بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 5 أكتوبر 2016

علم الجمال عند سانتيانا وديوي

On philosophy … A Section from Monroe Beardsley’s
Aesthetics from the Classical Greece to the Present (2)
Translated by Ahmed Khalis Shalan   

في الفلسفة... قسم من كتاب ... مونرو  بيردزلي  الموسوم ...
                       علم الجمال من الإغريق القدامى الى الوقت الحاضر
ترجمة:أحمد خالص الشعلان
Monroe Beardsley
A. Kh. Shalan       
Santayana and Dewey’s Aesthetics
علم الجمال عند سانتايانا و ديوي

 كنت في تصنيفي، العرضي ربما الى حد ما، لبعض فلاسفة علم الجمال في القرن العشرين، ممن اتخذوا منحى ميتافيزيقاً في حل مسائلهم الفلسفية، قد استثنيت انواعاً من الفلسفة التي بالامكان تسميتها (ميتافيزيقية). و قد تعد كذلك من قبل البعض، و هي الفلسفة التي ربما تندرج  تحت عنوان " الفلسفة الطبيعية الامريكية" وهو عنوان واسع، مثلما اتصور، يشمل عددا من الفلاسفة الذين سموا انفسهم بالطبيعيين Naturalists، والماديين Materialists، والسياقيين   Contextualists ، و التداوليين Pragmatists، و الذرائعيين Instrumentalists . انه لصحيح ان الفرق المميز بين الفلسفة الطبيعية وانواع اخرى من الفلسفة الميتافيزيقية قد جرى البحث فيه. و مع ذلك، فلست بصدد الدفاع عن جدواها هنا. و لربما يكون من المناسب، بل ومفضل هنا، ان أتطرق الى بعض الفلاسفة الذين لم اتطرق لذكرهم سابقاً، مع تسويغ لهذه الانتقالة عند الضرورة. وأقدم اليهم أيضا اعتذاراي، لعدم قراءتي لهم سابقا على النحو المطلوب.

          إن العديد من الفلاسفة الطبيعيين الامريكيين ممن تجدر ملاحظتهم، أمثال وليم جيمس William James، لم يكونوا قد خصصوا عناية دقيقة ومتواصلة بمسائل علم الجمال. ومع ذلك، فان اثنين منهم، فضلاً عن آخرين، كانوا بارزين بحق، ممن قدموا مساهمات ذات قيمة في علم الجمال.
          سأبدأ أولا مع جورج سانتيانا George Santayana (1863-1952)، الذي ينتمي تفكيره، بتقديري، الى القرن العشرين، على الرغم من أن كتابه الاول في علم الجمال سبق صدوره مجئ القرن العشرين باربع سنوات. لقد قام سانتيانا بتدريس نوع من الميتافيزيقيا، على الرغم من كونه كارهاً لتسميتها على هذا النحو، اذ سماها " الفلسفة الطبيعية   Naturalism"، أو " المادية " Materialism ، و هو المصطلح الذي يفضله ويراه أكثر دقة. و إن توخينا الدقة، فقد ميّز بين اربعة " عوالم للكينونة"، وأنكب عليها لتستغرق عمله الطويل، الذي تميز بثراء تخيله. ومع ذلك، فلم يثبت في النهاية انها تختلف فيما بينها من ناحية علاقتها بعلم الوجود. ذلك، لأنها جميعاً بالتالي تعود بالذات الى الواقع الذي يتسم " بالخصب العصي على الفهم"  و معه الغموض الذي تتسم به المادة اساسا. و لا يتألف " عالم الكينونة  " realm of essence من الموجودات، وانما من خواص وحالات المادة. و يعد " عالم الروح " realm of spirit  ظاهرة مصاحبة، وهو حالة عقلية تنشأ نتيجة منطقية للعالم الاول، ولكنه مقيدٌ جوهريً للاساس المادي. و هذه هي، في الاقل، الفكرة العامة التي يقدمها سانتانا. ذلك لأنه، وللاسف، لم يقم فعلاً على نحو واضح و محدد بتفسير ماهية المادة في الواقع، ولا الكيفية التي تنشأ من المادة العوالم الاخرى.
Santayana
          لم تكن الميتافيزيقيا، وبأية حال، غايته، كما كان هو الحال عند الماديين القدامى. و مثال ذلك أبيقور Epicurus، الذين كانت الميتافيزيقيا عنده بالاساس طريقة لتحرير الانسان من المسلمات الثفيلة الوطأة تجاه الوجود، وتهئ في الوقت نفسه الجو للاشياء التي تعد مركزية بالنسبة للحياة. و يعد سانتيانا، بهذا المعنى و بالاساس، عالما اخلاقيا. و لكن ليس ذاك الاخلاقي الذي يضع قواعد، وانما ذاك الذي يعلم الانسان كيف يعيش. و ما دام الانسان يولد و معه اهتمامات عديدة قد يفضل بعضها و يرفض البعض، فان عليه أن يتعلم كيف يوفق بين تلك الاهتمامات و على كل المستويات، مشكلاً لنفسه كمالا في الحياة، يضفي عليه الجودةquality  و الخلق character، ومدركا نوعاً من الخير الغالب أو المركزي. و مثال ذلك؛ الحياة التي يعيشها الراهب الفرنشسكاني أو البوذى، أو الزعيم المكرس حياته للدفاع عن الحقوق المدنية، أو الرسام، أو الشاعر. إن هذا "السعي العقلاني وراء السعادة "هو "حياة العقل" (انظر " العقل في الفن" 1903، الجزء الرابع من "حياة العقل "، ص 151). إن الدافع الرئيس لفلسفة سانتيانا في الفن هو لتشخيص دور "الجمالي" في هذا التخطيط الكامل.

          فهو لم ينظر فيه بوضوح كاف في البداية، إذ كان كتابه " الاحساس بالجمال The sense of Beauty (1896) " اساساً دراسة سيكولوجية، بعضها استبطاني، و بعضها الآخر تأملي، للخبرة الجمالية وشروطها. لقد كان الكتاب، من ناحية، نوعاً من التأمل، لأن نوع السؤال الذي طرحه سانتانا يشبه الى حد كبير ذاك الذي طرحه الجماليون التجريبيون في القرن الثامن عشر. وعد الكتاب، من ناحية ثانية، في المحيط الخاص بزمنه، (اذ تميزت الحقبة بهيمنة الهيغلية Hegelianism  في الحقل الاكاديمي والمرحلة الاولى لعلم الجمال التجريبي)، و دون ريب شيئاً جديداً جداً ومثيراً للدهشة. إن جدة الكتاب الرئيسة تتمثل في محاولته تقديم تفسيرات سيكولوجية لاثنين من الظواهر الجمالية، وهما: الجمالbeauty  و اسلوب التعبير expression. فمن ناحية الافضلية الرائجة هذه الايام، ليس بالامكان نعت علم النفس بالحنكة العالية، على الرغم من ان هذين الموضوعين الخاضعين للنقاش كان لهما، على حد سواء، سحرا طاغيا و اقناعا كافيا، بأن حملا لشريحة واسعة من القراء احساسا منشطا، نحاول عادة استعادته، على الاقل، بالتجربة على ارض الواقع. و لقد جرى نقاش لتفسير الموضوعين من قبل العديد من علماء الجمال، الذين تركوا بصماتهم عليه.

          و يبدأ سانتيانا قائلاً أن الخبرة التي نستقيها من الفن هي المسرة pleasure، وهي قيمة ايجابية و داخلية intrinsic. و تشبه هذه المسرة ألأحاسيس الأخرى في انها بالإمكان تحويلها بوساطة العقل الى " خاصية quality  شئ ما" )ص44)
                   "اذا قلنا ان على الاخرين ان يروا الجمال الذي نراه في الاشياء، فان ذلك مرده الى اعتقادنا بان ذاك الجمال موجود في الشئ ذاته) مثل الالوان، والنسب التي تشكل حجمه. فيبدو لنا حكمنا عليه وكأنه ادراك و اكتشاف لوجود خارجي بوصفه ميزة خارجية حقيقية.
                                                                      (ص ص 44-445)
ويقول سانتانا، انه طالما كان الجمال "قيمة" لا توجد إلا في الادراك، فان هذا التحول الاسقاطي "يعد من الناحية الاساسية منافياً للعقل ومناقضاً لذاته"، ذلك لأن الجمال الذي لا يدرك يغدو مسرة ليست محسوسة، وبذا يُعد تناقضاً (ص 45). ومن هنا جاءت مقولته: "ان الجمال هو مسرة لكونه يعد ميزة لشئ معين" (ص49)، او " المسرة المتموضعة" (ص 52). ونحن هنا قد لا نجد حقاً الشئ الكثير بالرجوع الى السيكولوجيا، ذلك لأن سانتيانا يلجأ تماماً الى ما يعده ميلا عاما شاملا، أو قدرة للذهن تتمثل بـ "ميل شامل بالاساس لجعل أي  تأثير للشئ يمارسه علينا و كأنه مقوماً للطبيعة المدركة بالحواس لذلك الشئ" (ص 48).  وكان بعد مضي سنوات، و في هامش لبحثه الموسوم "اللاإستقرارية في المقولات الجمالية The Mutability of Aesthetic Categories (1925)"، قد قال "قد لا أستعمل الآن تعبير المسرة المتموضعة لاني أرى بان أي مصطلح لا يغدو ذاتياً تماماً الا بسبب ظهوره كبديهة"، و هذا يعني ان مسرات مثل التي تثيرها الالوان لا تعد موضوعية، و لا ذاتية، وإنما طبيعية (مراجعة فلسفية Philosophical Review ص 284).

          وبعد تقديمه تفسيره الخاص للجمال، خصص سانتيانا باقي كتابه لمناقشة أنواع الجمال و شروطه، و يقسمها الى ثلاثة اصناف فهناك: جمال " المادي"material ، و مثاله مسرة الالوان والاصوات، و جمال " الشكل "form، و مثاله مسرة التناسق والتناسب، و جمال "أسلوب التعبير "expression. و يقول ان "أسلوب التعبير" يظهر حينما ترتبط، على نحو غامض الاصداء الساكنة لبعض المشاعر بمدرك حسي باقٍ في الذاكرة. و ذلك بان يجري تلوين الصورة التي نركز عليها انتباهنا، عن طريق تكييف رد فعلنا الحالي (ص 193). فاذا كان العنصر الذي جرى ربطه مدركاً بالتمام، لدرجة اننا نأخذ محتواه الحالي بوصفه مفتاحاً له، سيتحول يتحول تفكيرنا اليه بالكامل. و لن يتجلى اي اسلوب هنا بوصفه اسلوب تعبير ولكن "دع صور الماضي تتلاشى، دعها تماماً تغدو وكأنها هالة وايحاء بالسعادة يزينان المشهد" (ص 194)، عند ذاك يصبح المحتوى بالغ التعبير.
قد نميز في كل اسلوب للتعبير جانبين: يتجلى الاول في الموضوع وقد قدم فعلياً، بالكلمة، والصورة، والشئ المعبر، اما الثاني فيتجلى بالشئ موحاً به، بالفكرة الاعمق، والعاطفة، والصورة وقد استثيرت، بالشئ المعبر فيه.
                                                                             (ص 195)

أما باقي الكتاب فيعد مناظرة طويلة جداً، ولكن مشوقة، فحواها ان القيم الايجابية هي وحدها  التي تبقى، حتى إن كانت تشتمل في أساسها على شرور، لكي تمسي محتويات تصلح للتعبير عنها بالفن، بحيث أن "لاشئ سوى الصالح the good  في الحياة يدخل في نسيج الجميل" (ص 26).
يبتدأ كتاب " التفسير في الفن "Reason in Art بتفسير شامل لنشأة الفن حيث يؤخذ المصطلح بمعناه الواسع القائل "ان أية عملية تقوم بأنسنة وعقلنة الاشياء بالامكان تسميتها فناً "art (ص 4). و بذا تتنحى جانباً ما قد نسميه عادة بالمهارات والنشاطات العملية. ان النتاجات التي تكون فيها القيمة الجمالية، أو من المفترض ان تكون، جلية بالامكان تسمية تلك بالفنون الجميلةfine art. ولكن يبدو ان سانتيانا غير راغب منذ البداية بالامساك بإستعمال المصطلحين " عملي "practical  و " مفيد "useful  مع الفنون الجميلة، وهو غير مرتاح للتفريق الجاري بين "الوظيفة الجمالية للاشياء " و " وظيفتها العملية والاخلافية"، إذ يقول " ان بالامكان انتزاع بهاء الوردة من بتلاتها بسهولة أكبر من انتزاع جمال الفن من موضوعه، و صلاحيته، و فائدته" (ص 16(. و يبدو أن واحداً من المشاعر الغالبة عليه طوال عمله هذا هو ارتيابه بفكرة " الجمالية "Aestheticism  كلها، مع أيمان راسخ مفاده أن إبعاد " الخير الجمالي "aesthetic good  عن باقي انواع الخير التي يقول انها " فقست في العش ذاته"، ستؤدي الى سلب الحياة من الفنون الجميلة و وتسفيهها (ص ص 183و 194).
         
إن هذا الرأي المزدوج، القائل بوجود اشكال جمالية للخيرمميزة، فضلا عن اعتمادها                 في وجودها على علاقة حميمة بالاشكال الاخرى للخير، يعد واحداً من الآراء التي يواجه بها سانتيانا صعوبات في الحفاظ على موازنة فيما بينها. ففي نقاشه لموضوع الموسيقى مثلاً (الذي يعد من أفضل النقاشات في مختلف الفنون(، يعطي وصفاً جميلاً للعملية الموسيقية ينطبق تماماً على الكيفية التي تجري بها في الواقع، وللبهجة الكامنة فيها (ص ص44-47،52-56)، غير أنه يضيف فيما بعد بان الموسيقى محررة من هذا " المأزق الذي يشي بالمرض" والذي يعني العدم، بسبب التعبيرية الوجدانية للموسيقى، التي تتيح بها لنفسها استعمالات لانهائية للغايات التي تسعى اليها الصلوات والاحزان، والرقص (ص ص 56-57)، بحيث يبدو تسويغها العقلاني، برأيه، ناقصاً مالم يرتبط بشئ أكثر جوهرية.
         
ويذكر سانتيانا، في سياق كتابه، أشياءً كثيرة مثيرة للاهتمام ومؤثرة عن الفنون، فرادىً و مجتمعة ، ثم يصل الى قرار عام بشأنها. يبتدأ بـ"تسويغ الفن" (ص 9) على نحو تبريري، نوعما، بالقول ان تلك الأشياء لايمكن ان تسبب اذى كبيراً. يبدو على سنتيانا احساس بضرورة الاجابة على إفلاطون ثانية، ومهما كان مقدار السقم الذي تنتجه تلك ألأشياء، فهو من المحتمل ان يكون طفيفاً وعابراً. و مع ذلك، فالبراءة ليست هي فضيلة الفن الوحيدة. ذلك، لأنها على القدر الذي تكون فيه مبهجة من الناحية الجوهرية، تغدو هكذا مثالاً للحياة ذاتها. ولكونه مثالاً للمسرة المتوافقة المنضبطة عقلانياً"، يعد الفن عموماً اعادة تشكيل للحياة العقلانية (ص 172) ونموذجاً، ومقوماً لـ " الحياة في العقل". فحين يكون على الفنان وصف:
"المظاهر، فهو قد يجادل بحق، بانها هي وحدها الحقيقية. ان القوى جميعا، والمواد، والوقائع، والمبادئ هي وحدها التي تعد اشياء كامنة بالامكان حدسها. أما في المجال الاخلاقي، فالوسائل لوحدها هي التي توجد المظاهر الامينة للاصل. فلأجل ادراك مثل هذا المظاهر، ولاجل تجسيد شكلٍ معين بالمادة، فهذا يعني تسويغاً مبتكراً لأي اساس قد يقوم عليه المظهر من أجل التعبيرالذي يحصل على وفق ضرورة ما. و هذا يعني الشروع في الحياة".
          قد يكون من السهولة بمكان، إذا توفر الحيز لذلك، الاشارة الى الطرق العديدة التي تعد فيها روح فلسفة سانتيانا مغايرة لفلسفة جون ديوي John Dewey (1859-1952)، إلا أنهما عند اصدار حكم اساس عليهما، فانهما بموجب ما قاله ديوي عنهما، كانا يعدان في معسكر واحد. ففي محاضرات كاروس، الموسومة " التجربة والطبيعة "Experience and Nature (1927-57)، يضع ديوي هذا الخيار على النحو التالي:
"لا يوجد من الناحية الجوهرية سوى خيارين: فأما أن يكون استمراراً، بالاختيار الذكي للميول الطبيعية و حوادث الطبيعة و تنظيمها، أو أن يكون الفن اضافة مميزة لانبثاق الطبيعة من شئ موجود حصراً في مشاعر الانسان، أي كان الاسم الذي نطلقه على الثاني. ففي الحالة الاولى، يعد الادراك المدعم بالبهجة، أو بالتقدير الجمالي، من الطراز ذاته الذي يُصنف به الاستمتاع بأي شئ من طراز فاخر. فالفن هو محصلة معالجة ذكية بارعة لأشياء الطبيعة لأجل تكثيف، وتنقية، وإطالة وتعميق حالات الرضا التي نتلقاها عفوياً. و بذا يجري، في هذه العملية، تطوير معانٍ جديدة، وهذه بدورها تهبنا، على نحو فريد، سمات جديدة وانواع جديدة من المتعة. و ذلك هو ما يحدث في كل أوان تنشأ فيه حالات من النمو بوصفها نتيجة طبيعية."
(ص 389)
يُزودنا هذا المقطع بعرض دقيق، بل قل مختارٍ، لوجهة نظر حول الفن مستقاة من "المذهب الطبيعي التجريبي" أو " المذهب التجريبي الطبيعي" الخاص بديوي (ص  أ1).
         
كان ديوي قد تجاوز السبعين من العمر عندما تجنب مهمة اصدار مثل هذا الرأي على نحو بين وتام. و مع ذلك، فكتابه " الفن بوصفه خبرة ً"Art as Experience  (1934) به مناخاً من العفوية والكشف الجديد، وجدة الرؤية، وكم هائل من ثراء الايحاء، فضلا عن فصاحة اختص بها ديوي، تتمثل بنمو جدل خاص به، يتميز بالميلان، و لكنه متواصل وعنيد. و بسبب اتساع رقعة القبول به، يعد هذا العمل الأكثر قيمة بين ما كتب بالانكليزية، أو ربما بين ما كتب بأية لغة أخرى، في علم الجمال حتى في قرننا الحالي. انه ذاك النوع من الكتب الذي يتيه فيه القارئ حين يقرأه لاول مرة، ولكنه ما أن يُفتح مرة أخرى للقراءة حتى يروح ليهب قارئه رؤى جديدة مدهشة، فتعاود  الذاكرة مقاطع عديدة يضطر المرء الى اقتباسها، بسبب حرافتها وقوتها التي يبدو انها تمسك بالحقيقة الأكثر أهمية.
         
J. Dewey 
وعلى الرغم من أن قدراً كبيراً من كتاب " الفن بوصفه خبرة" يبدو جديداً )على الأرجح لكونه آت من ديوي)، إلا أن منهجه كان قد أُعد له فعلاً في مرحلة مبكرة من نشره لكتبه، ولقد كانت مبادئه الاساسية الرئيسة قد جرى توضيحها تقريباً، ودون ريب، في كتابه "الخبرة و الطبيعة "Experience and Nature، اذ نجد فيه مقولته الاساسية في "الخبرة"، كونها تفاعل بين الكائن الحي والمحيط، ليس في القطب الذاتي فحسب، بل في التعامل كله (ص ص421-23 د)، الذي "يوفق" الانسان " في إنجازه ويقاسي منه"، مثلما يقول في كتابه "الفن بوصفه خبرة " (ص 48). و تنقسم الخبرة عنده ، و ان لم يوضح ذلك توضيحا جوهرياً، الى جدائل "بدايات ونهايات"، على شكل "تبعيات لِـ" و "إستقلاليات عن خط غير نظامي" يسميها "سجلات  " histories لـ "خبرة ما"، كما ورد في كتابه المذكور آنفاً. و لا تعد الخبرة الجمالية " شيئا ً" أكثر من "خصوصية و بدنية "من أي نوع آخر (ص 24) (. و مع ذلك، فأن الفكرة المبهمة عن " نوع"sort  من الخبرة التي يتحدث عنها قد تكون مضللة. ذلك، لأن أية خبرة تشتمل، الى درجة ما، على إنتباه لنوعية مقدمة كهذه، لا بد أن تشتمل على " أشياءٍ تعد نهائية" (ص 80). و تلك، هي التي تهبنا إكتمالات من نوع ما (ص81)، إذ تعد هذه دائماً مظهراً جمالياً، أو جانباً من جوانب الخبرة. و ليس ثمة ما يدعونا الى التفكير في الخصائص التي أبدينا بها اهتماماً على انها " اسقاطات "projections ، أو " تموضعات "objectifications
"تعد الاشياء، من الناحية التجربية، حريفة، مأساوية، جميلة، مرحة، ساكنة، مضطربة، مريحة، مزعجة، فظة، مؤاسية، فاخرة، مخيفة؛ وهي هكذا مباشرة وبحكم ما تتمتع به من حق شخصي و ما تقتضيه مصلحتها. و اذا حصلنا على ميزة استعمال كلمة جمالي بمعنى أوسع من استعمالها في ثنائية الجميل- القبيح، فخاصية الجمال المباشرة، سواء أكانت غائية أو منطوية على نفسها، لتجسد على نحو لا يتطرق اليه الشك حالات طبيعية، على نحو ما تظهر عليه تجريبياً، تقف هذه السمات بذاتها وبدقة على المستوى نفسه الذي تقف عليه الألوان، والأصوات، وخواص اللمس و الذوق  و الرائحة.
(ص 96 و ص 108)
                                                                  
          وعلى الرغم من أننا حين نراجع حياة ديوي الفلسفية الطويلة المليئة بالنشاط، فاننا لا نرى فيها العديد من الانعطافات الحادة، ولربما كان كتابه " الخبرة والطبيعة Experience and Nature " يمثل شيئاً من انعطافة، اذ كان ديوي حتى صدوره مهتماً في تطوير التعاليم الاساسية لـ " فلسفته الذرائعية "Instrumentalism ، و بخاصة (تعاليمه في المنطق(، بوصفها نظرية في هذه المسألة و (تعاليمه في المعرفة(، بوصفها ذات علاقة بالفعل أو ذريعة له، و (تعاليمه في القيمة والخير الاخلاقي(، بوصفها شكلاً للمعرفة التجريبية، بالإمكان اكتسابها واختبارها على المدى الطويل مثل باقي انواع المعرفة. و كان التشديد يقع على الوسيلة، والمنهج ، و على مجرى العملية. و لكي يقوى جبهته ضد القيم الجوهرية، و قيم الغايات النهائية، كان عليه ان يكون هو نفسه "النظرية المتفرجة" على المعرفة epistemology، و على مذهب "ما فوق الطبيعي Supernaturalism" و كل انواع الثنائيات dualisms. ونعني هنا فصل العقل عن الجسد، والنظرية عن الممارسة، و المعرفة عن الفعل، الخ. و بذا، صار ديوي يتحدث بشمولية أكبر من ذي قبل عن الوجه "التكاملي  "consummatory بين الخبرة والطبيعة. و لقد تحقق عنده التوافق بين هذا والملامح الذرائعية للخبرة بالكلمات التالية:
"حين يتجلى هذا الادراك سيكون شيئاً مألوفاً. ذلك، لأن الفن (المقصود هنا شكل النشاط المشحون بدلالة قادرة فوراً على الاستحواذ على المشاعر المستمتع بها) هو التأوج الكامل للطبيعة، ولأن " العلم "science هو الوصيفة المناسبة للقيام بهداية أحداث الطبيعة الى هذه النتيجة المطلوبة."
( ص 358)

لنقارن هذا المقطع بآخر مقطع مقتبس من سانتيانا فيما سبق، مع تغيير تعبير " المظاهر "appearances  الى "الخصائص المستمتع بها فوراً"، و نرى.
         
لنلتفت الآن الى مقولته "الفن بوصفه خبرة"، لنرى كم من افكاره الغنية بامكاننا عزلها وعرضها بوضوح في صفحات قلائل. يبتدأ ديوي (مثلما يفعل غالباً) بالبحث عن المصادر التي تنجم عنها الثنائيات. أن الفصل العملي بين الفن والحياة، مثلما يحصل في المتحف مثلا، أو في صالة الكونشرتو، و جعل الفن، مثلما يقول "ردهة الجمال الخاصة بالحضارة" (ص 344)، ما هو إلا شئ مواز للميل الفلسفي في محاولته فهم الفن بمعزل عن مصادره في الخبرة الاعتيادية، اذ يقول:
"ان المهمة تتمثل في الحفاظ على دوام العلاقة بين الاشكال المكثفة والمنقاة للخبرة التي تعبر عمها اعمال الفن، والحوادث اليومية، والافعال، واشكال المعاناة المسلم بها تسليماً عاماً كونها تشكل الخبرة (ص 3).

إن المفتاح لرأي له صدى عن الفن يأتينا من معرفتنا بالحضارات البدائية، ومن مراحل مبكرة للحضارة الغربية، و من حيثما نجد الفنون على علاقة قوية بالنشاطات الثقافية الاخرى، مثل المراسيم واحتفالات المناسبات المتجسدة في سمات الخبرة التي نواجهها في العبادة، والصيد، وعمليات البذار والحصاد ( ص ص 6-7)، و لفهم الجمالي "على المرء ان يبتدأ معه بالمادة الصرف raw) ( ص4). و على الرغم من ان البعض قد يجد، غالبا، في المكائن البخارية ولاعبي البيسبول (ص 5) و في الكلاب النابحة متدافعة على طعامها، كونها جميعا مراجع صرف أكثر من كافية، إلا ان منهج ديوي، بابتدائه بوصف لـ "الكائن الحي" في تفاعله مع الطبيعة، قد أعطى للعديد من الفلاسفة في زماننا رؤيا عن الفن مقنعة وملهمة.

و مع ذلك، إن وصف ديوي للخبرة في سماتها العامة يعد الآن تقليدياً. فهو يقول على سبيل المثال:
" إن الخبرة المباشرة تأتي من الطبيعة والانسان، وهما يتفاعلان مع بعضهما. وتتجمع في هذا التفاعل الطاقة الانسانية، لكي تنطلق أو تنكبح، محبطة أو منتصرة. فثمة ايقاعات للرغبة والتحقق، وثمة نزعات للقيام بالفعل أو الامساك عنه.
(ص ص 14، 22، 24)

ثمة في الخبرة نوبات يفقد فيها الكائن الحي تساوقه مع الطبيعة. إن العاطفة ما هي إلا علامة على تغير مفاجئ، حاصل أو شيك (ص 15). فضلاً عن أن التمرين الواعي للذكاء عند الانسان يُستدعى هنا لأصلاح الوضع، و لاسترجاع الاتزان و النظام، إذ يقوم الوعي بمراقبة الاسباب والنتائج، والارهاصات ونتائجها الطبيعية، لكي يقوم بتحويلها الى "علاقات بين الوسائل والغايات "، بأن يقوم على نحو مدروس بتكييف احدها، من اجل كسب الآخر (ص 25). و بذا تصير الاشياء ذرائعاً instruments . و ذلك، بأن يجري "ادراك ان مادة التفكير مندمجة في الاشياء وكأنها معانيها" (ص 15).

و تبدو هذه الجملة ملغزة الى حدٍّ ما، وهي أيضاً صعبة، بسبب كون مفهوم المعنى عند ديوي يقوم بوظيفة في علم الجمال الخاص به. و ليست بعض بياناته عن المعنى هي الاخرى أقل غموضاً، وذلك لوجود "معانٍ ناشئة" (ص21) و لعدم وجود كم من طاقة الخبرة الحسية الفورية قادر على استيعاب المعاني و القيم الموجودة في طياتها وعنها. هذا في صيغتها المجردة) التي ربما يشار اليها كونها " مثالية  " ideal و "روحية  "spiritual (ص 29). أرى ان بالامكان وضع فكرته الاساسية على النحو التالي: ان بامكان الانسان، في لحظات الخطر، الامساك بحجر واستعماله كسلاح، وقد يصنف ذاك الحجر تصنيفا من نوع ما، فيضعه على رف مستوقده ليستعمله موضوعا للحديث، و بذلك سيذكّره هذا الحجر بخلاصه من الخطر في الوقت المناسب. وهذا هو بالضبط ما يسميه ديوي بـ "تداعي المعاني "association. و لكن لنفترض بان لهذا الحجر خواصاً معينة، بالشكل، وتركيبته، والوزن، هذه الخواص التي تتيح نفسها الى الرؤية، بحيث يبدو الشيئ و كأنه قابلاً للأمساك به والألقاء به كأداة تدمير. (فدلالته، المقصود هنا كونه سلاحاً، إذن " متجسدة "به (ص ص 44-45). أو ربما يلجأ الصياد البدائي في هذه الحالة الى نقش صورة ضحيته على مقبض سكينه (ص 259). فحين تستعمل أدوات تنطوي على مثل هذه الدلالات " المندمجة فيها"، (و أعني حين يندمج ادراك وظيفتها والاستمتاع بخواصها الحاضرة سوية)، تكون الخبرة أكثر توحداً و أكثر "شبهاً بالفن". ان الفن هو البرهان الحي والدافع على قدرة الانسان على التجديد الواعي، وكذا على مستوى المعنى، لوحدة الاحساس، بالحاجة، وبالدافع، وبالفعل الذي يجسد الكائن الحي ( ص 25).
         
تحاول المعاني المتجسدة أن تجمع، في الخبرة، الوسائل والغايات التي جرى التفريق بينها بالضرورة لاغراض التنظيم الفكري. و بوسائل من خلق هذه الوحدات يجري احراز تفوق خبرة على اخرى، مستحثة بالنزعات التي تخلقها الانقطاعات الحاصلة في الحياة، انقطاعات مثل تلك الحاصلة أثناء النوم، أو لارضاء الحاجة للطعام، أو للقيام بمهمة ما، أو لتنفيذ مشروع معين. فنحن لا نقتصر على الخبرة فحسب، اذ يكون ثمة احياناً "تجربة"، و هي كلّ معاشٌ يناله المرء من التدفق الطليق للخبرة عموماً. و يعد هذا المفهوم ركناً أساسياً في علم الجمال عند ديوي، أذ قام بعناية فائقة بتشخيص مقومات الخبرة تلك التي تنتج تجربة معينة:
(1)       وجود إكتمال ، إذ "يعد المرء ذا تجربة حين تكون المادة المجرّبة ساعية الى نوع من التحقق (ص 35). و مثالها حين تنتابنا الحيرة، و لكي نبدد حيرتنا ننجح في الوصول الى حل، نفك به ضفيرة الحياة على نحو لا نترك به للضفيرة نهايات مهلهلة.
(2)        وجود قوة دفع داخلية، و ذلك بأن تقوم الخبرة "بالتحرك بقواها الخاصة نحو التحقق (ص35)، دون أن تكون مكرهة على ذلك من قبل قوى خارجية.
(3)       وجود استمرارية، ما يعني أن "يصب، كل جزءٍ متعاقب منها بحرية في ما يليه من اجزاءٍ دون ما يسر، بحيث لا يترك ضفافا دون اشباع.
(4)        وجود تمفصل articulation ، و لكن دون أن يكون مجرد انسياب دون ملامح. و هذا يعني "عدم وجود تضحية بالاستقلال الذاتي  للاجزاء" (ص 36).
(5)        وجود تراكم ، (وهذا يعني وجود بنيان للشد وللدلالة (، ما يعني وجود احساس بنمو للمعنى، محافظ عليه ومتراكم باتجاه غاية محسوسة بوصفها ختام لعملية ما (ص 39)
(6)       "وجود سمة غالبة، لأن وحدة تجربة ما تعد متعينة بسمة مفردة هي تلك التي تتخلل الخبرة كلها على الرغم من التنوع الحاصل في اجزائها المكونة" (ص 37). و يسمي ديوي هذه الخاصية أحياناً بـ "العاطفة "emotion. ومثال ذلك حين يقول " إن العاطفة هي القوة المحركة و المعززة (ص 42). و لكنه، من ناحية ثانية، يشدد على "ان الخبرة عاطفية لا نجد فيها سوى اشياءً مفردة تسمى عواطفا (ص 42). ثم يضيف قائلاً بأن العواطف "ذات الدلالة " هي " خصائص للخبرة المركبة . . ." (ص 41، في الفصل المعنون " التفكير النوعي" من كتابه " الفلسفة والحضارة" 1931)
         
تقدم الحياة العادية، وفي ظروف مواتية، العديد من الفرص ينعم فيها المرء بـ "تجربة ما" مثلما يقول ديوي. و ما المهمات العملية و الفكرية إلا نماذج من هذا النوع، حين يجري تحفيزها من الداخل وتنجز على نحو مرض، فتكون لها قيمة متأصلة، فضلاً عن قيمتها الذرائعية. و تلك الخبرات تختلف عن الخبرة الجمالية في سمة واحدة، و هي أن الاخيرة يوجد فيها اهتماماً طاغياً بخاصية متجلية (و لنقل على سبيل المثال، ليس برموز أو وسائل رياضية):
"يعدّ الشئ  جمالياً، على نحو مميز و لسبب طاغ، لأنه يهبنا أحد خواص الاستمتاع بالادراك الجمالي. و يتحقق هذا حين يجري رفع العوامل، التي تحدد أي شئ بتسميته تجربة، فوق عتبة الادراك، فتصير مدركة بيسر لغايتها الخاصة
                                                         (ص 57 و قارن ص 38)
         
و يلتفت ديوي لاحقاً الى تفسير جانب آخر في الجماليات عصي على الفهم. ذاك هو نظريته في أسلوب التعبير. و مع ذلك، و قبل القيام بعرض لذاك الجانب، علينا محاولة ايضاح سمتين محيرتين للبال في المصطلحات التي يستعملها ديوي. ذلك، لأن هذه المصطلحات تنشأ من نيته على معارضة كل أنواع الثنائيات، وهو في هذا تشابه، في العديد من الجوانب، فلسفة ديوي المثيرة للارباك. فهو غالباً ما ينفر من الاختلافات (حتى الاختلافات التي يوفق المرء الى بلوغها يعد تفكير طويل وثبتت فوائدها للعديدين)، و كأنه ملاحق بشبح اسمه التفريقات أوالمتعارضات. ثمة مثلاً مصطلح " عمل من أعمال الفن "work of art الذي يستعمله ديوي. فهو حين يقول ان العمليات العملية والفكرية تسعى الى الوصول الى غاية ذات قيمة "لفائدتها الخاصة"، مثال ذلك مشروع سكني ، أو نظرية متحققة، انه يؤكد في الوقت ذاته أن "في أي عمل من أعمال الفن ليس ثمة مثل هذا التراكم الفريد المكتفي ذاتيا (ص 55). و مع ذلك، فان مصطلح "عمل من أعمال الفن" يعني عنده الخبرة بذاتها، وبأن الخبرة ايضاً تعد عملا "حقيقيا ً"real  من أعمال الفن، و هو ما يذكرنا به ديوي في مناسبات عدةٍ (ص 64).  غير أنه يبدو عليه هتا أيضاً أنه يسمح بظهور اختلاف، و إن لم يكن مفارقاً (ص146-47) بين عمل من أعمال الفن و الخبرة به ( ص 139)، أو على الاقل بين " نتاج فني" بوصفه مجرد " امكان"potentiality  و " عمل من اعمال فن" مثلما يتجسد فعلياً في الخبرة (ص 161). ينبغي علينا، من أجل الحفاظ على روحية ديوي، البقاء بمنأى عن التفرعات، ولكن لا يبدو لي بأننا سنخطئ تمثيله اذا ما تحدثنا عن الشئ "المتمثل" وعن خبرتنا به، والتي تشتمل على شئ ما غير ادراك خواص التمثال، بالوصف الذي يقدمه ديوي على حد سواء.
          ثانياً، ثمة مشكلة العلاقة بين خبرتين، وهما خبرة الفنان المبدع و خبرة المدرِك perceiver . ان الوصف الذي يقدمه ديوي لـ "تجربة ما"، ما هو بالتأكيد إلا تفسير ممتاز لخبرة قراءة قصيدة، أو لخبرة سماع قطعة موسيقية كاملة، بل ويفهم منه على أنه وصف لتجربة الشاعر أو لتجربة الموسيقار، وإن بوجوه معينة، و بخاصة حين يجرى التشديد على استمرار إرتباط تلك الوجوه بوجوه الخبرة الاخرى. و ها هنا مرة اخرى نجد ديوي غير مستقر في موضوع الفصل بين الاثنين (ص 44) وما يليهما، (بخاصة بسبب رغبته المسوغة بالتشديد على أن الادراك الجمالي ليس حالة سلبية، بل مشاركة فعالة (ص 52) (. و مع ذلك فبالامكان تأكيد هذا دون التشديد على "وجوب خلق"، الشخص المدرك لـ "خبرته الخاصة و وجوب احتواء ذاك الخلق على علاقات بالامكان مقارنتها بتلك التي قام بخلقها الخالق الاصلي" (ص4). و لربما تعد عبارة " بالامكان مقارنتها"هنا فضفاضة الى حد لا تنطوى فيه على مخاطرة. الا أن ديوي، ومثلما يبدو لي، لا يفسر على نحو مرض أوجه الشبه و الاختلاف بين نوعين من الخبرة، وهما الخبرة الجمالية والخبرة الفنية، حتى حين يحاول تسليط ضوء أكبر على نقاشه في وجهين من أوجه اسلوب التعبير. يتصدى ديوي، في فصول متعاقبة، لمعالجة" فعل التعبير" و "الشئ المعبر عنه". ولقد أثبتت آراؤه، في هذين الموضوعين، آخر الأمر، على أنهما الى حد ما أكثر إنفصالاً مما أمل ديوي لهما ان يكونا. إن تفسير ديوي لفعل التعبير، وهو ما ينبغي ملاحظته اولاً، نابع من تفكيره الخاص. فلكي نعبر عن شئ ما، فهذا لا يعني تماماً التنفيس عن العواطف. ذلك، لأنه يختلف بطريقتين عن التحرر الواضح من عبءٍ ما. أولاهما لأن مناقشته تجري على ضوء ما ينجم عنه من عواقب، والمقصود هنا هو الادراك الواعي للمعنى (ص ص62-63)؛ و ثانيا، لوجوده في وسط medium  يجري فيه ادراك العاطفة على نحو غير مباشر "فحيثما توظف المادة بكونها وسيلة يكون ثمة اذن وسيلة للتعبير ينتج عنها فن من نوع ما" (63). ثمة بالأحرى فكرتين حاذقتين يجرى تناولهما هنا. الأولى هي مفهوم ديوي عن الوسط، إذ يقول ان العنصر المادي يغدو وسطاً، بمجرد استعماله مع مواد أخرى وعلى وفق نظام معين، بحيث يمسي جزءاً من كلِّ شامل (ص64). أما الفكرة الاخرى، فهي نظريته عن دور العاطفة في أسلوب التعبير. ففي كل أساليب التعبير ثمة عاطفة يجري اعتراض سبيلها مؤقتاً، وبذا تكون عرضة للسيطرة، بحيث يكون بمقدورها تحقيق ذاتها من خلال فعل ترخيم الحجر، الخ. و بمجرد أن تكون الوسيلة قد وجدت والمادة قد تحولت تقوم العاطفة هي ايضا بالتحول (ص ص 74-75). و بذا لا تكون العاطفة على ما كانت عليه عند الابتداء، كما ان العاطفة لم تكن كذلك في لحظة البدء، على الرغم من ضرورة الشروع في العملية، لكي تؤدي وظيفة "المغناطيس "لجذب المادة و تجميعها على بعضها، و ليست هي أطلاقاً ما يجري التعبير عنه، و أعني بذلك، انها ليست "المحتوى ذا الدلالة" للنتاج الفني (ص 69). و مثال ذلك، وجود شخص مستثار يحاول التخلص منها بأن يقوم بتصحيح مجاله، و هذا يعني انه "إذا كانت عاطفته الأصلية المستثارة الشديدة التوق قد جرت السيطرة عليها فسكنت نتيجة لما قام به، فان المجال المنتظم سيعيد له التحول الذي حصل في داخله. إن عاطفته وعلى النحو الذي جرت فيه " موضعتها" هي ما نسميه بـ"الجمالي" (ص 78).
          وبما ان الشئ هو الذي يخبرنا عما يُعبَّر به عن خصائص موجودة فيه، فان اهتمام ديوي ينصب حقاً على النتاج وليس على العملية، على الرغم طبعاً من تشديده على عدم قدرتنا على الفصل بينهما (ص 82). يبتدأ ديوي تحليله لأسلوب التعبير بمعناه الموضوعي (بالمعنى الذي نزعم فيه أن " العمل الفني "هو الذي يعبر وليس " الفنان"). و ذلك، بالسؤال عما تعنيه كلمة "تمثل "representation ، طالما كان يجب على العمل أن يكون تمثيلياً بطريقة ما إذا كان معبراً (ص 83). ثم يؤكد بايراد الحجة، بأن الفن كله فيه إشارة ما الى العالم، حتى إذا، مقتبساً ذلك من أي. سي. بارنز A.C. Barnes، جرى الأمر فقط على أساس حصول الرسم على لون، فانه يمثل خاصية اللون التي تشترك بها الاشياء كلها (ص 98). فعندما " تعرض" المعاني " نفسها مباشرة و كأنها ممتلكاتٌ للاشياء التي يجري تجربتها" فهي إذن " جوهرية "intrinsic، مثل " المعنى" الموجود في حديقة الزهر (ص 83). ثم ان لدينا، في القدرة الجمالية على التعبير "معان وقيم مستخلصة من خبرات قبلية بالإمكان رؤيتها على نحو و كأنها تلتحم بالخواص المعروضة مباشرة في عمل من اعمال الفن" (ص 98). و في مناقشته التالية للخصائص التي تتمتع بها الخطوط بدور ما في الرسم يرفض ديوي الرأي القائل بتداعي المعاني، وفحوى رفضه هو أن هذه الخصائص ما هي سوى تداعيات للمعاني، مثلما يرفض الرأي القائل بأن "القدرة على التعبير الجمالي تعود الى الخصائص الحسية المباشرة" (ص 99) . و يقول بدلاً من هذا بأن هذه الخطوط (مهما كانت متذبذبة، فخمة، ملتوية، محلقة) فهي" تحمل معها خصائص الاشياء" على شكل "قيمة متحولة" (ص 119)، إلا انها كامنة فيها على عمق كاف بحيث صارت" مندمجة بها" بالتمام (ص ص 100-103).
          و يمضي ديوي بتوسيع مناقشاته المثيرة للاهتمام بحيث شملت جوانب عامة متنوعة للفنون،  عموما و فردادى، لا يتسع المجال لعرضها هنا. و لن يكون من الضروري له، بعد اطلاعنا على مقدماته الاولية والاتجاهات التي ينبغي لتفكيره أن يسلكها، اعادة ترتيب فرضياته العامة (مهما كانت درجة اهميتها) لكي يمضي قدماً نحو خاتمة كتابه. ثمة، مثلاً، في الفصل الثاني  أوجه من النقد نافذة للغاية يضع فيها توصيفات خيارية للخبرة الجمالية مثل " التأمل "contemplation  و " التوازن "equilibrium  و " التجرد"disinterestedness  و "الانفصال"detachment. و يتولد لدى من خلال هذه المناقشة انطباع فحواه ان ديوي يحاول المغالاة في ما يفترق به عن الآخرين، وأعني بذلك، أنه يبدي حرصا شديدا على تجنب أية علاقة له بالمصطلحات المذكورة فيما سبق، لأن كل منها ينطوي على مضمون خادع. أما أهتمامه الرئيس، فيتمثل التعبير عنه في المقطع الآتي الذي غالباً ما يجري إقتباسه.
" ليس غياب الرغبة و الفكرة هما ما يميز الخبرة الجمالية، وانما يجري تمييزها عبر تضافرهما "في خبرة ادراكية"، و في اختلاف هذه الخبرة عن الخبرات الاخرى التي تعد " فكرية "  و " عملية" على وجه الخصوص.
(ص 254)
                                                                  
          وكان فلاسفة آخرون قد رأوا في علم الجمال شيئاً قريباً من هذه الحقيقة. و لكن قد يكون ديوي هو الذي قام بعرضها على نحو أكثر فعالية. فهو فضلاً عن ذلك لا يقصد بالطبع انكار وجود الاختلافات، وانما فحسب يستعيض عنها باختلافات من صنعه هو. ان بأمكان الخبرة الجمالية ان تمثل العناصر الفكرية والعاطفية، ولكن بشرط ان تكون الخاصية تحت السيطرة. و مع ذلك، فثمة فرق أساس بين الطريقة التيتكتسب الخبرة الجمالية بها الوحدة، بدمج المعاني والخواص سوية، مع خبرة الاستقصاء الأدراكي التي تجري فيها دراسة الخواص ومعانيها كل على حدة. و في عرض مشهور آخر للمسألة (ص 85) يقول ديوي:

"إن الشعرى على قدر إختلافه عن النثري، والفن الجمالي على قدر إختلافه عن العلمي، وأسلوب التعبير على قدر إختلافه عن عملية التعبير، كلٌ يؤدي وظيفة تختلف عن تلك التي تقود الى تجربة ما، وأنما يقوم بخلق تجربة من نوع معين."

ثم يطلق ديوي  في الفصل الثاني عشرملاحظاته النقدية عن مختلف "نظريات الفن". و  مثال ذلك، ملاحظاته حول الرأي القائل بأن الفن هو نوع من ادعاء، أو لعب ، أو تقليد، او كشف. لقد رأى ديوي في كل من تلك التوصيفات جانباً من الصدق، و لكنها آراء اٍحادية الجانب الى حد يظهر كلاً منها و كأنه يخفق وبطريقته الخاصة في رؤية الفن بعين ثاقبة في نوع من نظام بيئي مركزي يعد في آن واحد بوصفه مهد الفنون جميعاً ومصدر كل مجدها. أما بالنسبة لنظرية الكشف، فان موقف ديوي منها لربما يبدو ليس واضحاً تماماً. و انه لصحيح أنه، الى حدٍ ما، ضد فكرة جعل الفن صيغة من صيغ المعرفة التي تنافس العالم (ص ص288-89)، إلا انه، من ناحية اخرى، يتفق مع الرأي القائل بان "الاحساس بالكشف والوضوح المعمق للعالم " الذي يجربه في الفن "يبقى هو الذي ينبغي أن يؤخذ في الحسبان" (ص 289). أما تصريحه الذي يصور القرن العشرين بأقل مما تقتضيه الحقيقة، فيقول ديوي " إني أنشر بين آونة وأخرى مفهوماً عن المعرفة يعد " ذرانعياً "instrumental  (ص 290).  و إذا كان ثمة شئ ينبغي ان يغاير المعرفة، في هذا الجانب فهو الفن. و مع ذلك فانه في التحليل الاخير (الفصل 14) يظل السؤال عنده عن علاقة الفن ببقية جوانب الحياة والثقافة هو الذي ينبغي التصدي له، وهنا يعبر ديوي عن أكثر قناعاته تعقيدا واكثرها عمقاً. أما من وجهة نظر المجتمع أو الثقافة فثمة ما يقال وهو الآتي:

"إن الخبرة الجمالية هي نوع من التجلي، وهي سجل الاحتفاء بحياة الحضارة، وهي وسيلة للارتقاء بتطورها، وهي ايضاً الحكم النهائ على خصائص الحضارة."
                            (ص 326 و قارن مع ص ص 270-70).

"يعد الفن، بقدرته على ايجاد صلات أقوى بين الانسان وأخيه الانسان، حتى عبر حواجز اللغة والثقافة، واحداً من أهم القوى المؤنسنة".
 ( ص ص 244-245
          أما من وجة نظر الفرد، فان لدى ديوي الكثير ليقوله. إنه يجد، عند اقتباسه من سانتيانا، ان قيمة الفن تكمن في " انتعاش"ـه (ص 139)، و في تعجيله للاحساس بوجود امكانيات " مثالية" في الخبرة الطبيعية (ص 185). و ليس ذلك بسبب كونه اخلاقياً، وانما بقدرته على "إزالة الظلم، وذلك، بالتخلص من الحجب التي تمنع الرؤية، وتمزيق سُتر العادة و العرف الاجتماعي، وتحسين قوى الادراك" (ص 325). و بذا، فهو يكتسب القيمة الاخلاقية الاعلى (قارن كتابه "الطبيعة الانسانية والسلوك Human Nature Conduct" ( ص ص 160-64) بقدرة عميقة متماثلة، بمجرد أن يجري اظهار هذه الخاصية للعيان بوصفها كلاً وابرازها أيضاً ٍبوصفها تنتمي الى كلٍّ أكبر، بكل ما فيه، كلٌ يتمثل بالكون الذي به نعيش (ص 195). و هذه القدرة لها خاصية دينية، بالمعنى الطبيعوي لكلمة " دينية "religious  التي يبشر بها ديوي في كتابه " ايمان الفطرة السليمة "A Common Faith  الذي ظهر في السنة نفسها التي ظهر بها كتابه " الفن بوصفه خبرة" (قارن كتابه " طلب اليقين  Quest for Certainty  1929" (ص 235).
          و لا يمكن هنا في هذه العجالة حصر التأثير الذي مارسته آراء ديوي، في علم الجمال وفي مجالات اخرى.  وحتى لو اظهرت هذه الاراء في موضع ما اختلافا جذرياً، فان على الباحث فيها ان يدعها دون مساس بجوهرها. وقد يجري، من ناحية ثانية، حصر مجموعة من الفلاسفة لكونهم يرتبطون على نحو خاص بآراء ديوي العامة. و ان بعضاً منهم كانوا يعملون في موازاة مجريات للتفكير على علاقة بآرائه حتى قبل ظهور كتابه "الفن بوصفه خبرة"، و لكنهم كانوا مدركين بوعي بالدين الذي في أعناقهم لفلسفته العامة. فألبرت سي.بارنيز، Albert C. Barnes ، الذي قادته دراسته المبكرة مع ديوي في كولومبيا الى صداقة لافتة للنظر، قد اهدى كتابه الموسوم "الفن في الرسم"  (1925) الى ديوي، الذي رد له ديوي الجميل باهداه كتابه " الفن بوصفه خبرة". و لقد ظل ديوي ولأعوام عديدة على علاقة قريبة ومثمرة مع مؤسسة بارينز، التي كانت مهتمة بالاساس بموضوع التربية الفنية، إذ تدين تعاليمها الى حد كبير لفلسفة ديوي التربوية، في حين ساهم بارينز بجهد كبير في اصدار كتاب " الفن بوصفه خبرة".

          و لقد صاغ ديفيد دبليو. بال David W. Parll، اثناء تدريسه في جامعتي كاليفورنيا وهارفرد، علم للجمالي جار على وفق المذهب الطبيعي مع تأكيد على "المظهر الجمالي" الذي قدمه في  كتابين يعدان الأوسع انتشاراً والأكثر تقديراً وهما" الحكم الجمالي Aesthetic "Judgment (1929)، و " التحليل الجمالي ."Aesthetic Analysis (1936) و لقد فسحت "البراغماتية المفاهيمية conceptual pragmatism"، في كتاب سي. آي. لويس C. I. Lewis الموسوم " العقل و نظام الكون " Mind and the World Order، المجال للخبرة الجمالية بوصفها " الطريق الاقصر للموهبة الخالصة". ثم أنه عالج بطريقة مؤثرة في آخر كتبه " تحليل للمعرفة والتقييم " (1946) An Analysis of Knowledge and Valuation (1946) مسائلاً تخص الوضع الوجودي لمواضيع جمالية، فضلاً عن طبيعة القيمة الجمالية. أما جماليات ستيفن سي. بيبر  Stephen C. Pepperفكانت قد عرضت اولاً في كتابه الموسوم " الخاصية الجمالية  "Aesthetic Quality أو " نظرية مفاهيمية في الجمال A Conceptualistic "Theory of Beauty (1937). و على الرغم من أنه يصف " السياقية "contextualism الجمالية بكونها واحدة من بين " فرضيات" عديدة ممكنة بالامكان استعمالها لـ "لتسليط الضوء على هذا الحقل". و كانت البدائل الثلاث قد صيغت على نحو اكثر اكتمالاً في كتابه " اساس النقد في الفنون"The Basis of Criticism in the Arts (1945) . و كان بيبر قد كتب كتابين هما " مبادئ تقييم الفن "Principles of Art Appreciation  و " اعمال الفن The Works of Art (1955) ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق