بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 16 أكتوبر 2016

مقالة في تأثيرات تجاور اللغات مع بعضها ... ملاحظات وراق موضوعيّ الميل و ليس الميل كالهوى

An essay on the effects of languages juxtaposition
Notions of an Objectively-Disposed Writer: Disposition is Not the Same as Passion
Ahmed Khalis Shalan
(published in Al-Mada Journal/July 2004)  
مقالة في تأثيرات تجاور اللغات مع بعضها ...
... ملاحظات وراق موضوعيّ الميل و ليس الميل كالهوى
أحمد خالص الشعلان
(منشور في جريدة المدى/ تموز 2004)


يفيدنا علم اللغة Linguistics بتعريفنا بحقائق، إن بقينا نجهلها، سنظل تساورنا الظنون حول طبيعة اللغة، و تراكيبها الصوتية و النحوية و القواعدية و الدلالية . . من هذه الحقائق، مثلاً، حقيقة مهمة جداً، و هي أن ليس ثمة، من الناحية الموضوعية، لغات جميلة و أخرى قبيحة، و ليس ثمة لغات بدائية و غيرها متقدمة، و ليس ثمة لغات تتسم بخصائص شعرية و سواها عديمة هذه الخواص. و قد تطول القائمة في سردنا لعمليات إسقاط سايكولوجي لصفات على اللغة ليست لها علاقة بواقع، حتى لو وجدنا البعض ممن يستمرئ هذه الإسقاطات، أما هوىً أو جهلاً. و الهوى إن لم يكن أخاً للجهل فهو إبن أخت الجهالة. فنحن نسمع أحياناً، أو نقرأ، عمن يتحدث عن مزايا شعرية يخص بها لغة   يـهوا"ـها"، و يحرم منها التي لا يهواها. و قد نسمع عمن يتحدث عن دينامية لغة و سكون أخرى. و قد نلتقي  ببعض آخر ممن يرى في لغة صفات قدسية (لأن القرآن كتب بها)، و يحرم كل اللغات الأخرى من مثل هذه القدسية! . . و هذا كله، إن توخينا الموضوعية لا علاقة له بطبيعة اللغة و لا بأبنيتها و آليات عملها و قيامها بوظيفتها وسيلةً للإتصال بين البشر. و يصح هذا على لغات العالم قاطبة، و ذلك بوصف اللغة، مثلما قلت للتو، أداة إتصال بين البشر، تحكمها منظومة ذات خصائص و مقومات عامة، حتى و إن كانت كل من هذه اللغات تتصف بخواص في بعض أركانها تميزها عن غيرها من اللغات.
فنحن و إن كنا نسمع، و لربما ما نزال، من يقول بأنك إن أردت قراءة الفلسفة فدونك الألمانية فهي الأنسب . . و إن نويت قراءة الشعر فعليك بالفرنسية فهي الأكثر شاعرية . . أو ليست هي ما يشاع عنها كونها لغة الأوانس! . . و إن عزمت على قراءة رواية فأنت منصوح أن تقرأها بالإنكليزية . . فهل بالإمكان، بالرجوع الى حقائق  طبيعة اللغة و دورها و تركيباتها، قبول هذه التصنيفات على إنها صحيحة؟ . . بتقديري سيكون الجواب هو النفي، بل و إننا قد لا نجد هذا الامر ينسجم على نحو مطلق مع ما عرفناه عن اللغات في فصول الدراسة، و إن آراء مثل هذه ما هي سوى إفرازات لمواقف عاطفية يتخذها، سلباً أو إيجاباً، القائل من لغة معينة.

و يخبرنا علم اللغة بحقائق توصل إليها هذا العلم من خلال البحث و الإستقصاء الشاق، منها إن اللغات جميعاً تشترك بخواص عامة، يعرفها دارسو علم اللغة بكل تفرعاته. يخبرنا علم الصوت Phonology ، و هو أحد فروع علم اللغة، مثلاً، بأن الأصوات، في جميع اللغات، تتكون من أصوات صحيحة Consonants و أصوات علــة  Vowels.
و في الانكليزية بالذات نجد أن أصوات العلة تقسم إلى ثلاثة أنواع، أولها يسمى بـ"صوت العلة المفرد  Pure vowel " الذي ينقسم بدوره إلى صوت "علة قصير short pure vowel " و "صوت علة طويل long pure vowel " . . و النوع الثاني هو ما يطلق عليه بـ"صوت العلة المدغم"، و هو أيضا بنوعين: "الثنائي diphthong " و يتكون من إدغام صوتي علة مفردين two pure vowel و "الثلاثي  triphthong" و يتكون من إدغام ثلاثة أصوات علة مفردة . .  و لم يخبرنا علم اللغة عن أية لغة تصادر و تكفخ (و ليحفظ القارئ مفردة "تكفخ" فلنا إليها عودة) أصوات علتها.
نشرت . . المدى الثقافي . . الاربعاء 21 تموز 2004 مقالاً للسيد فاضل عباس هادي بعنوان "ملاحظات وراق فرنسي الهوى"، و على الرغم من المتعة التي يوفرها المقال للقارئ العام، فإن من حق القارئ المختص أن يسمح له بالتوقف عند بعض محطات هذا المقال . . و سأذكر بدءً هذه المحطات، لكي أرد عليها فيما بعد جملةً.
في أولى هذه المحطات . . هي قوله بأن اللغة الإنكليزية سادت و إنتشرت مع فترة الإمبراطورية، و إن الإنكليز ثقفوا سهمهم اللغوي ليكون في خدمة مسعاهم الأمبراطوري، وبخاصة إشاراته الكثيرة لوفرة المصطلح العسكري في الشعر الإنكليزي، و كذلك كون الإنكليزية . . أكبر لص . . (كذا!) في تاريخ اللغات.
و في محطة ثانية . . نجد قوله بأن اللغة الإنكليزية هي لغة الإستعمار.
و في محطة ثالثة . . نقرأ ما يصدمنا فعلاً، إذ يقول بأن اللغة الإنكليزية تستوعب أي شيء إلا أنها تقف مشلولة و بلهاء و خرقاء أمام الشعر.
و في محطة رابعة . . نتعرف على ما يجافي واحدة من أهم الحقائق العلمية العامة عن اللغات كافة لا عن الإنكليزية فحسب. و ذلك، في قوله . . ما من لغة في العالم تخنق حروف (يقصد أصوات) العلة كما تخفتها الإنكليزية.
و الآن . . فإني أحسب إن ما ذكرته من محطات للنقاش في أعلاه، ستكون كافية لأبراز الحقائق.

لا بد قبل كل شيء من الإشارة إلى حقيقة مهمة . . و هي إن لغة الفاتح أو المستعمر غالباً ما تسود (و هذا حصل عبر العصور جميعا و مع كل حالة إستعمار) إذا كانت إستجاباتها لمتطلبات الحياة أسرع من سواها، لا سيما إذا ما كانت لغة المحتل قد قطعت شوطاً في نموها الداخلي يتيح لها النفاذ! . . و الأمثلة كثيرة، وعلى مر العصور. و سيكون مثال اللغة العربية وافياً و كافياً. أوَلـَم يستعمل العرب في زمن عودتهم للمجتمعات المحيطة بهم، في مسعاهم الإمبراطوري، و منذ ظهور الإسلام و حتى حقبة إنحطاط إمبراطوريتهم، اللغة العربية (أداة متواطئة) لتوسعهم الفتوحي؟ أوَلـَم "يثقف" العرب "سهمـ"ـهم اللغوي المتمثل بقرآنهم ليكون بسرعة الإنطلاق نحو مصادر جديدة للثروة؟ . . أكان القرآن، في هذه الحالة، لغة شعر أم لغة وعدٍ بملك كسرى والروم؟ . . و هل خلى الشعر العربي يوماً، منذ نشأته الأولى و حتى اليوم، من إشارات (و ما أكثرها!) إلى المصطلح العسكري، لكي يكون من حقنا أن نغيَّب و نستعيب وجود هذه الإشارات في الشعر الإنكليزي، و إلا فما الرمح بكل تسمياته، والسيف بكل أوصافه جميعاً و السهم و القوس و الإفراس و الدرع  و غيرها، التي ما كادت أن تخلو منها قصيدة شعر عربي حتى الغزلي منها، وما زال صداها يتردد عند العروبيين من الشعراء! . . أهي أكسسوارات لقصيدة العوربة؟ . . أم ماذا؟
ثم . . عدا العربية . . أكانت تلك اللغات التي أعجب بها الكاتب في مقالته، و اصفاً إياها كونها اكثر طواعية للشعر من الإنكليزية، كالفرنسية و الروسية و غيرها . . أقول أكانت هذه اللغات تتحدث بها أمم أقل شهوة من الإنكليز للفتح و التوسع؟
أنا لا أدري كيف تسنى لكاتب المقال أن ينعت الإنكليزية كونها أكبر لص (كذا!) في تاريخ اللغات، لأنها، كما يقول، سرقت و تسرق بإستمرار! . . أيجهل الكاتب وجود مبدأ عام في علم اللغة، يعد واحداً من الآليات الديناميكية التي تلجأ إليها اللغة ليساعدها على البقاء حية دائماً، فضلاً عما توفره هذه الآليات من تواصل مع اللغات المحيطة بها، تلك هي ما يسمى عند اللغويين بـ"الإستعارةBorrowing" ، و تتمثل بقدرة اللغة، عند تماسها مع لغات اخرى، على تَمَثـُّلِ و إستيعاب ما يلائمها من مفردات لغات التماس و تطويعها، بموجب قواعد اللغة المضيِّفة، من أجل إستعمالها الخاص؟ . . فهل يعد هذا النزوع الإنبساطي نحو اللغات الإخرى من قبل الانكليزية، عيباً؟ . . و هل يعقل بعد ذلك أن نصدق ما يتحدث به الكاتب عن لغة لديها هذا القدر من النزوع الإنبساطي، إذ يزعم إفتقارها إلى "الطواعية في إستقبال المفردة الشعرية؟
أما الأمثلة التي ساقها الكاتب و منها مثال عن ترجمة نجيب المانع لرواية فتزجرالد المشهورة "غاتسبي العظيم Great Gatsby" و إقتبس منها سطراً واحداً In my younger and more vulnerable years my father gave me an advice  و ترجمة المانع لها " ... في سني عمري الأكثر طواعية منحني أبي نصحاً" فزعم بأن الترجمة هي أجمل من الأصل. و مع أن أحكاماً عن الجمال و القبح هي في الغالب ذاتية الطابع! . . فهلا يقولن أحد لي، من المعنييِّن بالترجمة، أين يكمن الجمال المفرط في ترجمة المانع، و أين هو موضوع الإفتقار إلى "البيان و السلاسة" في الأصل الانكليزي؟ . . و هل يصح بالتالي، و هذه هي غايتي النهائية، أن نقتطع سطراً من رواية فحسب، ونعده كافياً للتدليل على مهارة المترجم، بل و للتدليل على جمود و سكونية لغة ما؟ . . و بالتالي ألا ينم هذا على جهل باللغات و وسائلها التعبيرية؟ . . يذكرني هذا بحكاية رواها هيراقليطس عن رجل أراد بيع بيته فإنتزع منه حجراً و ذهب به إلى السوق نموذجاً يعرضه على الراغبين بالشراء.!
و من الأمثلة التي إستعان بها الكاتب هي ترجمة كامبل بيسارو من العربية إلى الإنكليزية للعبارة القرآنية:
نساؤكم حرث لكم
و ترجمتها
Your women are your field
ومع إعترافي بإخفاق مترجم تلك العبارة لإفتقار الترجمة الإنكليزية للعبارة القرآنية، و إن كنا نجهل ما قبلها وما بعدها، إلى الحيوية و الايحاء . . فإني أتساءل مرة أخرى . . أيصح أن نعتمد إخفاق مترجم أو كاتب أو متحدث في التعبير عن موقف معين أو لنقل رسالة معينة، ليكون برهاناً كافياً و دامغاً على إفتقار لغة معينة إلى مقومات الحياة؟ . .  يا للعجب!
و لن أتطرق إلى فيض من الأمثلة ساقها الكاتب . . منها ترجمات من الفرنسية إلى الإنكليزية لأن معرفتي بالأولى محدودة جداً، فضلاً عن أن ما سقته من أمثلة يعد كافياً لقناعتي بإثارة الظنون حول الطريقة التي ينظر بها الكاتب إلى الأمور لحسباني بأن حظ الأمثلة الأخرى لن يكون أفضل في تلقي أحكام الكاتب!
إن الجهل بمقومات أية لغة لن يعفي أحداً من التريث في إطلاق الاحكام!
يقول كاتب المقالة المذكورة أن اللغة الإنكليزية تخنق حروف (أحسبه يقصد أصوات!) العلة، مما يؤدي إلى إستحالة (كذا) كتابة الشعر بالإنكليزية . . و قد لا يكون كافياً إحالة القارئ إلى ما ذكرته من معلومات في صدر تعقيبي هذا عن أصوات العلة الإنكليزية، لأستزيد من النتائج التي توصل إليها علماء الصوت phonologists المختصون بالإنكليزية في تبيانهم لأصوات العلة التي تعد من مقومات البناء اللغوي، فأفرطوا في تشريح هذه الأصوات و إستعمالاتها، بإظهار فواصلها intervals و أمدها time length  مقارنة بغيرها و التغيير الحاصل في هذا الأمد، طولاً أو قصراً، بتأثير ما قبلها و ما بعدها، فضلاً عما يطرأ عليها من تبدل في الخواص و الإتجاه في عمليات الإشتقاق اللغوي derivation، و قدرتها على أن تكون عاملاً في إستيعاب assimilation  الأصوات تقدماً و إرتداداً، صعوداً و نزولاً، و تزداد أهمية هذه المعرفة إذا علمنا أن هذه التفصيلات هي سلاح الشاعر الإنكليزي في تعامله مع بحور الشعر meters  الإنكليزي، لأنها تساعده في إحياء و إماتة ما يجاورها من أصوات و تبعاً لما يتطلبه الإيقاع. و بذلك، يكون بمقدور بيت الشعر الإنكليزي أن يستقبل من المفردات ما يشاء و يواري ما يشاء.
أثمة لغة تحتوي على كل هذا التنوع في إستعمال أصوات العلة . . و لا تكون بالتالي صالحة للشعر لأنها تسعى إلى كفخ (كذا!) و مصادرة أصوات العلة خاصتها؟
هذا غيض من فيض أدلة توفرها اللغة الأدبية الإنكليزية . . و بخاصة لغة الشعر، و كله لا يلتقي مع ما ورد في مقالة الكاتب عن قصور اللغة الإنكليزية المزعوم!
فمن أين لنا، يا ترى، بواحد من جهابذة تدريس الشعر الإنكليزي، إن تبقى منهم أحد في جامعاتنا، لكي يدرأ عن لغة هذا الشعر ما يلصق بها و ليس فيها!
ليس ثمة شعب من شعوب العالم لغته لا تصلح للشعر . . و ذلك، لسبب بسيط، و هو إنه ليس من لغة تخلو من إيقاع داخلي في سلسلة الكلام، و ليس من لغة تفتقر إلى جرس تموج به مفرداتها، فضلاً عن الحقيقة القائلة بأن اللغات جميعاً تشترك في تقسيماتها لأقسام الكلام و إن بتسميات مختلفة!
أما "هوى البعض" في حب لغة أو كرهها فغالباً ما لا يستند إلى رأي علمي، و إنما يتكئ على عصا لهم فيها مآرب أخرى، سلباً أو إيجاباً، في موقف تمليه أسباب تختلف في نشأتها . . إن حبنا للغة معينة يحدده في الغالب كم معرفتنا بتلك اللغة و ثقافتها، و نفورنا من لغة أخرى مبعثه في الغالب جهلنا بتلك اللغة وعدم إعتيادنا عليها . . ألا يقال دائما بأن . . الإنسان عدو ما يجهل!
و مع إعتذاري المخلص لكاتب مقال "ملاحظات وراق فرنسي الهوى"، أرى بأننا يجب ألا ندع "هوى" نا يطفح، فيستدرج كلماتنا و يجعل رجلنا تزل، و نستغل جهل القارئ بحقائق علمية تخص اللغات، فنحبب له بعضها، و نبرمه ببعض آخر، لدوافع تخصنا و لا تخص القارئ، لأن ذلك يجافي العلم و يدخل في باب التحامل و التحيز. يقول جورج سارتون "إن تاريخ العلم هو تاريخ الكفاح ضد الجهل و التحيز".
أقول قولي هذا لا دفاعا عن الإنكليزية، و لا بخسا للفرنسية أشياءها . .و إنما إضاحا لبعض الحقائق عن اللغات المتداولة عالميا!
بعقوبة تموز 2004


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق