بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2016

مقالة مترجمة في علم الجمال ... جماليات إيمانويل كانت

On aesthetics … Immanuel Kant’s Aesthetics
A section from Monrow C. Beardisley’s  
Aesthetics from the Ancient Greeks to the Present
Translated by Ahmed Khalis Shalan
 مقالة مترجمة في علم الجمال ... جماليات إيمانويل كانت
 قسم من كتاب مونرو سي. بيدزلي ... علم الجمال منذ الإغريق القدامى و حتى الزمن الحاضر
ترجمة أحمد خالص الشعلان
Emmanuel Kant
Monroe C. Beardsley
A. Kh. Shalan
لم يحصل في أية حقبة في تاريخ الفلسفة الحديثة مثيل لما جرى لحكايات رمزية عن أشخاص موهوبين أفضل من ذاك الذي تحقق على يد إيمانويل كانت (1724–  1804). و إنه لمن المدهش أن يكون على المفكر الذ ي أحدث تحولا كان متعذرا تحقيقه في أي جدال ، في الأمور الميتافزيقية و المعرفية و الأخلاقية، الغاية منه خلق إتجاهات جديدة، لا بل أن يكون الجدال المفترض قادرا أيضا على صياغة نظرية في علم الجمال، تصبح، لأصالتها و حذقها و شموليتها، نقطة تحول في هذا الحقل. و لم يكن كانت ليفعل ذلك منطلقا من لا شيء. فقد كان عليه الإحاطة إحاطة تامة بكل التطورات التي حصلت قبله . . ففضلا عن أنه تصور عمله لا على أساس أنه سيكون قمة نظامه الفلسفي فحسب، بل أيضا على أساس أنه سيكون إجابة على أسئلة عديدة أثارها الذين سبقوه في هذا المجال. و لقد أمل كانت، على وجه التخصيص، في تقديم نظرية قوامها حكم جمالي، يقوم بتسويغ ما تدعو إليه بوضوح، و هو صحة متبادلة قائمة على الوهم، و الإفلات من الشطط الذي تجيزه النزعة الشكوكية Skepticism  و النسبيةRelativism  ، إذ كان يعتقد بعدم إمكان تحقيق ذلك إلا بالقيام بتفسير الفن و القيم التي يمثلها تفسيرا عميقا، و ذلك بإيجاد علاقة أكثر تفاعلا بين الفن و ملكات الإدراك التي يتميز بها الذهن.
و بذلك أصبح كانت أول فيلسوف في العصر الحديث يصوغ نظرية جمالية، يعدها تتمة لنظام فلسفي شامل، إذ قام، على الرغم من التعقيدات و الغموض الذي يلف طريقة تفكيره، بفتح طرق عديدة واسعة للتفكير، أدى إكتشافها فيما بعد الى الإعتراف بقيمتها العظيمة .
و يبين بحث كانت المبكر الموسوم "ملاحظات حول الإحساس بالجليل و الجميل"          (1764)، الدليل على تفكير فائق في مسائل علم الجمال عند هذا الفيلسوف. و مع ذلك، إن أطروحته الرئيسة ذات الشأن في هذا المجال، هي التي أتت فيما بعد في الجزء الأول من كتابه "نقد الحكم"Critique of Judgment  (1790) هو العمل الذي أتم به ثلاثيته العظيمة المسماة "المثالية النقدية Critical Idealism ".  إن العلاقة  بين هذا الجزء الثالث من "النقد" و الجزأين اللذين سبقاه، لا يمكن إيضاحها بدقة، دون المجازفة بالوقوع في الخطأ. و قد لا يكون بمقدورنا أيضا سبر أغوار جوانبه كلها في مقالتنا القصيرة هذه .
إن أحد المناهج التي يدنو بها كانت من هذا الموضوع هي مقولته التي فحواها إن الإنسان يمتلك ثلاث صيغ للوعيConsciousness  ، و هي: المعرفة knowledge و الرغبة desire و الشعور feeling. و لقد كانت دراسة الصيغة الأولى في  ثلاثيته هي مهمة الجزء الأول الموسوم  "نقد العقل الخالص"Critique of the Pure Reason ، و خصص الجزء الثاني الموسوم "نقد العقل العمليCritique of the Practical Reason" لدراسة الصيغة الثانية، تاركا للجزء الثالث "نقد الحكمCritique of Judgment مهمة دراسة الصيغة الثالثة، الذي يقول في مقدمته مكررا أن "النقدCritique  " يهدف الى إعادة توحيد كلمتي "الطبيعة "nature و "الحريةfreedom "، اللتين باعد بينهما "النقدان" ألآخران.
و للوصول الى غايتنا سيكون من المفيد لنا، لكن من دون إثارة أسئلة لا داعي لها عن القدر الذي كان به  ظهور  "النقد" الثالث  متوقعا خلال مدة كتابة "النقد" الأول، الإفتراض أنه من خلال سبره لصياغات الإفتراضات القبلية  prioriو التجربية empirical في "نقديه" الأولين، إكتشف بأنه ما كان يزال هنالك نوعان من أكثر الإفتراضات مدعاة للحيرة عليه البحث فيهما، لأنه لم يكن بعد قد فسر منزلتهما الأدراكية cognitive، و هما الأحكام الجمالية  aesthetic  judgments بخاصة فيما يتعلق بالجليل و الجميل و الأحكام الغائية  teleological  judgments و هي أحكام الغاية .
و لقد تولى "النقد" الثالث هذه المهمة، محاولا إيجاد طريقة للتفكير في هاتين المسألتين من خلال دراسة أعمق لملكة الحكمurteilskraft  ذاتها، و قد جرى تفسير هذه الملكة في "النقد" الأول  بكونها القدرة على تصنيف حدسيات حسيةsense intuitions معينة. و ذلك، بوضعها على وفق مبدأ عام ضمن مفاهيم عامة. و بذا، يجري إعادة الأجزاء التي يتألف منها الحس الى خانة مقولات الفهمverstand understanding  أو، بعبارة أخرى، إجراء تسوية بين الفهم كونه ملكة المفاهيم و التخيل  einbildungskraft (imagination)  كونه الملكة التي تتجمع من طريق التركيب بين الأجزاء التي يتألف منها الحس .
سيكون علينا تجاهل الجزء الثاني من "نقد الحكم" الذي يعالج الحكم الغائي . في الجزء الأول منه، يتبع كانت، لأبعد حد يستطيعه، خطة عامة للفلسفة المتعالية على النحو الذي تجلت به في مرحلة سابقة، تتمثل بوجوب وجود عنصر يعد "صحيحا بالضرورةanalytic " في الحكم الجمالي، و يجري إيضاحه و إثباته من طريق فحص إفتراضاته مقدما، و وجوب وجود منطق يفسر به تناقض الحكم الجمالي، و يحلله بواساطته. إن تحليل الحكم الجمالي يبتدئ بالتمييز بين أربعة "لحظات moments" أو  مظاهر يمر بها. و يجري ذلك بلغة مسرد مصطلحات الحكم الموضوعة في "النقد" الأول. و بدون هذه التفصيلات و غيرها لن يكون بمقدورنا الإنشغال بهذا الأمر على النحو الملائم. و ذلك ليس لأنها لا تثير الإنتباه، أو غير مهمة لفهم فلسفة الفيلسوفف كانت فهما كاملا، و إنما لأنها تتطلب، لفهمها حيزا أكبر من الذي يتحمله هذا المقال الموجز.
نحتاج هنا، قبل تفحص النص، الإلتفات الى فرق عام آخر، و هو أن كانت كان لديه نظرية في الجميل (Das schine) The Beautiful و نظرية في الجليلThe Sublime (Das Erhabene)  اللتين شرع في معالجتهما كلا على إنفراد. مبتدئا بالجمال، كونه محمول "حكم الذائقةjudfment of taste ". و طبقا لـ "خاصيته" يتميز حكم الذائقةgeschmak  بعلامتين فارقتين، هما:
-    أولا . . إن طراز "الأحكام الجمالية" يختلف عن طراز "الأحكام المنطقية logical judgments"، إذ يرجع الحكم المنطقي (و هذا يعد سببا لإحداث تغييرات) الى تمثل vorstellung لموضوع يكون صفته المميزة، في حين يرجع الحكم الجمالي الى تمثل يخص "الذات و شعورها بالسرور أو بالألم" (ترجمة برنارد ص 45). أنه الحكم الذي "لا يكون أساسُ الفصل فيه ذاتيا" (ص ص 45-46).
-    ثانيا . . إن أغلب الأحكام الجمالية ما هي إلا بيانات عن السرور و الرضا؛ "هذا سار" و "هذا مبهج". و مع ذلك، فإن من الأحكام الجمالية ما هي ليست أحكام ذائقة، و تعرف بكونها "ملكة حسن تمييز الجميل" (ص 45) . إن السمة المميزة لحكم الذائقة هي أن الرضا الذي يصفه لنا هذا النوع من الأحكام  يكون "متجردا disinterested". و لقد عمل كانت على تكييف هذا المفهوم المهم، الذي إستمده من التجريبيين، ليجعل منه حجر الزاوية في نظامه الجمالي الفلسفي. فحين يرتبط الرضا الذي نحصل عليه من شئ معين لرغبة منا به موجودة في دواخلنا، رغبة في إمتلاكه، فإن هذا الرضا يسمى "إهتمامinterest ". و بناء على هذا . . عندما يكون السؤال إن كان الشئ جميلا أو لا، فإننا لا ندري أيضا فيما إذا كان أي شئ يعتمد، أو بإمكانه أن يعتمد على كون وجود هذا الشئ هو لي أو لغيري. لذلك، فإن كيفية الحكم عليه تعتمد على الملاحظة المجردة "حدسا أو تفكيرا" (ص 47).
تختلف أحكام الذائقة، في هذه الناحية المهمة، إختلافا تاما عن أحكام القدرة على السرورpleasure ableness  أو أحكام الخيرjudgment of the dood . ذلك، لأن السرور يستثير ميلا، أما الخير فيقتضي ضمنا وجود مفهوم "الغاية" منه، بمعرفة الحال الذي يجب أن يكون عليه الشئ الذي حكم له كونه خيرا، في حين أننا عندما نجد في شئ كونه جميلا لا نحتاج الى وجود مفهوم محدد عنه. و يشدد كانت على ان حكم الذائقة ، الذي يعد " تأمليا تماما " ليس حكما إدراكيا . ذلك ، لأنه لا يصوغ ، او يربط بين ، أية مفاهيم على ألإطلاق ( ص53 ) . ان الرضا عن الجميل " هو لوحده الذي يعد متجردا و رضا تلقائيا " .
و طبقا لـ"كميته" . . إن حكم الذائقة يمتلك نوعا من الكلية. فحين نحكم على شئ كونه جميلا، نقول ذلك على نحو كما لو أن الجمال هو صفته المميزة، نفعل ذلك على الرغم من كون حكمنا هو ذاتي من الناحية الفعلية، طالما أنه يقوم بربط الشئ بالرضا الجمالي. و لكن، بما أن مثل هذا الرضا لا يعتمد على خصوصيات أو افضليات فردية (لكونه متجردا disinterested)، فإنه لمن الطبيعي لنا أن نفترض بأننا قد وجدنا في الشئ  object أساسا لرضا "أي انسان كان"، و هو شئ بالإمكان جعله مصدرا شاملا للمتعة بتلك الطريقة. و بناء على هذا، بإمكاننا أن نعزو صدور أي حكم مشابه لأي إنسان (ص 60). و لهذا السبب، عادة ما نستعمل صيغا لاشخصية للكلام. كأن نقول "هذا جميل"، و لا نقول "هذا يمنحني رضا متجردا". إن حكم الجمال، ليس بإمكانه إدعاء الكلية الموضوعية التي يتميز بها الحكم المنطقي. و ذلك، لكونه خاليا من المفاهيم، و لكنه من ناحية ثانية يطالب بحقه في الحصول على "صفو كلية موضوعية" (ص 56).
إن هذا الزعم بصحة العلاقات بين الأشخاص ما هو إلا مَعلـَمٌ حاسم على وجود أحكام الذائقة Taste . ذلك، لأن هذا الزعم هو الذي يكون من الناحية الجوهرية، عند كانت، باعثا لضرورة كتابته "النقد الثالث" (على الأقل في جزءه الأول) .
و مثلما يكون الحال دائما . . فالسؤال المبهم هنا هو "كيف تكون مثل هذه الأحكام ممكنة؟". و أعني كيف يمكن لأحكام ترتكز على متعة ذاتية، و لا تشتمل على مقولات للفهم، أن تنال تصديقا عليها؟ و الأمر هنا، بالطبع، هو لأنها لن تنال تصديقا جامعا. ذلك، لأن إدعاء الإجماع لا يستند على أية تعميمات تجريبية عما يفضله الإنسان (ص 58). و يكمن الأمر في أن الناس حين يختلفون حول جمال شئ معين، و كل منهم يدعي صحة حكمه، فلا بد أن واحدا منهم على الأقل لن يكون مصيبا. و يختلف حكم الذائقة، في هذا الجانب، الى حد بعيد عن، مثلا، أحكام الإبتهاج بالألوان أو الإستمتاع بالأصوات، بخواص منبعها الحس، و قد تتباين من شخص الى آخر، إذ " ... قد يبدو اللون البنفسجي لشخص ما ناعما محببا، و لآخر باهتا و خاليا من الحياة" (ص 57)، أو  " قد يستمتع أحد برائحة ما و تسبب لآخر صداعا" (ص154). فالناس قد يكونون قانعين بالإختلاف حول هذه الأمور دون أن يبدو عليهم أنهم يعارضون بعضهم بعضا. لذا، فقد يبدو ما نقوله خاليا من المعنى إن زعمنا "أن هذا الشئ ... يعد جميلا من أجلي" (ص 57). و ندع الأمور تجري على هذا المنوال.

و يورد كانت مصطلحا خاصا هو "..............gemeingiiltigkeit " يستعمله للتعبير عن التصديق الخاص فيما بين الأشخاص (أو تصديقا مشتركا) لأحكام الذائقة. و تتمتع الأحكام المنطقية بهذه الخاصية على وفق أسس موضوعية. و بهذا يغدو ربط المفاهيم شاملا، مثلما هو واضح عند قولنا "إن لجميع الورود بتلات"، ثم الزعم فيما بعد إن هذا الأمر يصح عند عقلاء الناس جميعا. و مع ذلك، فبالإمكان تدعيم مثل هذه الأحكام بالتفسيرات. و بذلك، تغدو صحتها المشتركة مفهومة بين الناس، طالما كانت عرضا للنقاش العام و للقياس المنطقي. أما حكم الذائقة، من ناحية أخرى، فهو أساسا حكم شخصي، (يكون ملازما فوريا ... للحدس)(ص 233) يأتي بصيغة "هذه الوردة جميلة"، بمعزل عن مثل هذه المجموعة الشخصية من الأحكام. و هكذا يكون بالإمكان وضع حكم كلي بالقول "أن أغلب الورود جميلة"، و لكنه في هذه الحالة سيكون حكما منطقيا و ليس جماليا. و بما أن حكما شخصيا من هذا النوع، يستعمل مفهوم "الوردة" بصيغته المجردة ، و ذلك لمجرد إجراء تعيين لعملية التمثل المراد الحكم عليه (حتى هنا لن يكون الحكم معنيا بالوردة لذاتها، بوصفها شيئا، و إنما لمجرد كونها وصفا لوعي معين)، فإنه لا يصنف الخاص تحت أية يافطة لمفهوم كلي. ذلك، لأن حكما من هذا النوع لا يمكن تفنيده بالحجج. (ليس ثمة وجود لقاعدة يجبر بها المرء على توصيف شئ كونه جميلا) (ص 62) .
إذا ما قرأني أحد ما قصيدة نظمها، أو فرَّجني على مسرحية كتبها، فوجدتها بالتالي لا تتناسب و ذوقي، و لكي يبرهن لي على جمال قصيدته يستعين على ذلك بالإتيان بأحكام من باتو Batteux أو ليسينغ Lessing ، أو من أي من النقاد القدامى الذين ما يزالون ذوي صيت نقدي في أحكام الذائقة، إستنادا على جملة القواعد التي وضوعوها في هذا الصدد. و هذا يعني، من جانب آخر، أن أية مقاطع لا تحوز رضاي في عمل ذاك الشاعر أو المسرحي قد تتفق الى حد بعيد و معايير الجمال (التي وضعها أولئك الكتاب، و لاقت قبولا عاما). و مع ذلك قد تأبى أذناي الإصغاء الى أية محاججة او جدال في هذا الصدد، لأني بالأحرى قد أفترض أن تلك القواعد التي وضعها أولئك النقاد مضللة، أو على أقل تقدير قد يكونوا أعدوها بحيث لا تتطابق و الموضوع مدار البحث. و بدلا من إقراري بوجوب أن تكون الأحكام الموضوعة "مسبقا " مبنية على دليل ما، فأجد آخر الأمر حلا لذلك، و هو وضع العمل الفني مدار البحث نصب أعيننا للإحتكام اليه، أو نضطر نحن الطرفين الى دعوة آخرين الى مشاركتنا فحص العمل المذكور. ذلك، لأن العمل الفني هو المكان الصائب لإستنباط الأحكام. و مع ذلك، فإننا قد نجد أن إتخاذه أي حكم بهذا الصدد قد يوهم الناس جميعا بصوابه. و على الرغم مما في هذا الأمر قدرا مقنعا من الغرابة، فإن المرء يتساءل: كيف يمكن أن يحصل هذا؟ . . يقول كانت "إن الجواب على مثل هذا السؤال" هو المفتاح لحل  شيفرات   "نقد الذائقة   Critique of Taste   " (ص 63 ).

إذا كان بالإمكان تتبع الأصل الذي ينبع من الرضا عن الجمال و الإستمتاع به، أو معرفة الأساس الذي يقوم عليه في ذهنية معينة نعرف بأنها ممكنة على نحو كلي، سيكون بالإمكان إذن، إثبات الرأي القائل بهذه الكليةuniversality " لن يفيد في أحكام الجمال، آخر الأمر، سوى إيجاد صلة معينة بموضوع المعرفة، و ليس صلة بمعرفة محددة، و إنما أعني بالمعرفة الكلية. يتوصل كانت هنا الى إستنتاجات "نقده" الأول، التي صنفت الملكات الإدراكية المختلفة، القائلة بأن الكائنات العاقلة قادرة على الإدراك، و لكن شرط وجود علاقة منطقية بين ملكتين هما التخيلimagination  (لغرض جمع التنوع الحسي- حدسي مع بعضه البعض) و الفهم (لغرض توحيد التمثلاتrepresentations  الحاصلة  بوساطة المفاهيم). و تشتمل أفعال معينة من الإدراك على صلات منطقية بين حالات تَمـَثـُّل معينة و مفاهيم معينة، لأنها تتطلب وجود علاقات محددة بين التخيل و الفهم. إلا أن هذه الأفعال تفترض مسبقا وجود علاقة كلية "غير محددة". و هذا يعني وجود توافق بين الملكتين الإدراكيتين.  و عندما تتعطل، إن جاز القول، هاتان الملكتان حينا، و لاتتوجهان للسعي، على نحو جاد، وراء المعرفة، فإنهما ستنشغلان بالمعرفة إنشغالا ليس جادا، متنعمتين، على نحو ما، بالتوافق الحاصل بينهما هما دون أن تكونا مقيدتين أو مكبوحتين من لدن إحساسات حدسية معينة أو مفاهيم معينة. عندئذ، يلازم الفعل "شعورا قوامه نشاط غير مقيد للقوى التمثلية و هي تمر في حالة معينة من حالات العلاقة التي يمر بها مع الإدراك الكلي" (ص 64)، فتستولي على العقل في هذه الحالة موجة شديدة من الرضا و القبول بالتوافق الحاصل بين الملكتين لإدراكيتين. و ما هذا الرضا، إذا توخينا الدقة، إلا خبرة الإحساس بالجمال. إن الشئ الذي نحكم بجماله هو ذاك الذي يسبب شكله، أو العنصر المميز للنظام فيه "حرية عمل أكثر حيوية لهاتين القدرتين العقليتين سوية"، و يحدث أيضا وعيا كثيفا بالتوافق بينهما (ص 66). و طالما كانت الكائنات العاقلة جميعها قادرة على التوصل الى حالة ذهنية من هذا النوع، و على الشروط التي ذكرناها، يكون الجمال صفة يشارك بها الجميع .
يقودنا الوجه الثالث لحكم الذائقة حين يُعَدُّ "صلةrelation" تقود الى تحليل أعمق للعنصر المميز للنظام المذكور في أعلاه، بأن يتيح للشئ فرصة تزويدنا بذاك النوع من الرضا المتجردdisintereste ، و هذا يعد سهل المنال عند الكل، أما عندما تتواجد فكرة كلية تسبق ذاك الشئ، و تتدخل في إنتاجه، يحاجج كانت بتحول هذا الشئ الى " قصد purpose" أو "محصلة end".
و مع ذلك قد يعدُّ الشئ، أو الحالة الذهنية، أو حتى الفعل، قصدياpurposive ، على الرغم من أن إمكانيته تفترض بالضرورة وجود تمثيل لقصد معين، إذ بالإمكان تفسير إمكانيته و تصورها من لدنا فقط بالقدر الذي نفترض به وجود سببية يستند إليها طبقا لمقاصدنا، و أعني بهذا حصول رغبة في تقديره على أساس تمثل إنبنى على وفق قواعد معينة (ص68 ).
لدينا هنا أيضا عبارة كانت الشهيرة "قصدية دون قصدpurposiveness without purpose ". إن وضع أمر التمييز على وفق هذه الصيغة لا بد إن ينطوي على أشياء محيرة، لأنه ينطوي على شئ يناقض نفسه، مفاده أن ليس من الضروري أن يكون سعينا الى شئ ما يتطلب أن يكون ذاك الشئ مقصودا إليه، على الرغم من قدرتنا على تصور أمر ذاك الشئ على أنه قصدي دون قصد. و مع ذلك فالتمييز قائم .
بمقدورنا القول أنه لسبب ما علينا إعتباره (أغراض توضيحية ) "كما لو" أنه كان ذا  قصد. و مقال ذلك، هو أننا يمكن أن نحصل على مفتاح للوصول الى إكتشافات هامة عن عضو من أعضاء الجسم إذا ما إبتدأنا دراستنا لذاك العضو بالسؤال أولا عن وظيفته. أو بإمكاننا الزعم بأن الشئ لا قصد من ورائه، و إنما ما فيه من توافق و كمال هما اللذان يجعلانه "يبدوlook " كما لو أنه قد صنع من أجل قصد معين. و مع ذلك، فنحن لا نستطيع التصريح بالغرض الذي كان وراء صنع "مجرة درب التبانة Milk Way Glacsy"، مع أنها تبدو على الأقل كما لو أنها كانت قد صنعت بطريقة ما يمكن "إدراكها" بها بيسر .
و في هذه النقطة يعتقد كانت أنه بالإمكان إيجاد صلة جوهرية بين حكم الذائقة و القصدية، إلا أنها بالطبع لا تهتم إطلاقا بمقاصد معينة. ذلك، لأنها حينئذ تكون مفاهيميةconceptual "، و هو ما يتفي عنها صفة الحياد. إن ما يمنحنا الإشباع الجمالي "هو شكل القصدية المحض الموجود في أسلوب التمثل الذي ...أعطِيَ... به الشئ إلينا، و على قدر وعينا به" (ص 69.).
إنها الخبرة المتأتية من القصدية الإصطلاحية الموجودة في من نتمثله . . هي التي تثير النشاط الحر التوافقي بين الملكتين الإدراكيتين. و لكن، ثمة صعوبة هنا يدركها كانت و يناقشها في "ملاحظة عامة" ملحقة في تفسيره للجمال فحواها: إذا كنا منكبين على الشئ في عملية إدراك جمالي، فكيف سيتسنى للتخيل أن يقوم بذلك النشاط الحر؟ . . و هنا يمدنا مفهوم القصدية دون قصد بالحل و هو: وجود إمتثال للقانون دون وجود قانون. و هذا يعني إنه عند إدراكنا لشئ على مستوى الحس يكون "التخيل" مرتبطا على نحو محدد بهذا الشئ. و بذلك، لا يكون نشاطا حرا (مثلما يحصل في الخيال). و مع ذلك، قد يجري حالا تصور أن ذاك الشئ بإمكانه تزويد الإدراك بشكل form يحتوي على مجموعة من "كُلٍ" مؤلف من أجزاء، مثلما هو الحال في التخيل ذاته، إذا ما تُرِكَ ينطلق حرا و على توافق مع "الإمتثال لقانون الفهم" (ص 69).

ذاك هو ما نسميه التخيل، حين يجري إدراك أسلوب خاص في التعبير عن شئ يبعث الرضا في النفس على نحو إصطلاحي. وهو شئ قد يكون التخيل قام به بنفسه، أو ربما رغب في أنه قام به بنفسه لسهولته، حتى إن كان يتطابق مع القواعد الخاصة بالفهم (و لكن ليس مع قاعدة معينة بذاتها).
و هكذا يرتبط شكل الشئ قبليا  prioriبشعور التوافق بين الملكتين الإدراكيتين. و هذا الشعور هو، على وجه الدقة، مصدر المتعة "الجمالية" المجردة بالذات (ص71؛ المقدمة ص27). و على الرغم من أن حالة ذهنية من هذا النوع قد تبعث في النفس نوعا خاصا من الإهتمام، مع وجود رغبة في الحفاظ على هذه الحالة الذهنية "لتتلبث متأملة الجمال، بسبب أن التأمل يشتد كلما عاود إنتاج نفسه" (ص 71). و لكن، هذا لا يعني أن متعتنا الجمالية لا علاقة لها بمتع الفتنة و العاطفة. فالمتعة الحسية (مثلما هو حاصل في الرسم) قد تكون جانبا من المتعة الجمالية، و لكنها لا تؤلفها طالما كانت الأخيرة مهتمة بالشكل لا بالنوعية. إن الشكل هو أما أن يكون صورة gestalt و هي بنية لأشياء مرئية، أو يكون كلاما  spiel أو تمثيل play و هو بنية لعملية زمنية، مثل الموسيقى (ص75). إلا أن هذا، من ناحية أخرى، لا يعني إمكان وجود قاعدة إصطلاحية موضوعية يجري على أساسها التمييز بين الأشياء الجميلة و الأشياء التي ليست كذلك.  
إن البحث هنا . . في مبدأ الذائقة الذي يزودنا، بوساطة مفاهيم معينة، بمعيار للجمال، قد يكون مسعى لا طائل من ورائه. ذلك، لأن ما ننشده يدخل في باب المستحيل و مناقض لذاته (ص 84).
إذا كانت المتعة الجمالية تعد تجربية empirical  تماما، فإن إثارة حس داخلي أو خارجي، مثلما أعتقد التجربيون empiricists يعد مسعى مقبولا، على الرغم من أن المعيار الذي نستعمله في ذلك نجده آخر الأمر محتملا، و لكن ليس ضروريا. أما إذا كانت المتعة الجمالية متوقفة على مفهوم ما، مهما كان نوعه، مثلما إعتقد العقلانيونrationalists ، فإن هذا المعيار لربما يكون قد تحدد قبليا و صح من طريق للإستنتاج المنطقي لكي يكون بإمكانه إفراد الأشياء الجميلة و يعرض جمالها. إلا أن المتعة الجمالية هي، من ناحية أخرى، ليست حسية و لا عقلية، و انما هي شئ آخر (ص 84).
إن الوجه الرابع لحكم الذائقة هو "مشروطيته". و هذه نسميها الضرورة. "إن الجميل، مثلما نظنه، ينطوي على صلة ضرورية بالإشباع" (ص 91). و ليست هذه الضرورة قطعية، لأنه ما من أحد أصدر حكم ذائقة بمقدوره ضمان إجماع موافقة الآخرين عليه. و يسمي كانت هذا الحكم "إمثولياexampler " و المقصود هنا أنه حكم شخصي ينال قبولا عاما، و هذا مفاده: أنه يزعم أن على كل إمرئ إبداء إستحسانه للشئ مدار البحث، و بذا عليه أن يسميه جميلا (ص92). و لكنه، من ناحية ثانية، يقدم دون ريب أساسا كافيا للموافقة من جانب كل أولئك الذين ينجحون، على نحو صائب، في إيجاد صلة بين الشئ و ملكاتهم الإدراكية. إن الضرورة ، أو الإلزامية المتضمنة في حكم الذائقة، تفترض مسبقا وجود "فطرة سليمة common sense"، و يشمل هذا الحالة الذهنية "الناجمة من النشاط الحر لقوى الإدراك " (ص93) عند كل الناس. فهل لدينا أي سبب للإفتراض مسبقا وجود مثل هذه الفطرة السليمة؟ . . أجل، ذلك لأنها تعد شرطا ضروريا للقدرة على المشاركة في "القدرة على تبادل" المعرفة بذاتها. و هذا شئ مفترض في التحقيق الفلسفي الذي يقوم به كل أولئك الذين لا تربطهم رابطة بالشكوكيين skepticists . و مع ذلك، فإن هذه المسألة تتطلع للوصول الى إستدلالdeduction  كي ننظر في ما يلي الإستدلال.
يقدم لنا الكتاب الثاني من بحث كانت الموسوم "التحليلي analytic" تفسير الفيلسوف "الفائق" لـ" الجليلthe sublime "، إذ يقول إن للجمال و الجلال صفتان مشتركتان و هما: إنهما بأمكانهما كليهما أن يكونا محمولين للإحكام الجمالية، التي تعد شخصية في صيغتها المنطقية، لكي تزعم لنفسها فيما بعد  مصداقية عامة. و أنهما أيضا يعطيان بذاتهما متعة لا تعتمد على الحس أو على مفهوم محدد للفهم. و مع ذلك، فالجمال و الجلال يتعارضان في ناحيتين هما: أن الأول يرتبط بالشكل، و من تم الإحاطة بالشئ، في حين يشتمل الثاني على خبرة في اللاإحاطة. و هذا يعني أن الأول يتوقف على قصدية الشئ، و ذلك بان يجعله يبدو "إن صح القول . . متهيئا قبليا لتقبل لحكمنا"، في حين يبدو الثاني مستحثا من لدن أشياء "إن صح القول. . لتحريف التخيل". إن القضية التي نلاحظها، المسماة جميلا، تسهم في إغناء تصورنا الخاص عن الطبيعة. يجري ذلك بالإيحاء بأن الطبيعة ليست عملية آلية محض، و إنما هي " شئ ما  نظير الفن" (ص 104). و على الرغم مما يحتويه من الإفراط و الإختلال الكامل و الفوضى و التوحد الذي يسيّر الجلال، فإنه بناء على ذلك "لا يعد مفهوم الجليل ذا أهمية قصوى أو غنيا بثماره مثلما هو مفهوم الجميل". يتطلب تحليل الجليل، الذي يعد من أصعب الأمور التي تناولها كانت، تمييزا أعمق بين الجليل الرياضي mathematical  الذي تثيره فينا أشياء تصعقنا بضخامتها اللامتناهية و الجليل الفعال dynamical  الذي تثيره فينا أشياء تبدو و كأنها ذات سلطان مطلق علينا.
"إن ما نسميه . . جليلا . . هو ذاك الذي يعد . . عظيما . . على نحو مطلقthe absolute" (ص 106). و هو الذي يعد أي شئ آخر، بالمقارنة به، صغيرا (ص109). و يعد الحكم بالعظمة (على خلاف كل أحكام العِظَم المستعملة في المقارنة) حكما لامفاهيميا nonconceotual و لاإدراكياnoncognitive . ذلك، لأنه لا شئ نلاحظه بالحواس يبيح لنا تقديم مثل هذا الوصف، عدا شيئا باطنيا، و بالتحديد أفكار العقل التي تصل الى ما وراء الخبرة الممكنة.

و نحن . . حين نقدر الأحجام بالأرقام، فهذا يعني من الناحية المفاهيمية أن التخيل يختار وحدة قياسية معينة، بالإمكان إعادة إستعمالها الى ما لا نهاية. و مع ذلك، فثمة نوع ثان لتقدير الأحجام. و ذاك هو الذي يسميه كانت بـ"التقدير الجمالي aesthetic estimation"، و هو الذي يحاول به التخيل إستيعاب عملية التخيل بتمامها، و إنجازها ببديهة واحدة. و ذلك، لوجود قيد متعال لقدرته. فالشئ الذي يعد حجمه ظاهرا أو متصورا الى الحد الذي بإمكانه تحجيم القدرة بإنزالها الى حدها الأدنى، مهددا بذلك قوة التخيل بتجاوزها، بأن يستهلك طاقتها بضربة واحدة. إن شيئا كهذا، و الحديث هنا ذاتي، لا بد له أن يكون مطلقا. ما يعني أنه بذلك يبلغ الحد المحسوس الأقصى، و ذلك بأن يبدو كما لو كان لانهائيا. يقول كانت: "إن الطبيعة جليلة في تلك الأشياء التي تتجلى في ظواهرها، التي ترافق بديهيتها . . فكرة . . لانهائيتها" (ص 116). و عندما تثار هذه . . الفكرة . . يقتضي الأمر حينئذ أن  يقوم العقل بإعطائها و كأنها وحدة كاملة متكاملة، و بضرورة تقديمها على أنها خبرة ممكنة. و ما كان هذا إلا المتطلب الذي أدى ظهوره الى التناقضات التي برزت في "النقد" الأول، و لكن لم يكن بالإمكان قتلها بحثا . . و مع ذلك، فإن التخيل يصل الى طاقته القصوى، فتكون سببا لظهور عجزه و عدم كفايته، إذا ما قورنت بحاجات العقل، ما يجعلنا ندرك، بسبب التغاير، أهمية العقل بذاته. إن الإحساس  الناتج عن هذا هو نفسه الإحساس بالجليل.
إن البهجة و الإعلاء اللذين نحسهما بحضور الجليل ما هما إلا المتعة الإنسانية الطبيعية الناجمة من تذكيرنا بأننا نمتلك "ملكة عقلية تتجاوز في قدرتها كل معايير  الإحساس" (ص110). ينطوي الإحساس بالجميل عادة على ألم، يسببه إدراكنا للتفاوت الذي بين التخيل و العقل، أما الجليل فيثيرنا دون الركون الى "التأمل المسترخي" الذي يميل بنا الى الجميل (ص 120). و إحساسنا بالجليل هنا له شبه بإحترامنا للقانون الأخلاقي. على الرغم من كونه لا قصديا لأنه مناقض للقصدية بذاته، يجعلنا  الشئ الجليل  ندرك "القصدية الذاتية عند إستعمالنا لملكتنا الإدراكية" (ص108). و تلك هي قدرة العقل الفوقحسية supersensible، واضعين هنا نصب أعيننا، أن العقل لا يمدنا، بالطبع، بالمعرفة الفوقحسية فعلا، و إنما يقوم بوظيفة إعتيادية تجاه عمليات فهم الإحساس. و ذلك، بسبب الإحتياج الى الكمال في منظومة معرفتنا، ذاك الكمال الذي لا يمكن بلوغه إلا بالذهاب الى ما وراء المظهر الذي تبدو عليه الأشياء بذاتها. إنها عظمتنا تلك التي نحتفي بها عندما نستمتع بالجليل، لكوننا كائنات عقلانية.
و إنه لشئ مثير للإهتمام أن نلاحظ في هذه النظرية وجود جزء من مخطط كانت العام المتقن، و فحواه إن القدرة على الحكم تولد الإحساس بالجمال، بسبب التوافق الذي تجده في ربط التخيل و هو يقوم بنشاطه الحر، و نعني به الفهم حين يقوم بدوره الكلي. و هكذا يولد الإحساس بالسامي، بسبب الصراع الذي يخلقه، بأن يربط التخيل، وهو بأعلى أشكاله كمالا، بالعقل و أفكاره المتعالية (ص117).
لقد جرى الحكم على الطبيعة بكونها جليلة على نحو فعال عندما تجعلها قوتها قاهرة في الظروف التي نكون بها آمنين فعلا. إن البرق و الرعد، مثلا، فضلا عن الأعاصير و البراكين، جميعها ترفع طاقات الروح فوق مستوياتها العادية. و بذلك، نكتشف في داخلنا قدرة على المقاومة من نوع مختلف. فتهبنا الشجاعة لوضع ميزان لأنفسنا إزاء القدرة الكلية الظاهرية للطبيعة (ص 125).
إن إحساسنا بالعجز impotence ، لكوننا كائنات مادية، يوضح لنا مدى إدراكنا لتفوقنا اللامحدود بإعتبارنا كائنات أخلاقية، و يبين لنا منعتنا الروحية وسط أخطار الطبيعة. "و هكذا تبقى إنسانيتنا المتمثلة بشخوصنا، مترفعة، على الرغم من إضطرار الفرد أحيانا الى الرضوخ لهذه القوة المسيطرة" (ص126). إنه ذاك الجلال، الذي يكمن خلف  "غايتنا"، هو محط إعجابنا فعلا. لا يعد هذا الوصف للجليل الفعال، عند كانت، نوعا من علم نفس تجريبي (على غرار ما عند بيورك Burke الذي يجلـُّه كانت)، و إنما يعد فلسفة متعالية transcendental philosophy. ذلك، لأن حكم الجليل (حاله حال حكم الذائقة)، إن من يعتقد به يزعم لنفسه، آخر الأمر، صحة كلية. و بذلك، يضطر أن يستند على أساس قبلي. و إذا توخينا الدقة، فإن الإحساس بالجليل هو أندر من الإحساس بالجميل، و يستلزم وجود تثقيف أوسع. و مع ذلك، و لأن هذا الأحساس يحصل بسبب العلاقة المعقودة بين التخيل و العقل، فإن امكانية وجود هذه العلاقة عند أي إنسان، تجعلنا نفترض مسبقا أن الشعور الأخلاقي الذي إستعرضناه في "النقد" الثاني هو وحده الذي يعد كليا، و هو ما يجعلنا نسوغ، بما يكفي، الإعتقاد بأن الجميع ملزمون بالموافقة على ما نقول.
و مع ذلك ، فثمة هنا مسألة لا يتركها كانت على حالة مرضية بالتمام. فهو يصر، في أماكن عديدة، على أن الجلال، بالمعنى الضيق للكلمة، لا يمكن تشكيله من أشياء الطبيعة، و إنما من حالات ذاتية فقط. ففي الحكم القائل "هذا جميل"، ما الذي تشير إليه كلمة "هذا " هنا؟ . . فإذا كانت تشير الى أحاسيس المتكلم، لن يكون للحكم حق إدعاء مصداقية كلية، أما إذا كانت تشير الى أفكار العقل، بحيث يكون الكم الموجود إما يعني أن "اللاتناهي هو الجليل"، أو يعني أن "طبيعة الأنسان الأخلاقية هي الجليل" (أو ربما العقل هو الجليل)، بالإمكان حينئذ إدعاء مصداقية كلية للحكم. و مع ذلك، نجد أن أحكام النمو جميعا تعني الشئ ذاته. فحين يقول إنسان (دون إسهاب) إن الشلال هو الجليل، و يقول آخر إن البحر الهادر هو الجليل، فكلاهما يتحدثان عن الشئ ذاته، و بالتحديد عن طبيعة الإنسان الأخلاقية أو عن عقله. و إذا كانت أحكام الجليل مثيرة للإهتمام، فضلا عن تمتعها بصحة كلية، فإنها لا بد أن تخلق لها صلة معينة بالخارج، لأن تعريف كانت المدروس يبيح هذا الوجوب.
و قد نصف الجليل على النحو الآتي: إنه شئ (من أشياء الطبيعة) في عملية تمثله يُدفع العقل إلى حسبان ما سيتحقق من الجواهر فيبدو و كأنه نوع من تمثل للأفكار (ص134). ففي حالة الجليل، يقوم العقل حقا، إن جاز القول، بعمل يفوق ما يقوم به عند تمثله للجمال. و مع أن كليهما يبعث السرور فورا، إلا أنهما حين يجري إدراكهما للتو، تقوم القصدية الإصطلاحية بلفت الإنتباه على الفور تجاه التوافق القائم بين التخيل و الفهم، في حين لا يعد إتساع الطبيعة بمظاهرها المرعبة إلا نوعا من مادة خام بإمكان التخيل و العقل "إستعمالـ"ـها للقيام بالفعاليات التي يستعرضان بها لاتكافؤهما. فالحكم هنا أكثر سلبية تجاه الجمال. و مع ذلك، يعد حكم الجليل كليا. و هذا يعني . . إننا حين نقول أن الشلال جليل، فإننا نعني بأنه بالإمكان إستعماله على ذاك النحو من لدن أي إنسان يمتلك "عقلا نظريا أو عقلا عمليا". و هكذا نرى أن ثمة فرق منطقي مهم بين أحكام الجمال و أحكام الجليل. فالجمال يزعم وجود رابطة جوهرية و ضرورية بين الشئ و المتعة الجمالية المتجردة، بحيث أن المرء الذي يدرك الشئ كما ينبغي سيحس بالضرورة بتلك المتعة، في حين يزعم حكم الجليل وجود رابطة شرطية أو كامنة ما تزال تحتفظ ضرورتها غير المباشرة. و هذا يعني من جانب آخر وجود حقيقة ملحة. و هي أنه إذا كان بالإمكان إستعمال شئ من لدن إنسان عاقل فرد لإستثارة الإحساس بعظمة العقل إي لإستثارة الإحساس بعظمة العقل أو لإستثارة القدر الأخلاقي للإنسان، فبالإمكان، إذن، إستعمال ذاك الشئ بحرية من لدن جميع من يجهز نفسه للأمر كما ينبغي (ص131). و لكن، ليس بالضرورة أن يجري إستعماله على هذا النحو من لدن الجميع . . ففي حالة الجمال يوجد، إذن، عند كانت وجهتان للمناظرة. و هذا يعني أن عليه أولا أن يكشف، بالتحليل، ما تنطوي عليه دلالة الحكم الجمالي، ومن ثم عليه بعد ذاك المضي لإثبات ضرورته القبلية، لكي يرينا، ببرهان متعال، وجود رابطة ضرورية بين الجمال و المتعة الجمالية. و تسمى المناظرة الثانية بـ"الإستدلال على الأحكام الجمالية المحض". ثم يلتفت كانت بعد ذلك الى المهمة تلك، فيقول أن لا حاجة لإستدلال من هذا النوع للوصول الى الجليل. و ذلك، لعدم وجود صلة ضرورية مباشرة بين تحليل الجميل و الجليل. فعندما يكون التحليل قد أظهر (لكونه يفكر بأنه يفعل ذلك) بأن كل ما هو أساسي للجليل موجود بالضرورة عند جميع الكائنات العاقلة، لا يعود ثمة ما هو إضافي بالإمكان القيام به، أو نحتاج للقيام به، لتبرير الزعم الطامع بمصداقية كلية.
و يضع كانت مسألة الإستدلال على النحو الآتي: كيف يكون الحكم ممكنا، إذا كنا، و بمجرد "إحساسـ"ـنا بالمتعة بشئ ما مستقلا عن أية فكرة عن هذا الشئ، سنحكم بأن هذه المتعة تصاحب عملية تمثل الشئ "ذاته" في أي موضوع آخر يعد "قبليا" دون إنتظار مطابقته للأشياء الآخرى (ص 163)؟ و لقد مهد كانت الطريق الى حل هذه المسالة فورا بالقول . . إن حكم الذائقة التركيبي القبلي يبدو صادقا، إذا إستطاع كانت إثبات شرطه الذاتي، على النحو الذي نجده نحن في أنفسنا. و بذلك نستطيع أن نعزوه لكل إنسان. و هذه بالضبط هي الروح التعاونية بين ملكتين إدراكيتين. و بما أن حكم الذائقة لا يصنف أي تمثل معين تحت أي عنوان من عناوين المفاهيم سوى تصنيف الملكة العامة للتمثل (التخيل) فقط تحت الملكة العامة للمفاهيم (الفهم)، فان الشرط الذاتي الوحيد لحكم الذائقة هو بالذات ملكة إتخاذ الحكم بنفسها. و يجري إظهار كلية هذه الملكة بالحقيقة المجردة القائلة . . أن المعرفة بالإمكان مشاطرتها، أو أنها   "قابلة للنقلcommunicable ".
 ينتقل كانت، في الأقسام الأخيرة من بحثه "التحليلي"، من مناظرته الرئيسة الى أفكار ألصق بالمنطق  discursiveحول عدد من المواضيع، مثل الفن و الطبيعة، و تصنيف الفنون و العبقرية، و روح المرح. فنجد ليه أشياء مثيرة و مشوقة يقولها عن كل تلك الأمور. و نجد في هذه الأقسام بعض المقاطع التي قدر لها أن تترك أثرا، جديرا بالإهتمام، على جماليات الحركة الرومانسية. و لقد تناول تحليل كانت للعبقرية أفكار من سبقوه إلا أنه يتقدم عليهم على نحو لافت . . فمن خلال ما قام به كانت من تحليل  "تبدي فيه الطبيعة حكمها على الفن" (ص 188)، إذ يعتقد أن للعبقري الموهبة للقيام بما لا يمكن تفسيره بقانون. فالأصالة تكمن في خصيصة كانت الأساس، لأنه يأبى التقليد، على الرغم من أنه قد يستوحي بعض الأمثلة من المحيط، أما طريقة عمى الطبيعة فتمتنع على الوصف العلمي. و بذلك، فالعبقرية هي أيضا ملكة "الأفكار الجمالية" (ص 238).
أنا أفهم أن المقصود من الفكرة الجمالية هو أن التمثل الذي يقوم به التخيل يحدث فكرا، دون أن يكون هذا التفكير من ناحية ثانية محددا، و بـ . . محددا . . "بأي مفهوم كان" قادر على أن يكون ملائما له. و هكذا، لا يستطيع بالنتيجة أن يكون مفهوما فهما تاما، و لا أن يغدو مدركا حتى باللغة (ص 198).
و بطريقة نظيرة لتلك . . يطور العقل أفكاره المتعالية، من خلال الوصول الى ما وراء الخبرة الممكنة، و يطورها الى حد لا يعود فيه الحس الحدسي وافيا بالمرام، إذ يقوم التخيل، من خلال تحرير نفسه من عقال الترابط المنطقي للأفكار، جاهدا في تحويل الخبرة الى شئ جديد. و ذلك "بخلق طبيعة أخرى، إن جاز القول، صانعا إياها من المادة التي زودته بها الطبيعة الحقيقية" (ص 198). و هكذا تنخلق الأفكار الجمالية. و هنا يقوم التخيل بمضاهاة السلوك الذي يقوم به العقل. فالشاعر، مثلا، يحاول إدراك المفاهيم العقلانية المجردة، أو التحقق منها بمصطلحات حسية لإدراك مفاهيم مثل الجنة و النار و الأبدية. إن حالات التمثل الذي يقوم به التخيل بـ"ربط" (ص 238) أفكار عظيمة أو بتركيزها (يذكر كانت هنا رموزا مثل النسر و الطاووس) "لكي يثير تفكيرا أكبر مما يمكن التعبير عنه بمفهوم تحدده الكلمات" (ص 199). و هكذا تصبح أقوى مما يقوى المرء على فهمه.
و في "الجدلDialectic " . .  و هو القسم الثاني و الأخير من "نقد الحكم" الجمالي، يعرض كانت التناقض الكائن في الذائقة. إن المسألة المحيرة التي يقوم كانت بعرضها هنا تنشأ من التعرض الجدلي  بين فرضيتين عن الذائقة، إذ لم يجر تضمينها بأمثلة تلقى قبولا كليا فقط، و إنما تستودع هذان الفرضيتان بنفسيهما الى العقل أيضا. و هاتان الفرضيتان هما . . أولا يبدو واضحا أن لا مجال لوجود براهين منطقية تدعم أحكام الذائقة. و بذلك، لا يكون ثمة منهج منطقي لحل تعارضات الحكم، مثلما هو الحال عندما يقوم ناقدان بتقديم أحكام متعارضة، يتعذر حلها، عن عمل فني معين. إن الفرض الأول يقول أن "لا جدال في الذائقة"، حيثما يـُفهم الجدال فيها بإنطوائه على زعم يقول أن الخلاف في الرأي يمكن الإقرار به (من حيث المبدأ) . . ثانيا، يبدو واضحا أيضا أننا، في الواقع، نتنازع حول الأذواق. و المقصود هنا هو الأحكام التي تتميز بوجود نقطة فاصلة، و تعذر حلها يبدو بارزا للعيان، حين يقوم أمرؤ بالثناء على عمل من أعمال الفن، فيشعر بالصد من لدن إنسان آخر يقدح في ذاك العمل. و لهذا السبب لا يستطيع المرء، على نحو مشجع، الزعم أن عملا فنيا معينا هو في الوقت ذاته ممتاز و ركيك. و لكن التنازع، بهذا المعنى، لا يمكن حدوثه ما لم يكن الطرفان يعتزمان بوساطة حـُكميهما إدعاء تصديق الآخرين على الحكم. و يقول كانت . . أن هذين الفرضين يقوداننا الى كلام مناقض لنفسه أو لغيره، عندما يتكرر السؤال السابق ، عما إذا كان حكم الذائقة مبنيا على أساس المفاهيم. إذن، فالتناقض هو ما يأتي:
1-   "الفرضthesis " . . إن حكم الذائقة "ليس" مبنيا على المفاهيم. ذلك، لأنه إذا كان كذلك فإنه سيتيح الفرصة للجدال، طالما كان بالإمكان إيراد مناظرات بالإمكان الرد عليها (هذا يناقض الفرض الأمل المذكور سابقا)،
2-  "الفرض المضادantithesis " . . إن "حكم" الذائقة مبني أساسا على المفاهيم، ذلك لأنه إن لم يكن كذلك، فحتى التنازع لا يكون ممكنا، طالما كان القبول الكلي ليس مطلبا (هذا يعارض الفرض الثاني) .
ثمة، دون ريب، نوع من التكلف في هذا التناقض، مثل ذلك الذي برز في "النقدين" السابقين. و مع ذلك فهو يساعدنا على إستجلاء بعض من سمات نظرية كانت الجمالية إستجلاء تام الوضوح .
إن إعادة التراضي بين المتنازعين يتوقف على إظهار أن "المفهوم الذي نشير به الى الشئ في هذا النوع من الأحكام ينبغي ألا يكون مأخوذا بالمعنى نفسه الموجود في المبدأ الأساس لكلا حكمي الجمال و الجلال" (ص 231). أما حكم الذائقة فلا جدال فيه، لأنه ليس مبنيا على مفاهيم محددة للفهم. و هذا يعني إمكانية التنازع حوله، لأنه مبني على وفق مفهوم محدد، ذاك هو "المفهوم العقلاني الخالص تماما لما فوقالحسي، و هو ما يعد أساس الشئ (و هو أيضا الموضوع الذي يصدر الحكم به)" (ص 233). إن الدافع لفلسفة كانت في الفن هو لوضع الأسس لأستقلاله الجمالي. إستقلاله عن الرغبة، و إستقلاله عن الواجب الأخلاقي، و عن المعرفة، و مثلما جاهد في النقدين السابقين بالضبط لإظهار أن الفهم في نشاطه القبلي فهو أيضا مستقل عن الحس. و كذلك لإظهار أن البدأ الأخلاقي مستقل عن المنفعة. و مع ذلك، فإن هذا ليس هو الجوهر الكلي لفكرته الأخيرة. ذلك، لأنه بمجرد ان تظهر إختلافاته، يبدأ بالبحث عن مستوى أعلى تستطيع العلاقات المنطقية بموجبه إعادة تشكيل نفسها. لذا، نجد آخر الأمر أن بين الجميل the beautiful  و الخير   the goodصلات قربى. يقول كانت . . "أنا أصر على أن إبداء إهتمام فوري بجمال الطبيعة (و لي فقط حق التمتع بذائقة الحكم عليها) هو دائما علامة على الصحة الروحية" (ص 177). و يضيف بأن هذا لا يصح في حالة إبداء إهتمام بجمال الفن، حتى لو كان في هذا الإهتمام حب كاف للتعلم، لأنه قد يكون مشوبا بالخيلاء. و مع ذلك، فلأجل الأستمتاع بجمال الطبيعة لا بد من أن نجد في الطبيعة قصدية و إنسجاما سرعان ما نتعرف عليهما بكونهما تعبيرا عن "عقل mind" كوني مماثل لذلك الذي في داخلنا، و يعبر عن نفسه في الناموس الأخلاقي. و هكذا يكون بالإمكان إعتبار الجمال رمزا للنظام الأخلاقي. و هذا هو المصدر  الحقيقي لقدرته على جعل العقل "واعيا بتشريفٍ و إعلاءٍ معينين يتصفان بأنهما فوق الإحساس المجرد بالمتعة التي نستلمها من الحس" (ص251). إن حال الذائقة الجمالية يشبه حاله حال الوظائف و الملكات الأخرى التي يتكون منها العقل الكانتي، في تتبعه الدقيق لميوله الخاصة، و القيام بدوره في تنظيم العقل.


                    





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق