بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 5 أكتوبر 2016

الخبرة و التخيل في فلسفة المثل الأعلى للديمقراطية عند جون ديوي

On Politics …
A chapter from Gordon L. Ziniuc’s
John Dewey’s Ideal of Democracy
Translated by: Ahmed Khalis Shalan

في السياسة ... فصل من كتاب غوردون  ل. زينيوك الموسوم ...
المثل الأعلى للديمقراطية عند جون ديوي
ترجمة: أحمد خالص الشعلان
John Dewey
A.Kh. Shalan     
Experience & Imagination
in the Philosophy of Democracy Ideal
الخبرة و التخيل
في فلسفة المثل الاعلى للديمقراطية

1- ان المثل الاعلى للحرية . . الذي يوجه تفكير جون ديوي John Dewey و ينوره و يضفي عليه طابعه المميز،  قد لا نقدره حق قدره ما لم نفهم مقدماً ، على قدر الامكان ، ما الذي يعنيه ديوي عموماً بتعبير  "مثل اعلى ideal". ان ثراء المعنى المرتبط بالمثل الاعلى عموماً يستمد معناه، من ناحية ثانية، ولابعد حد تتيحه رؤيا ديوي التخيلية imaginative، من المثل الاعلى للديمقراطية. ان المثل الاعلى الذي يقدره ديوي اجل تقدير هو المثل الاعلى الانساني للديمقراطية، وهو "غاية  end" تشتمل على قيم الانجاز الفرداني individual والوحدة الاجتماعية على حد سواء. ان المثل الاعلى الديمقراطي ما هو إلا رؤيا للتألف الاجتماعي الذي يعزز الفردانية individuality المميزة للكائنات الانسانية. فضلا عن ان الافكار الاساسية للفردانية والتعاون، والوحدة والتألق، ضمن التنوع الحاصل، والناجمة من سعة الادراك والشمولية (الكلية) ، تمدنا بمفاتيح تمكننا من متابعة افكار ديوي المعلنة عن الغايات والمثل العليا عموماً. وفضلاً عن ذلك ، ان اهمية الوحدة والتألف (المقصود بها القوى الموجودة في داخل الافراد، والتعامل بين الافراد ، والتعامل مع الطبيعة) عند ديوي توحي كلها بامكانية قيام علاقة بين مثل عليا مخطط لها وقوة موحدة للفكر التخيلي- فالوحدة والتآلف لا بد لهما ان يكونا قد جرى تخيلهما قبل ان يتحققا. وهذه هي بالذات الوظيفة العملية للرؤيا التخيلية التي تتطلع للوصول الى ما وراء الحقائق، في انها، وبمنطق الحقيقة، تلتقي ومن ثم بوساطتها تتضافر مع الطاقات والقوى الموجودة في المسائل العملية المؤالفة لها. وبذا ، فان فكرة مثل اعلى معين بوصفه رؤيا واسعة وشاملة للتكاتف الشخصي ، والتلاحم الاجتماعي، والتضافر مع الوجود الفيزياوي قد يصبح اكثر وضوحاً بدراسة الموقع الذي يحتله التخيل في الخبرة ، بخاصة فيما يتعلق بوظيفته العملية أو "الاخلاقية" لتحقيق الوحدة والاحتكام الى المخيلة الحية في مشروع الاهداف والمثل العليا. بذا، فقد يجري تمهيد جانب من الاساس الذي يقوم عليه فهم الوظيفة العملية للمثل الاعلى للديمقراطية ، وذلك باعادة توجيه المصالح الاجتماعية ، فضلاً عن اصلاح الاتجاهات والغايات الفلسفية المعاصرة.
2-  و تشير عبارة "مثل اعلى" عموماً الى ما يجري التفكير فيه او تخيله ، غير انه لم يجري اختباره مباشرة . ويجري عادة مقارنة "المثالي ideal" بـ "الواقعي real"، و فهو يشر بذا الى الوجود "الممكن possible"، وليس الى الوجود "الفعلي actual". ان كل فكرة تؤخذ بهذا المعنى تعد " مثل اعلى"، لانها تشير الى شئ غائب ، مع انه ممكن التحقق . ان المثل العليا ما هي إلا ظنون لم يجر التثبت منها بعد . فهي تربط محصلات محتملة بالظروف الفعلية او الممكنة، انها ما قد يسمى بمشروع "افتراض ما سيحصل" if-thens. والافكار والمثل العليا ما هما، كلاهما، إلا امكانيات مخطط لها. وكل فكرة، حتى لو كانت تقوم على خبرة سابقة ، لها اتجاه مستقبلي . ان الممكن هو "الغائب  absent"، الذي لا يوجد في هذه اللحظة، المحتمل حدوثه، الذي "لم يأت بعد". ان الممكن هو ما يمكن تصوره والتفكير فيه. فقد يجري استقاء فكرة من حادثة ماضية ، تمتلك خاصية او علاقة منطقية ليس بالامكان ملاحظتها الان ، ولربما تحضر صورة في الذهن (تخطر اكثر مما تغيب تلقائياً وعلى نحو غير مقصود) تشير الى سلسلة من الحوادث الماضية. إذن فالتخيل بامكانه ان يزين هذا المحتوى (الوظيفة الخلاقة في اعادة تنظيم التخيل). إلا ان الصورة التي تشير الى حقيقة الماضي هي ايضاً تتمتع بحق تطبيقها مستقبلاً. فهي قد تشير الى عملية ممكنة وعلاقة ممكنة بين الوسائل والنتائج المنطقية. ان خبرة المتاعب التي مر بها المرء بالماضي تشير الى خبرة محتملة للمتاعب في المستقبل. وان ذاك العسل الذي وجدناه حلواً في الماضي ثمة احتمال ان نجده حلواً في المستقبل. فالحلاوة المتوقعة للعسل موجودة في الحاضر، ولكنها توجد بوصفها احتمالاً. وأذا ما اخذت ملء ملعقة من العسل ، فسأتنبأ بأنه سيكون حلواً، وسأتنبأ بالكيفية التي تجري بها فعالية التذوق. ذلك ، لاني سأدرك النتيجة المنطقية التي يمدني بها الاستعمال الحالي للطاقة (شرطاً مثيراً). وانه لينبغي ملاحظة ان الامكانيات المتوقع حدوثها قد تتطابق، او لا تتطابق مع الامكانيات الكامنة الفعلية . إذ ان اية سلسلة من الحوادث بالامكان التفكير بها تقريباً. ولكن ليس كل سلسلة من الخواطر بامكانها ان تخطر او ستخطر ، فالتصور الواقعي يعتمد على تحليل موضوعي للميول التي تتحلى بها الطاقات المثيرة الموجودة فعلاً .
3-  يشير ديوي الى امكانيات المستقبل المنظورة الموجودة في ثنايا الواقع حالياً، والى استباق الاتجاهات الممكنة للحقائق المحركة (متصورة بوصفها شروطاً ذات صلة بالنتائج). ويسميها "استنتاج inference وبخلاف البرهان demonstration الذي يتقدم من المعلوم known (بلغة المبادئ العامة) الى المعلوم (تعريف هذه المبادئ ، الى ما تتضمنه "المقدمات المنطقية premises"). يتقدم الاستنتاج من المعلوم او المعطى الى المجهول (مسألة اعتقاد او هاجس conjecture). انها طريقة الاكتشاف ، حيث يكمن برهان النظرية في المستقبل ، وليس في الواقع الماضي. حتى التعريفات هي انواع من الاستنتاجات، وليس تصنيفات ، على القدر الذي تبدو به بيانات عن عمليات الاشياء او وظائفها، و ليس عن "الماهيات essences" الساكنة. ان الشئ ما هو الا الطريقة التي يعمل بها، وما يقوم به وما بامكانه يقوم به. ان معنى الشئ ما هو الا وظيفته (العملية التي يمكنه القيام بها). وبما ان العملية كلها لم يجر المرور بتجربتها مباشرة (لان جانباً منها يقع في المستقبل) سيبقى السلوك الاجمالي واتجاه الطاقات المبذولة مجرد امكانيات كامنة . فهي تعز على الملاحظة المباشرة ، على الرغم من ان الامكانيات بامكانها المرور بتجربتها مباشرة وعلى نحو دقيق بوصفها "حقائق عقلية mental facts"، تتمثل في روابط غائبة (افكاراً ideas معطاة كافكار). ان الافكار هي صور فعلية او كلمات او اشارات تشير الى عمليات ممكنة . ان تصور امكانيات المستقبل (هو في الواقع امتلاك كل الافكار)، يعد مسألة اعتقاد ، وتخمين وفرضية . ان التفكير (مثال هذه الفكرة المتصورة) ليس معرفة[1] ، ذلك لان الحوادث لا يمكن ان تعرف قبل حدوثها. ان تصور نتائج او اهداف تعد مجازفة اكبر من التخمين العلمي ، ذلك لان المسائل الانسانية تظهر امكاناً وتعقيداً اعظم من ذاك الذي تظهره مسائل الطبيعة المادية التي يمكن التنبوء بها. وثمة الان حتى في علم الفيزياء الكثير من المواقف المفاجئة، تتمثل بهزيمة بعض الفرضيات في وجه الحقائق المتناقضة. ففي اية حالة منها ، يعد اختبار موثوقية الروابط المتصورة من الاوضاع الاجتماعية ونتائجها هي الحصيلة او الحقيقة الفعلية . ان التحقق من الهدف المتصور او الفكرة المتصورة هي الشكل الذي تتخذه، الطريقة التي تتخذها الاشياء ، في جانب منها ، بسبب تدخل الذكاء intelligence . ففي العلم ترسى الحقيقة على التزامن الحاصل في النتائج المتأتية من التجربة المبنية على ما يصاغ من فرضيات. وفي هذا الحدث العلمي يغدو الممكن محتملاً (ولكنه غير أكيد).
4-  نجد ان ديوي يبدو محترساً في تتميزه بين "المثل الاعلىبوصفه ممكناً , وبعض الافكار الغامضة التقليدية عن المثل الاعلى . فبالنسبة الى الفلسفات المثالية الميتافيزيقية، وبضمنها فلسفة افلاطون، يتمثل المثل الاعلى عندها بفعلية actuality عالية المستوى ، وكينونه ارفع مقاماً من تلك المفترضة من خلال التجربة. ان المثل الاعلى في تلك الحالة يغدو نوعاً آخر من الحقيقة المنجزة ، انه "حقيقة خالدة" اذا جاز القول. ان هذه "الإزدواجية dualism" (بين الحقائق الخالدة والاخرى العارضة)، تقلل عند ديوي من قيمة الخبرة العادية، وتجعلها منعزلة، وتسلب المثل الاعلى تصورات ذات قيمة محددة باحكام ، لانها امكانيات غير متعينة، تشير الى ان اتجاه الطاقات الفعلية ليست متعينة ، وبان أمام الاحداث اكثر من طريقة لكي تتثبت آخر الامر. ان الانشغال المسبق بـ "المثل العليا"، كما لو انها تصور لنسق مختلف عن الواقع ، قد يتجاهل العمل الواقعي لبناء الفرضيات العلمية على اساس من حركة واقعية للفرضيات الفعلية . وبما ان المثل الاعلى، حاله حال امكانية التفكير ، يقوم بعمله ، برأي ديوي، ضمن الخبرة لا خارجها، فهو اذن قريب من الهدف . ان التفكير في الوجود الممكن وحقائق الوجود الفعلية ما هي إلا وظائف تعتمد الواحدة على الاخرى في عملية من التعاون الديمقراطي يجرى ضمن الخبرة . و قد يبلغ انسلاخ detachment المثل العليا وانفصالها عن الخبرة الى حد يجعل الطاقات الموجودة تواصل تقدمها الحاضر دون تدخل من الفعل، او من التخطيط الموجه بالعقل. ان الفراق بين المثل العليا "الروحية" والفرضيات "المادية" هو الذي يجعل حتى المسائل المعرضة للتغيير متباعدة.
5-  ان الحقائق والافكار تحتاج احداها الى الاخرى. فالحقائق من غير الافكار تغدو لخالية من الحياة ومبهمة . والافكار والمثل العليا اذا اخذت بمعزل عن الحقائق تغدو دون اساس وفاقدة للتأثير. اما الفعلية acthuality   (كون الشئ فعلياً-المترجم) والامكانية فتعوض كل منهما الاخرى عن النقص الموجود فيهما. و هما بذا تكمل احداهما الاخرى. اما الامكانيات التي يفترض وجود وحدة ( وتلاحم ) فيما بينها، مع ذلك تظل تفتقر الى الواقع او الوجود. في حين قوة وثبات الوجود تتمتع به الفعليات actualities المفترضة، إلا انها تفتقر الى الوحدة و الديمومة التي تتجلى بها الافكار المترابطة منطقياً. ومن وجهة نظر الفعل العملي او البحث العلمي ، فإن الحقائق والافكار، او الفعليات والامكانيات، تكمل احداهما الاخرى، وبذا تضفيان على الخبرة الوحدة التي تحتاجها. وتشتمل الخبرة على الفعليات والامكانيات سوية . وفي حالة السلوك الاخلاقي ان الغاية او المثل الاعلى يجري إفتراض أي منهما بوصفها حصيلة قيمية او حصيلة مرغوبة ، وليس بوصفها مجرد تنبوء بوجه الافتراضات، أو يجري أفتراض أي منهما بوصفها حكماً على الوجهة التي تتحلى بها الفرضيات المعطاة . ويصح هذا الامر على الانجاز المتوقع او الاستنتاج في البحث العلمي. ان الوحدة بين الخبرة الجمالية والخبرة الدينية هي الوحدة بين ما هو ممكن وما هو فعلي ضمن الفعل الحاضر او العمل الجاري . وتميل الانشطة العلمية والعملية الى إبقاء فرق مميز بين الامكان والفعل ، مع انها (الانشطة...) تنتقل من واحدة الى اخرى على نحو متبادل ، ويجري الحكم على احداهما بلغة الاخرى . ان الانتباه الى الحقائق (بالملاحظة والتجربة) يعدل الافكار ، وهذه بدورها تقوم بتكييف الحقائق . وان المغزى من مراجعة الحقائق والافكار بوصفهما متعالقتان ( ديمقراطية الحقائق والافكار) فيمتد الى ما وراء المسائل العلمية والعملية ، الى موضوع الدور الذي تقوم به الفلسفة والعلاقة بين التفكير والوجود او التفكير والعيش . وعند ديوي يجب ألا يحظى المثل الاعلى لـ "التقوى pietyولا أي شئ مفترض، باي تبجيل يضعه فوق غيره . ان الافكار، بوصفها امكانيات تكشف عن معاني ما هو فعلي . وهذا يعني ان الفعاليات تمدنا بالاساس الذي نتحقق به من وجود الامكانيات. و بهذا المعنى فان المقصود بالافكار والمثل العليا هو ان تكون ذرائع instruments للتأثير في المسائل الفعلية ، اما الحقائق , فالمقصود منها ان تكون الاسس التي تقوم عليها صياغة الافكار وتنقيحها. وهذا يشير الى ضرورة وجود استمرارية بين التفكير والعيش. استمرارية تحتفظ على الرغم من ذلك باهمية نسبية لاي طرف من طرفي التعامل . ومن هذا المنطلق ، المبني على اساس علاقة المنفعة المتبادلة بين الحقائق والافكار، لربما يكون من الخطأ النظر الى مثالية idealism ديوي العملية في انها تجعل من النظرية مجرد تابع للخبرة . ان تحقيق المعاني ضمن اللعبة الحرة للافكار تعد احياناً غاية , وفي احيان اخرى تعد وسيلة . فهي على الاطلاق ليست غاية ولا وسيلة . ان اغناء الخبرة بالمعاني بالنسبة للامكان يعني تفاعلاً متبادلاً وتعزيزاً على حد السواء للتفكير والعيش. وان الخبرة الموحدة تتطلب وجود تعاون ديمقراطي، وليس منافسة بين النظرية والتطبيق لغرض إعلاء احداهما على الاخرى.
6-  ان الذكاء او التفكير reflection ، برأي ديوي ، وبضمنه الابتكار الذكي للافكار (فضلاً عن استعمالها)، يعد جزءاً متمماً لكل whole اكبر ، وهو سياق  ليس في اغلبه تأملياً.  فالافكار والمثل العليا، والمقصود هنا الامكان المفترض للفهم والفعل ، لا بد ان تنشأ من خلال الخبرة. و بذا تساعد كل منهما في توجيه الطاقات الطبيعية لكي تحقق الوحدة والتكامل للخبرة. أماالامكانيات فما هي إلا عوامل واقعية وافتراضات تعمل الى جانب عوامل وافتراضات اخرى. ان الافكار والمثل العليا مقصورة على الوعي الذاتي للخبرة ، ولا تتعالى عليها، وهذا يعني انها تعود الى التواصل الحاصل والاختبار الذي يخضع له الانسان ما بين اعضائه الجسدية والمحيط الذي يعيش فيه. فهي جميعاً جزء من السلسلة الطويلة و الواسعة للتفاعل (اعمالاً او انجازات، او هزائم، او تأملات جمالية ، او انشغالات ذات فاعلية) في الزمان والمكان من تلك التي تتشكل منها الخبرة . ويجب ألا يجري خلط بين الخبرة و شئ ما شخصي او خاص، ذلك لان الخبرة تعني مسائل انسانية مشتركة ، واعني بذلك "الثقافة culture" التي تشتمل، على ما تشتمل، على ما هو شخصي و  "خاص".
7-  و لكون الاهداف والمثل العليا بالامكان، بل يجب ، ان تستمد من ظروف الخبرة بالذات ،  وتسطر بلغة الطاقات المتحركة فعلياً وبلغة الحقائق المتحولة ، وليست مستوردة من مصدر متعال transcendental، او آتية من سلطة تقع وراء الحدود الزمكانية للمسائل الانسانية . و في كل ذلك ثمة ما يشير مباشرة الى انه في قلب القناعة الفلسفية لديوي تقع الخبرة بوصفها مصدرا للغايات والمثل العليا ، فضلاً عن الوسائل ، و بأنها هي المعنية باظهارها جميعاً. و تحتل الخبرة، برأي ديوي، المنزلة التي يحتلها تقليدياً الدين والميتافيزيقية والاخلاق اللاتجربية non-empirical. ان الغايات و المقاصد المستمدة تجربياً جديرة بان تبقى امينة واكثر ولاءً للحقيقة ، لانها بدونهما لا يمكن لها ان تتحقق . والخبرة ، برأي ديوي ، بامكانها أيضا ان تدير نفسها آلياً، وهذا يعني ان الاهداف والوسائل لتحويل الخبرة، او اعادة بنائها، بالامكان اجرائها من خلال الخبرة ذاتها . ان مثالية ديوي العملية او التجربية ، بتعاطفها مع الروح الاصيل (و في المنهج) للفلسفة التجربية empiricism ، تحيد عن رسالتها  عندما لا تقيد نفسها بالاد راك التجربي للحقائق بوصفها انطباعات جاهزة (تجربية ارتجاعية النظرة)، فهي بالاحرى تشتمل على وظائف ذات منظور مستقبلي (نظرية تقدمية)، وعلى وظائف ذات منظوراستعادي (نظرة ارتجاعية) على حد سواء (اي التفكير thinking الى جانب المعرفة knowledge). ان المنظور المستقبلي عند ديوي، وعلى الرغم من انه مستمد من المنظور الاستعادي، فهو، في الواقع ، يهدف الى الوصول الى نقطة ابعد (بالوثوب الى ما وراء المعلوم). وان التخيل (الخاص بالخبرة الممكنة)  ينطلق مباشرة من الخبرة الفعلية . ويقوم التنبوء التخيلي بدور خاص في مهمة تنظيم المسائل الموجودة . ان أية فرضية عن المستقبل ما هي سوى مسألة "تنبوء تخيلي"، و ذلك  من طريق التفكير بان الفرضية الممكنة هي ما هو موجود فعلياً ، أي الضوء الملقى لانارة الطريق، و بذلك يجري تخيل الفرضيات الموجودة التي تقود،او بامكانها ان تقود، او يجب ان تقود. ان التخيل العلمي هو القدرة على صياغة الاهداف وخلق المثل العليا من مادة الخبرة، سواء أكانت سارة او ممتعة. و الحقائق الداخلية ، التي جرت العادة على ارجاعها الى سلطة فوقطبعية supernatural أوالى عوالم فوقتجربية super-empirical، إنها هي التي تحدد المثل العليا، و يرجعها ديوي الى اعادة تنظيم عمل التفكير التخيلي واعطائه شكلاً اوقيمة مثالية .
8-  يعتمد التفكير التخيلي الفردي على التاريخ الشخصي و تبادل الآراء اجتماعياً , لتجديد مصدر مادته التي يحتاجها في علميات اعادة التنظيم . يقوم التخيل باعادة ترتيب واعادة تنظيم محتوى او موضوع الخبرة الشخصية او الجماعية. وتاتي المثل العليا الانسانية في اغلبها من الثقافة. ومع ذلك فان الثقافة الانسانية موطنها الطبيعة بكليتها . والكائنات البشرية ما هي الا كائنات حية تعيش في الطبيعة، وليسوا الهة يعيشون خارجها. والطاقات الطبيعية تمر متواصلة باجراءات قوامها العمل والخضوع للاختبار بين الكائنات الحية الانسانية والبيئية الطبيعية. ويخضع الناس والبيئة كلاهما للتعديل من خلال هذه الاجراءات. الطبيعة تنمو، وبنموها تتقدم نحو النهاية، والانسان ذاته هو جزء من هذا التقدم نحو النهاية. ان التحسينات الحاصلة في الامور الانسانية تشكل تحسينات في الطبيعة ككل. ان ما يحققه البشر من انجاز يجري تدعيمه ، في الوقت ذاته ، يلبى اساسه تدريجياً بسبب الانحطاط او الهدر الحاصل للطاقات الطبيعية الموجودة في البيئة . وتدخل الظروف الطبيعية في صلب المنجزات الانسانية. والكائنات الحية الانسانية ذات جذور متأصلة في الطبيعة، وهذا يعني بانها جزء من الطبيعة . وهذا لا يلغي من دور القيم الثقافية و "الروحية" في الامور الانسانية . وانما ، بالاحرى ، ترفع من منزلة الطبيعة المادية. ذلك لانها تربط ما هو مادي الى ما هو روحي. ان الثقافة الانسانية والذكاء الشخصي يعدان وظائف نهائية او توحيدات تنبثق او تتطور من خلال التفاعلات الفيزياوية . ان التفاعلات الفيزياوية وتلك التي تخص الكائن الحي تعد شروطاً ماسة للوظائف العليا للذكاء الانساني، ولمغزى الاتصال بين البشر ، ولصياغة الغايات . إلا ان الوحدة النهائية ، برأي ديوي، لا تتحق إلا من خلال تفاعل يقوم بين قوى حية تمثل مستوى عالياً ، والمقصود هنا "شكلاً form "[2]، او أنجازاً ، او "طبيعة nature" ثانية ، تؤدي وظيفة ثبات نسبي لجوهر substance ما. ويدمج النشاط الانساني بين حركات معقدة للطاقات الطبيعية ، مثال ذلك , حوافز جرى اختبارها ، و تنقيتها، واطلاقها (بوسطة التفكير) . ان الذكاء ما هو إلا " قوة " تنبثق من خلال تعاملات طبيعية، ثم تعود لكي تحولها. ان عمق الخبرة يمثل الدرجة التي وصلت اليه المشاركة الفاعلة لـ "الكائن الحي" في اجتياز الظروف وتحويلها ، وذلك بالانهماك بها كلياً.
9-  ان الطبيعة المادية ، برأي ديوي ، لا معنى لها بمعزل عن الانشغال الانساني بها (المقصود بالمعنى هنا هو العلاقات المتخيلة او المدركة مع ما ينتج منها من ظروف ونتائج). ان المعنى هو هم انساني . وهذا لا يعني ان البشر "يضفون" المعنى على احداث الطبيعة، كما لو ان المعاني هي كينونات موجودة بطريقة ما مستقلة عن الخبرة (قبلية a priori) الفعلية، في وعي مفرود او مفصول نوعاً ما، و "مضفىً" لا تعني هنا شيئا سوى ما يضاف على ظاهر احداث الطبيعة. تطلع الغايات من عمليات التفاعل والاختبار التي تمر به الكائنات البشرية مع بعضها البعض، و بينها من جهة والبيئة الطبيعية من جهة اخرى. فالطبيعة لا مقاصد purposes لها في ذاتها، بمعزل عن انشغال الانسان بها. ذلك لان الذكاء ظاهرة تخص الانسان. اما العمليات الجارية في الطبيعة فهي قوة "مكونة plastic"، بامكانها التحرك بتشكيلة من الطرق المختلفة، وليست اية منها تجري قضاءً وقدراً . ومع ذلك ، بما ان الكائنات الانسانية هي جزء من الطبيعة ، فان الغايات (الحصيلة الممكنة) المفترضة من قبل البشر تغدو هي ايضاً المقاصد التي تسعى اليها الطبيعة . ان المقاصد والغايات تعود الى الطبيعة، لان الكائنات  الانسانية هي ذاتها تعود الى الطبيعة. وبذا، فان صياغة الغايات المرتقبة والمثل العليا والنشاطات المدروسة التي تبغي وضع الطاقات الطبيعية لتعمل بانسجام مع هذه المثل العليا، تقوم جميعاً باستكمال (دون نهايات مطلقة) ما لا يعد كاملاً في الطبيعة. واذا اردنا ان نجعل الامور اوضح ، فان المغامرة الانسانية التي تقوم بها الكائنات الانسانية تعد طبيعية، إلا انها بذلك تغدو منظومات ارقى للطاقات الطبيعية . ونجد ان المثال التطوري evolutionary، عند ديوي، الذي يفسر نشوء انماط جديدة في "الطبيعة" من التفاعلات العضوية (ما يذكرنا بهيغل Hegel وسبنسر Spencer) ، يعد موثوقاً ما دام لا ينظر الى التقدم الحاصل في المسائل التي تخص البشر، وغير البشر، على انه حتمي inevitable، او مؤكد الحصول . وتلك حقيقة حاصلة سواء تدخل الانسان فيها او لم يتدخل . ان الانجاز الذي يحققه الانسان بنموه وبتقدمه الاجتماعي يتدخل يعتمد على الخيار الحر المسؤل المتخذ بعد تفكير طويل متروي , فضلا عن استناده على الفرص المتاحة التي تهيؤها الأوضاع ( الوسائل) الموجودة. 
10- ان الخبرة، برأي ديوي، هي طليعة الطبيعة التي تتغلل في الطبيعة. انها تتشكل من افق ملئ بالمشاركة الهادفة ضمن الطبيعة، أفق يتسع بالبحث ، وتفسير (و اعادة التفسير) الاحداث، و الافاضة في الاهتمامات و المقاصد. ان الامكانيات المفترضة المنبثقة من الفعليات توفرها التفاعلات الطبيعية، تقوم بصياغة اهداف ومقترحات جديدة، ما يؤدي الى توسيع افق الخبرة ضمن الطبيعة. ان للخبرة سعة افق الى جانب العمق الذي تتحلى به. وتشير سعة الافق الى المدى الذي تبلغه الخبرة ، والى مجالها، اما العمق فيشير الى النوعية المميزة التي يتحلى بها الافراد ضمن ذلك المجال. إذ يجري توسيع (بجعلها اكثر كلية universal وشمولاً inclusive) الخبرة وتعميقها (بجعلها اكثر مفارقة وتركيزاً)، من طريق الذكاء للنفاذ في مسائل الطبيعة . ومن خلال التدخل الذكي تغدو العمليات الصامتة احداثاً، ومسائل ذات غايات. ان الاحداث الدرامية الزمكانية التي يشارك بها البشر لها ، دون ريب غايات. وسواء إتخذت وجهة سليمة او غير ذلك، فان نوعيتها وحركتها بالامكان الاحساس بهما، او انهما، في الواقع , يجري الاحساس بهما قبل ان يجري تحليلهما او التفكير فيهما . ويضاف الى "بديهيات intuitions" الخواص الفورية هذه الغايات المتجمعة شعورياً مما يجري اكتسابه من خلال البحث الانساني والقدرة على الاتصال (الخبرة اللغوية والمشاركة). ان الافق ذا الغاية الشاملة، اعني مدى الغايات (الفعل او الذكاء بوصفه اتجاه مبني على العادة) المرصودة ، ليس محدوداً في مداه، واعني بذلك ان لا حدود للغايات التي بامكانها اغناء الخبرة البشرية وبث الحياة فيها. ان كل حادثة تحتمل ، في الواقع ، تفسيرات لا حدود لها. وببساطة شديدة ان الافق اللامحدود للتفسيرات الممكنة يمتد الى ما وراء ذخيرة المعرفة بالتفسيرات (المحفوظة في الذاكرة الفردية او الجمعية) الموجودة حالياً. ويجري تكييف الغايات المشتقة اصلاً من احداث ماضيات، إذ يجري تعديلها من خلال القراءة التي تتيحها الاحداث الجديدة. وبما ان الذكاء يمثل افق الغايات المجتمعة القادرة على توسع مستمر من طريق اقتراح امكانيات جديدة ، فانه سيغدو منظوراً اجمالياً او نزوعاً  مكتسباً يجعل وضع المسائل الحاضرة ممكناً في سياق هادف.
11- و مثلما يقول ديوي، فان افق الغايات يتمطط . فهو مرن او "طيع plastic" مثلما يحب ديوي ان يسميه غالباً . وهو ينمو ويتسع، او على الاقل بامكانه ان ينمو ويتسع ، حين يزود بالفرضيات الملائمة والاتجاهات المطلوبة. لذا ، فان افق الغايات (مأخوذاً اما على المستوى الشخصي او الاجتماعي ، بوصفه ثقافة مشتركة) معرض ايضاً للانكماش . فهو بامكانه ان ينكمش طوعياً ، إذا ما تجمعت الشطحات عند التفكير، او ادت الرغبة الجامحة الى اختصار الكثير بسبب الاستعجال. ومن المحتمل ان ينكمش افق الغايات إرادياً ، لكونه بكليته يشتمل على جماعات من الناس كانت قابلياتهم على التفكير قد احبطت بالنشاط اليدوي ، او كبتت من قبل السلطة، او اخذت بالدعاية[3]. ان التعصب لدين، او رأي معين يميل بصاحبه الى اضعاف افق غاياته عند الاختيار. وبذا , نرى ان العامل المستغَل (بفتح الغين) له دور في افقه امام نفسه بسبب حرمانه من حصته في خلق المقاصد التي تهب "نشاطه" غاية معينة. ان مجال الامكانيات (الروابط والنتائج الممكنة) التي جرى النظر فيها، ومجال الغايات التي جرى التأكد من صلاحيتها، لا تخضع لاية حدود سوى الحدود التي يأتي بها الاستنتاج والرؤيا التخيلية. ان عالم الغاية قادر على التوسع اللامحدود. وان الايمان بالامكانيات التي تتيحها الخبرة يعني الايمان بالقدرة اللامحدودة للخبرة في الابداع و الاكتشاف.
12- ان التخيل هو المفتاح الى عملية تمطيط الغرض من رسم الغايات. فالتخيل، برأي ديوي , يساعد على توسيع الخبرة الشخصية وتعميقها. ان الغاية من الاشياء او الاحداث هي "الافادة ضمناً" بما يجري التنبوء به، وهذا يعني الوجهات الممكنة التي تتخذها الطاقات الموجودة في الاحداث، وذلك باستعراضها بلغة الاداء الماضي. ان "توسيع خبرة الحاضر" يعني تعزيز المواضيع التي تمر حاضراً على الخبرة من خلال التداعيات associations والعلاقات المستعادة من الخبرة الماضية (ملاحظات المرء الشخصية او تلك التي تعلمها من ألآخرين). ان الذاكرة التي تهب لمساعدة الخبرة الحاضرة تتطلب تجسيداً بالصور، لذلك فهي تعتمد على التخيل.
13- ان "الضغط للذهاب الى ماوراء"، و "و المواصلة للوصول الى ما وراء الافاق الى الغايات"، و التعالي المتأصل في الخبرة، هو ما يمكن ان نسميه بـ "سد الحاجة" و "الكشف" (رؤية الممكنات) في ما جرت معالجته مباشرة في الحالة الفعلية. فهو يسد الحاجة الى الروابط المنطقية المفقودة . ثم ينتشر خارجاً لكي يحيط بعناصر المسألة . فهو يسد الفراغات بالخبرة، و ذلك باضفائه المعنى على تلك الفراغات، ثم يفسح المجال في الاحداث المحدودة بافتراضه للممكنات ، وبذا يوسع المدى . وهكذا تستلم الحالة علاجاً تخيلياً فورياً للنقص الموجود ، ذلك لان الغرض الموضوع قد يكون غامضاً، قد يكون مجرد حقيقة عجماء ، دون مغزى مضاف او مغروس , فأنكشف باستنتاج تخيلي او فرض تخيلي . ان ننظر الى شئ ما نظرة ذات معنى معناه ان "نرتأي" ما الذي يستلزمه ، وكيف جرى فيه ربط ما فيه من افتراضات حالية وسابقة بنتائج مستقبلية (لم نحصل عليها بعد) ممكنة . وهكذا يضفي التخيل على الخبرة تواصلا زمنيا . و ينبني هذا المنظور الى حد بعيد من سلاسل او عمليات ذهنية سابقة يجري استعادتها تخيلياً . إلا ان المنظور الذي يربط بين الحقائق الحالية (بسلاسل من النشاط التخيلي) يتيح الفرصة لبروز روابط ممكنة في المكان والزمان، بان يتخيل روابط مكانية يصعب تصورها ، لكي تملأ ثغرات في المكان تركتها عناصر جرى ادراكها على انها غائبة من الحالة الموضعية الحاضرة او المشهد الحالي. ان ادراك الخلفيات او الحالات يبدو محدوداً مكانياً ، إلا ان التخيل يوسع (و يكمل) هذا المشهد المحدود بافتراض وجود مفهوم تخيلي لظرف غير محدود او افق ممكن يشار اليه على انه "عالم world " او "كون universe". وبالتالي، فان التخيل يميز مادته المجمعة (خواصها والعلاقات فيما بينها) ويعيد ترتيبها ، مثلما يقوم الطفل بصنع لعبة جديدة من اجزاء لعب قديمة . ها هنا اذن ، من اجل الاهداف المفترضة ثلاث وظائف رئيسية للتخيل هي:
أ - توسيع مجال الخبرة الحاضرة (مؤطرة بمجال الملاحظة وندرة الحقائق.
              ب - احضار العوامل والروابط المنطقية المفقودة او استكمالها، والعمل على اصلاح العجز الموجود في الخبرة الحاضرة.
            ج - اعادة سلسلة المادة التخيلية ذات العلاقة[4]
تمدنا  هذه الوظائف بالوحدة التخيلية للحالة مدار البحث . ويضفي التخيل تواصلية ومدى على حالة هي، في حدودها الفعلية، مزيج من تواصل continuity وكف discontinuity. وتعد خاصية التخيل هذه اساسية في ادراك الكل سواء في الخبرة الجمالية او الدينية. اذن وباختصار، ان التخيل يقوم بتعويض ما هو مفتقر اليه في الحالة المفترضة، فهو يجعل من هو غائب من العلاقات المنطقية حاضراً من طريق التداعي ، وبذا يوسع من مجال الحالة المعنية ، بان يضفي عليها "جواً aura" من كل whole اعظم، ويسربلها  بميل لاكتساب وحدة تخيلية اينما تكون هذه الوحدة غائبة. و يقوم التخيل بجمع الاشياء مع بعضها على نحو بحيث انها لا يجري ادراكها مباشرة. وما هو اهم ، هو ان هذه " العوامل غير الملاحظة " قد توجه الاستجابة نحو الحالة الفعلية ، واعني بذلك نحو قضايا التصديق والحدس والفرض القائم التي لها علاقة واقعية باعادة التوجيه الفطن للطاقات المحركة الفعلية. ان مالا نراه قد يكون وسيلة جزئية من وسائل التحكم في ما نراه (الحقائق والظروف التي بامكاننا ملاحظتها)[5].
14- وعلى الرغم من ان التخيل غالباً ما يرتبط بالخيالات والاوهام الرومانسية ، إلا ان التخيل يقوم بدور اساس من الناحية الفعلية في الحياة الواعية. فالحياة الواعية على العموم تتطلب وجود المخيلة imagery، لتجعل من الغائب البعيد او "التجريدي abstract" حياً او حاضراً. وتعتمد ذكريات الخبرة الماضية على استعمال "الصورة الذهنية images" وهذا يعني ان ملاحظة   observation الحالات الحاضرة تتلون بصور الاشياء غير الموجودة . وهذا يعني ايضاً ان توقع ما سيحصل في المستقبل يعتمد على المخيلة . فالصورة اذن هي الجانب الوجودي existential للفكرة، وهي إذن جانبها "المثالي ideal" او (المنعكسة بكلمات ورموز) تعتمد اساساً على استعمال الصورة[6]. و يقوم التخيل بعقد رابطة بين التجريدي والملموس concrete، فهو ما ينزل الافكار الى ارض الواقع، ويجعلها قريبة من الخبرة الفعلية. و التربية إذن تعني تطوير الذكاء، وما يعد اساسياً للنشاط الذكي هنا هو ما يقوم به التخيل الخلاق.
15- تعرف الصورة بخاصيتين هما صفة الشخصية individuality و صفة المعنى refrence العام[7]. انها تجلب انتباه الاخرين لنفسها على انها تمتلك خاصية فريدة (لصفتها "الشخصية " وقدرتها الفورية على ان تكون مصدراً للمتعة)، وانها ايضاً تصرف الانتباه عن نفسها لتوجهه الى اشياءٍ تتعالق معها بعلاقات منطقية ، ترتبط بها ، وموحاة منها . ففي الوقت الذي تنشأ هي من شئ ما موجود فعلاً، ولها وجود فعلي خاص بها، انها ايضاً تستطيع الاشارة الى اشياء لم يتحقق وجودها بعد (موجودات ممكنة). انها قد تشير الى وجود ما شخصي ممكن، او الى خاصية شخصية ممكنة، او الى علاقة ما، او الى رابطة منطقية ممكنة لافراد موجودين. ومثال ذلك ان المرء بامكانه ان يتخيل حقائق قديمة تدخل في تراكيب جديدة ، او ان يتخيل اشخاصاً يعرفهم يدخلون في علاقات جديدة ، او حالات قديمة تفرز نتائج جديدة. ولان الصور ليس لها معنى محدد، تعد ادواتاً مهمة للاستنتاج الذكي. ان الصورة المشتقة من الخبرة القديمة لها مفهوم عام،لانها تتميز بقابلية غير محدودة للتطبيق في احداث مستقبلية. و خاصية "العمومية  generality" هذه فيما يتعلق بالصور (و يصح هذا الامر ايضاً على الكلمات)، عند تطبيق اراء قديمة على حالات جديدة ، ينبغي إلا "تعد شيئاً مادياً hypostatized كما لو ان العمومية قصد بها شيئاً معيناً بمعزل عن اللاتحديد الذي له علاقة بالتطبيق او بالعملية. و تشير العمومية الى استعمال المعنى الذي تحمله حادثة معينة ، ما يساعد على التنبوء باحداث اخرى والتحكم بها ، وهذا يعني انها تشير الى عمليات ممكنة قد تقع في المستقبل [8]. وليس ثمة " عمومية لذاتها "[9] . ان العموميات هي مبادئ عاكسة (قواعد توجه العمل وليست من حالات الوجود ، فهي تتألف من توصيفات للوجود وليس من مبان لهذا الوجود.
16- يقوم التخيل بربط الماضي بالحاضر وبالمستقبل من اجل صالح الكائنات البشرية. ان التمييز والتوقع ينكشفان كلاهما بالصورة. و الماضي، مع ان استحضاره ممكن تخيلياً ، لا يمكن ان يختصر بصورة. اما المستقبل، مع انه بالامكان التنبوء به بالصورة ، فهو الذي لم يجر التنبوء به بعد، لانه غير محدد مع انه يوحي بتشكيله واسعة من الامكانيات . ان الوجود الفعلي الاوحد ، بالمعنى الذي تكتسبه الفرضية ، هو الوجود الحالي "هنا والآن here and nowالذي يشير الى الفعالية الحاضرة. إلا ان هذه الفعالية الحاضرة تتمطى عائدة الى الماضي السحيق، ومتقدمة الى المستقبل البعيد ، ذلك كله بمساعدة من التخيل. ويجعل التخيل مما هو غائب حاضراً . ان الادراك الواعي لحادثة ما يعني ادراكها لغاية ما ، للنظر في التواصل الذي تقيمه بين الماضي والمستقبل ، من اجل رؤيتها بمنظور مستقبلي . ان حمرة وردة مفردة , هو لا غيره، ما يجعل من هذه الحمرة فريدة. وهذا برأي ديوي يعني كما لو ان الوردة ذاتها فريدة ، إلا ان المعنى "احمر red" و المعنى "وردة rose" يوحيان لنا بجملة من الاستعمالات اوسع واكثر عمومية. و هذا يعني ان "الوردة الحمراء" تشير الى هذه الوردة لا الى وردة اخرى , من تلك التي جرى التعرف عليها، وتلك التي لم يجر التعرف عليها بعد . وهي تشتمل ايضاً على الرابطة المنطقية الممكنة بين التربة والهواء والماء والشمس والرعاية والظروف المساهمة مجتمعة والورود الحمراء بوصفها نتاجاً. ان معنى شئ ما هو علاقته ورابطته المنطقية باشياء اخرى ، واعني بهذا الكيفية التي يتعلق بها بالاشياء الاخرى . فالمعنى اذن هو "الحلقة link" التي تجعل للشئ علاقة "مشتركة in common" له بالاشياء الاخرى. و ان يُدرك المرء ادراكاً واعياً معناه موضعة to locate لشئ ما، و ان تواصلية "شئ ما في هذا الزمان و المكان" مع اشياء اخرى تعني دوره في عملية ، وهذا يعني "تاريخه history". ان الحاضر هو غرس الماضي وهو شرط المستقبل . ان "الشئ ما في هذا الزمان والمكان" الحادثة المفردة الفريدة ، هي في الواقع تعلن عن كل whole ، وعن خلفية، وتشير الى زمان ومكان معينين. ان شئ ما يعني تاريخ هذا الشئ ، ويعني عملية عارضة تشتمل على شروط وحصيلة. ان ما يشير الى مستقبل شئ ما هو الدرب الذي سلكه هذا الشئ وصولاً الى الحاضر. ومثلما يحصل حين نقدر على مد خط يصل بين نقطتين ، الى ما لا نهاية من النقط . فالخط الآتي من حالة ماضية الى الحقيقة الحاضرة ، إذا ما جرى مده يرينا تنبوءاً بالمستقبل. فاختبار الشروط التي ادت الى الحاضر هي مفتاح استشراف المستقبل.
17- ان الذهن mind الذي هو تسمية اخرى لـ "الذكاء intelligence" هو مستقر نسبياً، وهو "اشراق luminosity" يحدث الى حد كبير وراء نطاق الوعي، انه خلفية المعاني ، ويتفجر على صورة وعي consciousness، استجابة للتفاعل التوتري مع الحالة الجديدة (مثيراً ادراكاً عاطفياً)، مثلما يحصل عند احتكاك قطعة من الفولاذ بحجر صوان فيتطاير الشرر. فالذهن ، عموماً، هو اكثر استقراراً واستجابة للتغيير , و بذلك يكون ابطأ من الوعي، الذي هو ليس شيئاً اخر غير الذهن في نقطة تماسه او تكيفه للظروف المستجدة. ان الوعي ما هو إلا الذهن و قد مر بتجربة من التحول، او بالاحرى هو الذهن في النقطة المركزية للتحول بين القديم والجديد . ان التناقض او الاحتكاك بين البيئة والكائن البشري هو الذي يحرض الوعي. ان حالةً لا يحصل فيها احتكاك ، يجري فيها "ابحار هادئ" تماماً , او لا يجري فيها اضطراب في ما هو مألوف (استحالة لا تأتي باليقين)، قد تكون حالة ينعدم فيها الوعي . وبما ان الحالات الماضية والحالات الحاضرة هي صور configurations فريدة (كينونات وحالات من نوعية فريدة)، نجد ثمة دائماً فجوة بين القديم والجديد لا بد من ملئها باعادة بناء تخيلي للفهم القديم. ان حلقة الوصل التخيلية بين المعنى القديم والمسائل الجديدة ما هو إلا طفرة leap، طفرة تلون الحدث الحاضر بلون من المعنى المستعاد ، ولكنها ايضاً تجري تحولاً، وتعيد تكييف المحتوى الفعلي للافق الغاية، بل وحتى توسعه. ان الوعي التخيلي هو لقاء بين غاية قديمة وحقيقة حاضرة ، فيقوم بتحويلهما كليهما، لانه يدفع الذهن الى التوسع و التكيف. ويجعل الاحداث تشع على ما حولها بالروابط المنطقية ، و بالايحاءات ، و الممكنات. ان التخيل هو عملية مط للقديم , واعادة صنعه لجعله يناسب الجديد. و ما اشارة الحديث العام الى "مط التخيل" إلا اشارة الى هذه العملية، لان هذا المط هو الذي يولد افكاراً جديدة وامكانات جديدة. و مثلما يعد كل فرد بالضبط فريداً من نوعه ويمثل صورة فريدة وبؤرة فريدة ، فان كل فكرة جديدة تولد من تكييف الذهن على وفق شروط جديدة يكون لها خاصيتها "الشخصية personal" الفريدة الخاصة. ان المعاني هي مشتركات ثقافية ، اما الحصول على الافكار (التفكير وصياغة المقاصد) فهي اشياء تنشأ داخل الافراد ومن قبلهم . ان الوعي هو نقطة بؤرية تخص الفرد وتظهر في سياق من المعنى. و هو في الوقت ذاته شخصي ومشترك مع الآخرين.
18 - ثمة امثلة توضح لنا الحال حين تكون الفجوة بين الحالات الماضية والحاضرة ليست كبيرة جداً ، فاما بسبب إلا يكون الكثير قد تغير، او على الاغلب لان المرء غير يقظ لعمليات اعادة التنظيم الجديدة والعناصر الجديدة التي سببتها. و هكذا نجد، وبمعنى واحد ان كل وردة هي جديدة وفريدة . وبكلمات اخرى ان الوردة هي الوردة. ان الشروط المتكررة المؤثرة في الحالة ، وبضمنها العادات التي يعمل بها الذهن ليست يقظة لما هو جديد في الخبرة المألوفة، او بعبارة اخرى ان المجريات الشاغلة للذهن قد تتآمر فيما بينها لتعتيم الوعي . ان الاعتقاد الشائع القائل بان لا شئ جديد تحت الشمس (و على القدر الذي يشكل به معارضة لرأي هيراقليطس Heraclitus القائل بان الشمس هي نفسها جديدة كل يوم ، والذي قد ينفق معه ديوي على هذا) يساهم في اشاعة طرق كسلة ومنقبضة في التفكير والعمل. و سيمسي العمل شاقاً دون الاستفادة من وعي (تخيل) يتصف بالتكيف والمرونة. ان العمل الشاق هو نشاط دون غاية ، واعني بذلك نشاط يجري احتيازه لا لمقصد معين، او لغاية معينة، او مغزى معين (امكانيات).
19 - ان مصطلح "اعجاب appreciation" يصح اطلاقه على عملية ادراك الشئ ادراكاً عاطفياً و تخيلياً في خصوصيته الفريدة ومغزاه و علاقاته المنطقية الممكنة. ان الفكرة التلقائية التي ترد الى الذهن هي ايحاء suggestion مثار بسبب حضور فرض ما . ان الشئ الفعلي يوحي بشئ ما ممكن ، شئ ما اضافة الى وجوده الذاتي يوجد شئ اخر ترتبط به ، شئ ليس حاضراً ، والذي كان , وبامكانه ان يكون , مرتبطا منطقياً بالشئ . ان ادراك وجود سحابة مرت يوحي بشئ ليس حاضراً، وانما بسحابة مرت بالذاكرة ، او عارضة آتية ، او ريشة لطائر عملاق تسبح في الفضاء. اما للعالم scientist، فهي حتى لربما توحي بمعان لها علاقة بقوانين الفيزياء. ان الحقائق لا تأتي عارية ، وانما تأتي مسربلة بالتفسيرات ، وبأمكانيات التفكير. وتكون الاحداث مصدر متعة لانها موحية . ويمكث الادراك الجمالي فترة اطول في الفرادة الشخصية ، لانها الخاصية الفريدة الوحيدة للشئ المدرك. وهي لا تنتقل فوراً من الموضوع الى الامكان، لانها تحمل الاثنين معاً ، او بالاحرى انها لا تميل في المقام الاول الى التفريق بينهما. وهكذا، يتحد البصر sight بالبصيرة insight. يستعرض التقدير الجمالي موضوعاً ما في فرادته (نوعاً) الشخصية مقيدا الان بعلاقات منطقية غنية متعددة الاوجه. ويدرك التقدير الجمالي المغزى sense (وحدة الخاصية والغاية). و "يرى الادراك الجمالي الكون في حفنة رملدون ان يصرف من الذهن حفنة الرمل الشخصية . ومع ذلك فان الادراك عموماً ليس موحدا جمالياً، لانه ان توحد , اما ان يستغرق في خاصية منعزلة ، او ان يركز على الايحاء الذي يقدمه الموضوع.
20 - ينطوي معنى اي حدث على ما يوحي به ذاك المعنى، وعلى ما يشير اليه، وعلى ما يدل عليه ، وعلى ما يتنبأ به، وعلى علاقته بالاشياء الاخرى . ففي الحين الذي يعد الذهن الافق السياقي للمعنى، يعد الوعي هو البؤرة. انه نقطة التوتر وحل هذا التوتر ، ونقطة التكييف الذي يدور بين عادات قديمة وغايات قديمة من جانب، لكي تصلح لظروف واحداث جديدة . فالغايات القديمة و الظروف الجديدة تصقل احداها الاخرى، والحقائق الحاضرة هي ايضاً قد تواصل صقل الطريق الخاطئة، حين تواجه عادات قديمة وطرق مبتذلة في التفكير. ان هذا التفاعل الصدامي هو ما يشعل الشرارة الاولى للذكاء ، فيولد فكرة او ايحاء ما . ثمة صراع بين القديم والجديد ، وثمة شئ "لا يمكن التنبوء به" في الحالة الراهنة ، وهذا يعني ان الزمان والمكان الحاليان هما تحديان فريدان للذهن، انهما صرخة للتغيير. وبهذا السياق ان النوعية المشوشة للحالات الجديدة، وبخاصة تلك التي تثير اشكالات تشكل فرصة سانحة من وجهة نظر التفكير الواعي . ان المكان والزمان الحاليان يجب ان يفسرا بضوء المعرفة الوحيدة المتيسرة ، تلك هي خبرة الماضي، وان هذا التفسير يستلزم بالضرورة في الوقت ذاته اعادة تفسير واعادة بناء الذخيرة الغاية الحاضرة التي تناهت الى تفكير المرء . ان مط السعة التي تتميز بها الخبرة ، من خلال اعادة تركيب الغايات القديمة بضوء الحقائق الجديدة ، وبقدرة الذهن على التكيف والمرونة، حين يجري تهذيبه بوصفه نزوعاً او عادة من عادات الذكاء، سيغدو ذاك المط للسعة توجهاً للانفتاح ومقدرة على الاكتشاف. وسيغدو تحد ما هو جديد عندئذٍ اغراءً وليس خوفاً . وبالامكان جعل سعة الرؤيا التخيلية ان تكون على علاقة قريبة بالقوة الكامنة غير المحدودة للقوة المادية الرائدة في المجتمع، التي بامكانها ان تلهم تفجرات الطاقة والابداع . وقد يقول ديوي ، بما ان المكان المادي قد تقلص وان الفرص المادية صارت محدودة ، و بما انه لا يوجد سوى "حيز" صغير من الناحية المادية، إذن ان التحدي الحالي هو ايجاد حيز تخيلي ، لتمهيد المكان لنمو معرفي جديد، وتجربة جديدة، ومقاصد جديدة، اذ نستطيع بها خلق "مكان لنفس جديد" تنمو به مبادرة شخصية واجتماعية ذكية جديدة. ان الاندفاع غير المقيد للرؤيا التخيلية هو الذي سيوفر فرصة تجديد الايمان بالامكان.
ملاحظات
1-   كل التفكير وجهته المستقبل ، في حين يُشير مصطلح "معرفة" الى خبرة ماضية راسخة.
وتشير كلمة " معرفة " الى الغايات المستقرة نسبياً (التي جرى اختبارها) في حين يُشير مصطلح "تفكير" الى الغايات التي لم يجر تحديدها نسبياً.
2-   النتائج المفترضة لا بد ان تكون نتائج جاءت من ظروف حالية فعلية وليست من ظروف سابقة غائبة. والمقاصد مبنية على ظروف اجتماعية او شخصية غير موجودة لا يمكن ادراكها، مهما بلغت تلك الظروف من اثارة للاعجاب او ظهرت بوصفها نتاج التأمل الجمالي.
3-   الافكار هي و سائل لتحول الخبرة.
4-   ان "الشكل" يعني ظروفاً او طاقات منظمة ، او الطريقة التي تعمل بها الطاقات مجتمعة (وحدة وظيفية)، فهي لا تعني عند ديوي جوهراً يمكن فصله (على وفق المفهوم الافلاطوني).
5-   ان توسيع افق الغاية يتطلب تبادلاً حراً للافكار.
6-   ان اعادة سلسلة هذه العملية هي نوع من "لعب". ولعب الافكار هذا (سواء اكانت صوراً او كلمات) هو اساس التفكير في امكانات جديدة . ودون هذا "اللعب" تستحيل المهمة المتسلسلة لحل المشكلات.
7-   تتطلب ايضاً بالطبع حساب الطاقة المادية.
8-   تستعمل الخاطرة الصور، والكلمات، او اي نوع آخر من الرموز وبحس ما فان الصور هي الاولية ، ذلك لانه حتى الكلمات و الرموز لا بد من تصورها اولاً بطرق بصرية او سمعية.
9-   تقوم الكلمات بوظيفتها بطريقة مشابهة ، وعلى الرغم من امتلاكها لخاصية عامة مشتركة، مثلما يحصل في اعمال الفن التي تعد "صوراً عامة".
10-                     بعبارة اخرى الافكار هي وسائل، وتمثل هذه المقولة الفكرة الرئيسة لـ "الذرائعية instrumentalism".
11-                     ان التعميمات هي توصيفات و ادوات، و لا تعد من مقومات الواقع.
12-يتبادر لذهن المرء الشاعر اليوناني "فيدار" الذي اورد ذكره افلاطون ، حيث يجري رسم الفرق المميز بين الكتابة و تحولات الروح. ان العلاقة، بين الغايات الثقافية التي تعد مشتركة والتفكير الذي يعد صفة فردية على الرغم من استناده على هذا السياق المشترك، تتميز بتضمينات مهمة تخص الديمقراطية. ان الوعي يصبح جديداً مع كل فكرة (الملاك الفريد للرؤيا)، وتضمن حرية التفكير الجدة والابداع اللذين يعدان جوهريين للنمو.
Published in Al-Sabah Journal/Baghdad- issue 865, 20/6/2006  
مقالة منشورة في جريدة الصباح العدد 865 - 20/6/ 2006












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق