An essay on
rural poetry …
… Invaders
of Metropolises and Invaders of Wilds
Ahmed Khalis
Shalan
مقالة في الشعري القروي و الشعراء القرويين . ..
... فاتـحـو الـمـدائـن و فـاتـحـو الـبـراري
أحمد خالص الشعلان
يقول
الكسندر بوب Alexander Pope في قصيدته
المعروفة "مقالة في النقد An Essay on Criticism "
"وضعت
الطبيعة حدود كل الأشياء
و
ضبطت بحكمة حتى عقل الإنسان المتظاهر المغرور
فبينما يغمر مدُّ المحيط ها هنا أرضا
يترك
جزره في أماكن أخرى رمالا عارية
و
كذا هو أمر الروح حين تنكشف الذكرى
تخفق
القوة الجوفاء للإدراك
إذ
تعبث أشعة المخيلة الدافئة
فتتلاشى صور الذاكرة الواهنة
هذا
علمٌ فريدُ يصنعه نابغة
و قدر ما يكون الفن رحيبا يكون وعي
الإنسان محدودا."
A. Pope |
هكذا يصور بوب الأمور، إذن! . . الطبيعة وازنت كل شئ في
واقعها، و وضعت لوجودها تلك النواميس الأبدية الأزلية التي تزن تحولاتها. و ظلت
الطبيعة تتحول على وفق تلك النواميس ملايين السنين، حتى ظهور المادة العضوية التي
مهدت لظهور أول خلية حية كانت ثنائية الجنس، ثم تحولت آخر الأمر إلى أحادية الجنس
أسس لتمهد لظهور تحولات إرتقائية أخرى . . و على الرغم من ظهور هذا التطور النوعي
في تحولات الطبيعة، الذي أَذِن بظهور أول نوع بيولوجي تشعب فيما بعد إلى أنواع ،
كانت تحولات الطبيعة تسير على وفق نواميسها، إلى أن مهدت تلك التحولات لمجئ ذاك
النوع البيولوجي الذي إستقامت قامته على طرفين يمشي عليهما بعد أن ظل أسلافه ملايين
السنين يمشون على أربعة أطراف. وعلى الرغم من إنتصاب قامته بين آلاف الأنواع التي
كانت ما تزال تمشي على أربع، ظل هذا الكائن البيولوجي النوعي يعيش بإنسجام مع تلك النواميس التي وضعتها الطبيعة.
و في إنعطافة نوعية أخرى، ما يزال سرها
دفينا، ظهرت أولى نتائج ذاك الإنتصاب في القامة . . و أعني بواكير الوعي. و ظل هذا
الكائن، على الرغم من إكتسابه لشئ يميزه عما يحيط به ، يتوهم أن كل ما من حوله يمتلك
ما يمتلكه هو من ملكات وليدة ، ما يشير إلى انه حتى هذه الحقبة من تاريخه كان يعيش
بانسجام تام مع ما حوله ومن حوله، لأنه لم
يصل إلى مرحلة الإنسلاخ الوجودي من الطبيعي. و بذا، كانت محصلة إنتصاب قامته ما
تزال حتى ذلك الوقت تسير بتساوق شبه تام مع متطلباته البيولوجية لأنه لم يكن يعرف
خيرا و لا شرا، حاله جال الكائنات الخرى في الطبيعة. و هكذا كانت تحركه دوافعه
الأولية، و لم تكن قد تولدت لديه دوافع ثانوية لها علاقة بوجود يتعالى على تلك
الدوافع. و كانت اللحظة الأكبر والأهم و الأخطر، في حياة هذا الكائن و تاريخه البيولوجي و المعرفي على حد سواء، هي تلك التي أدرك فيها
أنه شئ مختلف عما يحيط به، على الرغم من عشرات التشابهات القائمة بينه و بين ما
يحيط به، بأن صارت الطبيعة بما فيها غريمه الذي عليه مغالبته. و صحيح أن ذاك التحول الدراماتيكي
الفريد من نوعه، ربما في تاريخ الكون و ليس في تاريخ هذا الكائن فحسب، كان قد أدى إلى
تعالي هذا الكائن على ما حوله، لكنه في الوقت ذاته مهد لألعاب العبث، التي رغب بها
هذا الكائن، في موجودات محيطه. و هو عبث أدى في أغلب الحالات، دون ريب، إلى إخلال
بالتوازن الذي وضعته نواميس الطبيعة للوجود، تلك النواميس التي تحدث عنها آلكسندر
بوب في قصيدته. فهذا الكائن الفريد، مثلما يقول عنه بوب، راح محيط وعيه يغمر سواحل
كثيرة من دواخله بقواقع الوعي المحملة بلؤلؤ مخيلته اللامحدودة، و لكن في الوقت
نفسه كشف هذا الغمر بالمقابل سواحل أخرى في كينونته رمالا تذروها الريح. و كلما
أراد أن يستعيد ذاك التوازن الذي صنعته الطبيعة بنواميسها، سواء مع نفسه أو مع محيطه،
يروح و يتيه، في كل مرة، في تلك المسافة
السرمدية الفضفاضة المتحركة الهلامية أبدا، الكائنة بين سعيه لإرضاء دوافعه الأولية
التي أمدته بها الطبيعة و سعيه لإرضاء تلك الدوافع الثانوية التي يخترعها له وعيه
المفتوح على اللامتناهي. و كان هذا هو، دون شك، الركن السري الغامض المدهش، الذي إنبثق
منه الفن بأكثر أشكاله فطرية، و لغاية أكثر أطواره تعقيدا، في ممارسة تنطوي، من
جانب، على توق طاغ يشد الفنان المبدع، سواء أكان شاعرا أو رساما أو روائيا أو
موسيقيا، إلى إستعادة هذا التوازن، ومن جانب آخر يشده إلى الإيغال في كسر قواعد
هذا التوازن بغية الحصول على شئ يعينه على ردم تلك الهوة الكائنة بين دوافعه الأولية
و دوافعه الإفتراضية الأخرى التي كانت دوما نتاج وعي عَطِشٍ، يعيش وسط المحيط
محاطاً بالمياه من كل صوب، و كأننا به يشرب من ماء اليمِّ الذي لا يروي!
مثلما صوره كولرج:
Water, water everywhere,
But now a drop to drink.
ماء . . ماء في كل الإنحاء،
و لكن ما من قطرة تروي!
Coleridge |
و مع ذلك . . ليس من ظاهرة تخلو من إستثناء! . . فقد كان
ثمة دوما من المبدعين، ممن كان بعض فنهم ينبعث من دوافعه الأولية الأصيلة، دون أن
تدعمها دوافع إفتراضية يخترعونها لأنفسهم، بل تدعمها فطرة سليمة و حدس عفوي.
و أزعم أن . . الشعراء القرويون . . هم
من هذا الطراز الأخير من المبدعين. و لا غرابة، إذن، و نحن نقرأ شعراء من هذا
الطراز أو نسمعهم يغنون، يلازمنا شعور قوامه عودة إلى سذاجتنا و براءتنا الأوليتين،
اللتين يجري تغييبهما تحت ركامات الوعي، فساهم هذا التغييب في مضاعفة رعبنا من
المجهول. و هو شعور نادرا ما يلازمنا و نحن نقرأ لشعراء يقال لنا أنهم وضعوا "خارطة
أولى في إكتشاف المدائن الكبيرة، ......، و مجاهيل الكون، .....، و إنارة الظلام
المطبق على مصير الإنسان و إغترابه."
لذا، فليس من الغريب أن نقرأ عند شاعر
قروي بإمتياز (ربما لأنه أمين لفطرته السليمة) من طراز عيسى حسن الياسري:
أنا العشبة،
الريح الآتية في آخر
ساعات الليل،
المبتلة ندى ... و نعاسا،
أنّا لي أن
أوقفه ..
هذا المجنون
الراكض إلى نهايته؟
لا أسلحة لي،
هل أربطه في الأعشاب
الغضة
و تكسر أمواج
الشاطئ
و برودة قمر الليل ...؟
عيسى حسن الياسري |
هذا . . نورس . . يطالبه من يطالبه أن يرتقي فوق
سربه، يسافر كي يصير . . عرّافا في تخوم
السفر. و لكنه، مع ذلك، لم يعد . . جوناثان النورس الأسطوري . . المذكور في
الميثولوجيا، بل أنه كلما سافر و أوغل في السفر، يعود أكثر إلتصاقا بفطرته السليمة
و بحدسه العفوي، ينضاف إليهما حسه الإنساني الذي يتجاوز قرويته الشعرية . . فهل
يعد هذا عنده نكوصا عن فتح المدائن أم ماذا؟
و كنا نقرأ عند شاعر آخر، كان هو الآخر قرويا (و ليته ظل
قرويا!) قبل أن يفتتح المدائن و يصبح . . مفكرا
لمريديه . . ذاك هو مظفر النواب:
آنه يعجبني أدور على
الـﮕمر بالغيم،
ما يعجبني الـﮕمر كِلش
ﮔـمر،
يا عمر
كلك مطر،
يا فرح ﭼنك
قهر،
منين أجيسـﭻ تآخذ الختلات روحي،
ألـﮕـه عنبر،
ألـﮕـه مشمش ،
الــﮕـه غرنوﮔين
يصلن،
ألـﮕـه شي ساكت مثل
فرخ الحبر،
ألـﮕـه شي
ضايع نهر،
................................. "
النواب |
و مظفر النواب في الأصل شاعر مديني، ما كان لشعره أن يلامس
ذاك الحس العفوي و تلك الفطرة السليمة لولا معايشته المشهورة لشروﮔـية الجنوب
العراقي و لمعدان الأهوار . . و قدر لهذا الشاعر آنذاك أن يُفـرَّرَ رغما عنه، ليفتتح
مدائن كثيرة صار فيها . . مفكرا لمريديه. و لكن . . يا لحزني! . . لأنه منذ أن صار مفكرا صار ليس
قليلا من شعره كأنه يخرج من ماكينة تطبع ملايين النسخ من كلمات تشبه بعضها كأنها
في منشور من نوع ما. و هكذا خسرنا شاعرا قرويا إنشغل (أو ربما أريدَ له أن ينشغِلَ)
في فتح المدائن و شتيمة الحكام! . . و
ليته ظل يكتشف لنا تلك الأسرار القروية الصغيرة الحميمة، نقرؤها فتثير حماستنا
العاطفية و نطابق بها بين الحبيبة و الوطن، و تشد عروقنا فتثير حواسنا بما يزيد إلتصاقنا
بالوجود! . . و لكن . . يا لخسارتنا! . . أكان كثيرا علينا نحن قراء الشعر أن يظل
مظفر النواب شاعراً قرويا!
و الجميع يعلم أيضا بأن الشاعر سعدي يوسف ما أن
خرج من . . قرويته الشعرية . . إلى، ما أوهمنا جميعا آنذاك، أنه رحاب الأممية ،
ليفتتح مدنا و ممالك لم نسمع بها من قبل . . و لكن يا لخسارتنا مرة أخرى! . . و أنظروا
ما آلت إليه أمميته! . . فبدلا من أن يسمو فوق قرويته إلى كوزموبوليتانية يفزع إليها،
من نوع تلك التي فزع إليها هرمان هسه، جاءتنا أخباره، مشاركا في تزوير الإبداع تارة
(قضية مستغانمي)، و مستجيرا بصفحات أكثر الصحف القومية عفونة تارة، مقاوما من على
صفحاتها إحتلال العراق، و مضخما لذاته تارة أخرى . . شيوعيا أخيرا! . . و كأن
الشيوعيين تحولوا إلى جنس منقرض، على النحو
ذاته الذي تحول به . . آخر الأباطرة . . إلى جنس منقرض، و آخر الموهيكان الهنود
الحمر الى جنس منقرض! . . و هكذا جرى عنده إستبدال . . قرويته الأولية . . و . . شيوعيته الختامية . . باللغة، فضاع عنده
الواقع في ثنايا أوهام الكلام! . . ليت هذا الشاعر هو الآخر ظل قرويا إلى أبد
الدهر!
سعدي يوسف |
فضلا عن أنه صحيح أن ليس من حقنا محاكمة الشاعر على
خياراته، و لكن من حقنا أن نعرض نتائج هذه الخيارات. فمن المعلوم أن مظفر النواب و
سعدي يوسف قد تعرضا كلاهما إلى تجربة قلق الإختيار الوجودي الذي تحدثت عنه
الوجودية، على الرغم من الفاصل الزمني بين تجربتيهما في الإَفرار (فكلاهما فـُرِّرا
من الوطن و لم يفرا)، و خـُيّرا بين موت في الوطن و حياة في المنفى، فإختارا
الحياة في المنفى، في وقتٍ خـُيِّر غيرهما من الشعراء، في تجربة تزامنت بالضبط مع
تجربة إفرار سعدي يوسف، بين موت في الوطن و حياة في المنفى في الوطن، و لم يكن أمامهم
سوى أن يكونوا شهداء بامتياز!
لـِمَ علينا مطالبة كل شاعر قروي بنفض
ريشه، ما دام يلتقط لنا حب الكلمات و
يحوله إلى هديل و تغريد و غناء ينشط حواسنا، و ينأى بها عن الصدأ؟ . . أولسنا بحاجة لما يمرن حواسنا بخبرات جميلة، لكي يرينا
ما هو مألوف و حميم في حياتنا مما لا نراه؟ . . . و هل من الضروري أن يتحول كل شاعر، تنساب
عنده الكلمات من فطرته السليمة، إلى فيلسوف؟ . . أن يتحول الشاعر إلى حكيم يعرفنا
بقذارات المدن و بسكانها المأزومين أبدا و يعرفنا بالحافات الخطرة التي يضع عليها
البشر مصيرهم في هذه الحواضر، فهذه مسألة فيها وجهات نظر، لأنه شيء إستثنائي عند
الشاعر و في جنس الشعر فنا على حد سواء. و المثال الحاضر هنا هو هرمان هسه الذي
أراد أن يفزع إلى كزرموبوليتانية، يقهر بها المدن و يحطم بها الحواجز التي تضعها الأيديولوجيات
و الأديان و الطوائف بين البشر، فلم يجد إلى ذلك سبيلا سوى الذهاب بالمزيد من
"القروية" . . إقرأوا له قصته . . ذئب البوادي . . أو إقرأوا أشعاره
كلها أو قصصه الأخرى . . هذا شاعر أراد أن يفتتح المدن لمقاصد كوزموبوليتانية،
فصار فاتحا للبوادي! . . كم شاعر لدينا من طراز هرمان هسه؟
و خذوا مثالا آخر أدريانا عارضة ألأزياء التي ذهبت
لفتوحات في بوادي الحبشة . . و خذوا الممثل روبرت بيدفورد حامل الأوسكار مرتين
مثالا آخر الذي إشترى صحراء ليغزو بها البوادي . و خذوا مثلا آخر ميشيل خليفة الذي
غزى بادية، وراح لليال طويلة مثلما قال "يستمع إلى صوت الصمت"! . . و
خذوا مثلا آخر فيروز التي ظلت طيلة مشوارها الفني تغزو المدائن بفن قروي كله يتحدث
عن "الضيعة" . . أوليست الضيعة "قرية"؟
صحيح أن الشعراء قوم مغامرون، مثلما يقول عنهم
بوب في قصيدته "مقالة في النقد" المذكورة آنفا، و أنهم لا يمنعهم طول الحدود، لأنهم قبلوا بالحرية
الفطرية و آمنوا بها . . و لكنه، من ناحية أخرى، في قصيدة أخرى له هي "مقالة
في الإنسان An Essay on Man" يقول:
" يرنوا البشر
ليكونوا ملائكة، و يرنو الملائكة ليكونوا آلهة
الملائكة، في طموحهم
ليكونوا آلهة، ينصرعون
و البشر في طموحهم ليكونوا ملائكة، يعصون
أوليست الرغبات هي ما يشوش
الإتزان
و الخطايا هي ما يلوث جوهر الإنسان!
فهلا تركنا الشعر يقوله الشعراء و الحكمة يعلم
بها الحكماء؟ . . و إن حصل و وقعنا على شاعر حكيم فرد، يأتي في كل زمان من أزمنتنا
العقيمة، يعلن عصيانه، و يحلق فوقنا، لـيـُنبئنا بالرعب القادم على البشرية
بمفردات و تركيبات جمل نفهمها و تحرك مخيلتنا لتصور زمان أفضل من الذي نحن فيه . .
فطوبى لهذا الشاعر المتنبئ! . . و إلا
فكيف لنا أن نسمح للوثة الشعر التي
غزتنا منذ عقود أربعة مثقلة بالأيديولوجيات و الديانات و المعتقدات و سفاسف من شتى
أصناف البكائيات و الدرباشات، أن تراكم فوق جهلنا، و ما تزال تراكم، تحت مختلف
التسميات، لوثة على لوثة، مستغلة إستعارات اللغة، فيما يسميه مالك المطلبي بلغته
البنيوية الرصينة: "إستعارات لا تؤسس نموا نوعيا، بل تظل مجرد تراكمات يمكن
تكويمها إلى ما لا نهاية، كما نكوم أصفارا بعضها فوق بعض إلى ما لا نهاية!" .
. و النتيجة، دون ريب، ستكون صفر؟ . . فهلا
تركنا أي شاعر قروي يظهر بين ظهرانينا يعيدنا إلى براءتنا و سذاجتنا كلما كان ذلك
ممكنا؟
يا
جمهور الشعر! . . يا شعراء! . . لقد وضعت الطبيعة الحدود لكل شئ، مثلما يقول بوب،
فما نكسبه هنا نخسره هناك! . . و ها هي عجلة الزمن تأتينا دوما بأخبار مما لا
يـُصدَّقِ!
مقالة
منشورة في جريدة الصباح 1784- 30/9/2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق