الى مستويين في بنيتها.

و نحن لا نستطيع، للأسباب المذكورة آنفا، أن نسمي "الإتصال بين الحيوانات "لغة". إن تعبيرات الوجه و الإيماءات و السلوك اللمسي الشائع  في مملكة الحيوان يفتقر الى صفة "الإنتاجية" و ثنائية المبنى، مثلما تفتقر إليهما لغة الجسد عند الإنسان، إذ نرى أنه حتى أشد أنواع السلوك تعقيدا، المتمثل برقص النحل أو غناء الطيور، يبدو لنا بالغ المحدودية فيما يستطيع إنجازه، إذا ما قارناه باللغة البشرية. فبإستطاعة النحل أن يتحدث عن الرحيق و لكن ليس عن أي شئ آخر.

و ثمة عددٌ آخر من الفروقات ذات الأهمية بين طرق الإتصال عند الحيوانات و اللغة عند البشر. فاللغة تمكننا، بخاصة، من الحديث عن الأحداث المتباعدة عن المتحدث في المكان و الزمان، ما يعني إني أستطيع أن أتحدث عما حصل في الماضي القريب أو البعيد، أو عما  أفكر به بخصوص المستقبل القريب أو البعيد. إن خاصية اللغة البشرية هذه – و تسمى عادة "الإنزياح  displacement"– تعد من نوع الخواص التي تتجاوز الى ما وراء ما تحمله إشارات الحيوانات من دلالات، تعكس حوافز  stimuli (مثل بروز الخطر أو تعيين إتجاه مصدر الغذاء) التي يواجهها الحيوان في بيئته الحاضرة.

و على الرغم من وجود أوجه شبه مصطنعة، فإن ما يزعم عما يجري في ما يسمى      "لغة الجسد" و "لغة الحيوان" هو شئ مختلف عما يجري في اللغة بحدود المعنى الذي نتناوله هنا. و إني لأجد ان الأمكر يكون أوضح إذا ما تجنبت ذكر مصطلح "لغة" في الحالتين، و لوصف الظاهرتين، إني في الواقع أفضل إستعمال مصطلحين أكثر عمومية – مثل طريقة "الإتصال الجسدي" و طريقة "الإتصال عند الحيوان". و ليس ثمة خطأ، بالطبع، في إستعمال مصطلح "لغة" مجازا، طالما كنا ندرك ماهية ما نتحدث عنه، بوصفه ليس أكثر من تقريب غامض لسلوك معقد البنية نجده يقوم بوظائف متعددة حين نتحدث أو نكتب أو نشير.      
         
   






 


       








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق