بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 13 أكتوبر 2016

جمعية المترجمين... تـرجـمـة الشـعـر فـي الـتـطـبـيـق

A lecture on translation …
Translating Poetry in Practice
By: Ahmed Khalis Shalan
(Delivered the Iraqi Translators Association’s Hall Baghdad, 2/3/2013)
محاضرة في الترجمة ...
 جمعية المترجمين... تـرجـمـة الشـعـر فـي الـتـطـبـيـق
أحمد خالص الشعلان
(ألقيت في قاعة جمعية المترجمين العراقيين- بغداد بتاريخ 2/3/2013)


          مثلما هو معروف و معترف به، لست و لا المستمعين، حسبما أظن، بحاجة هنا الى التطرق الى النتائج الخلافية التي تثيرها الترجمة. و قد لا يحتاج المرء هنا أيضا لقول المزيد عن اللاتطابق بين النص الأصل و النص الهدف، لأنه بات من البديهيات. غير أني هنا في حالتي هذه أجد نفسي مضطرا للتحدث عن الخسارة الدلالية التي يمنى بها النص جراء الترجمة، بخاصة عند ترجمة ألأدب. و ما يسترعي انتباهنا هنا أكثر هي الخسارة الحاصلة في ترجمة الشعر، ربما لأنه نوع الأدب الذي يتعرض لأكبر خسارة دلالية من بين الأنواع الأدبية قاطبة.

          و لهذا السبب، قد يجد المرء مسوغا مناسبا لما نسمعه من البعض قائلين "ان ترجمة الشعر هي أم المشاكل الترجمية". و تعبير "أم المشاكل" قد يشير هنا قطعا، أو يعني، الى أن عملية ترجمة الشعر مليئة بالمطبات! و يحصل هذا ربما لأن الشعر، من بين جميع ألأنواع ألأدبية، هو الذي يتمتع بأشد الأساسيات صرامة و خصوصية، ما يجعله يختلف اختلافا حادا في هذه ألأساسيات من ثقافة الى أخرى و من لغة الى أخرى. فالرواية مثلا نجدها، سواء في عموميات فن الرواية أو خصوصياته، لا تختلف من لغة الى أخرى أو من ثقافة الى أخرى، الا اختلافا طفيفا. و قد يصح قولنا هذا على المسرحية أيضا، الى حد كبير. و يصح، دون ريب، على القصة. غير أن الشعر هو وحده الذي قد يلتقي في مختلف اللغات و الثقافات عند عموميات من قبيل يجب أن يكون منظوما و موزونا و مقفى، لكنه يختلف اختلافا صارخا، يكاد أن يكون مطلقا في خصوصيات هذه المفاهيم العامة.

خذ مثلا مبدأ بحور الشعر و أوزانه. الأوزان كمبدأ عام في الشعر موجودة في أشعار جميع ألأمم و الجماعات، و لكننا حين نأتي الى خصوصيات الأوزان، قد لا نجد  وزنا واحدا في الشعر العربي يتطابق مع أي وزن من الشعر الانكليزي. و تصح هذه البديهة الى حد كبير حتى على أوزان الشعر للغات تنتمي الى ألأسرة اللغوية الواحدة.

فنحن نسمع العروضيين العرب يتحدثون عن المتقارب و المتدارك و الوافر و الكامل و الهزج و الرجز و الرمل و السريع و الخفيف و المضارع و المقتضب و المجتث و الطويل و المديد و البسيط. و نسمع العروضيين الانكليز يتحدثون عن iambic, trochaic, anapaestic, dactylic, spondaic, paeonic,  ، و لكن اية محاولة نجريها لايجاد تطابق من نوع ما بين هذه العروض العربية و تلك الانكليزية ستواجه اخفاقا أكيدا، ناهيك عما موجود هنا و غير موجود هناك. خذ مثلا مصطلحات لها دلالات موجودة في الشعر العربي من قبيل "عروض" و "ضرب" و"سبب" و "وتد" و "صدر" و "عجز" و "فاصلة" و  "حشو"، و غيرها كثير بكل تفصيلاتها الفرعية، أنجد لها جميعا مقابلات في الشعر الانكليزي نظريا و تطبيقا، و ما هي ان وجدت؟ الاجابة هنا مفتوحة دون ريب على مجهول لا يأتينا بخبر يقين!

أما اذا اردنا التحدث عن القافية العربية بأنواعها التي قد لا تخطر ببال قارئ الشعر و محاولة ايجاد متطابقات لها في القافية الانكليزية، فتلك مسالة أخرى لا يتفضي محاولة حلها الا الى متاهة!

و عدا عن مبدأ الأوزان الشعرية، من الاختلافات في أساسيات الشعر بين اللغات المختلفة قد نجد ما يلي:
-         الخواص الموسيقية للعبارة الشعرية و جرس الكلمات في اللغتين
-    الثقافة؛ و أعني ما نجده ملائما هنا قد لا يلائم هناك، أو ما هو ساخن هنا قد يعد باردا هناك، و ما هو مقبول اجتماعيا هنا قد لا يجد قبولا  هناك.
-          سايكولوجيا شاعر اللغة المصدر و سايكولوجيا مترجم اللغة الهدف.
-         القدرة التخيلية للشاعر المصدر و القدرة التخيلية للمترجم الهدف.
-         بنية اللغة المصدر و بنية اللغة الهدف.
-          أفضليات الاستعمال الاسلوبي للغة عند كليهما؛ شاعر اللغة المصدر و مترجم اللغة الهدف.
-    ناهيك عن كون اللغتين تنتميان الى أسرتين لغويتين متقاربتين، أو متباعدتين، مثلما هو الحال هنا. فالعربية لغة سامية، و الانكليزية لغة هندوأوروبية. و هذا العامل لوحده قد يثير عند البعض شكوكا عن الجدوى الدلالية و الجمالية لترجمة الشعر.

و لا بد لنا من أن نذكر هنا بأن المواقف حيال ترجمة الشعر ليست وليدة اليوم، و أعني من ناحية كونها، مثلما قلت، مليئة بالمطبات! فهذه المواقف قد تعود بنا تاريخيا و ثقافيا الى عهود بعيدة في ثقافة العديد من اللغات. فنظريا، نجد في الكلاسيكيات الثقافة العربية، مثلا، ان عمر أبو عثمان الجاحظ كان قد عبر، قبل أكثر من اثني عشر قرنا، عن استحالة ترجمة الشعر، بقوله كونها مهمة مستحيلة، و ناهيك عما يقوله بعض الكتاب المعاصرين عن ترجمة الشعر من أنها "فن الفشل" برأي امبرتو ايكو ألأديب الايطالي. و موقف الشاعر ألأمريكي روبرت فروست عن ترجمة الشعر يتمثل بقوله "في الترجمة يتعرض الشعر الى الضياع".

و مع ذلك، و في سياق ترجمة الشعر، و من تجربتي الشخصية في ترجمة الشعر؛ لأني ترجمت لغاية الآن  ما لا يقل من ثلاثمائة قصيدة من الانكليزية الى العربية، و عدد قليل منها من العربية الى الانكليزية. و اني، من ناحية أخرى، لا أحب الحديث في النظريات، لأني آخر ألأمر عندما كنت، و ما أزال، حين أشرع بترجمة قصيدة لا تحضر في ذهني أية نظرية، لكي تكون فناري في الترجمة، و أنما أروح لأدع فكري و قلمي يشتغلان سوية. و مع ذلك، بامكاني أن اصوغ نظريتي الخاصة، بمعنى رأيي الخاص، عن امكانية ترجمة الشعر. و هذه النظرية تطرح ثلاث افتراضات عن امكانية ترجمة الشعر، و هي:

1-  الافتراض ألأول يقول "نعم بالامكان ترجمة الشعر اذا كانت عملية الترجمة مبنية على أساس المعنى، و ليس غير المعنى. ما يعني اهمال الأساسيات التي بنيت عليها القصيدة عدا المعنى. و من الواضح ان هذه الامكانية مبنية أساسا بان موضوع الترجمة هو نقل الرسالة التي تحملها القصيدة. و لكن مع ألعتراف بحقيقة أن النص المكتوب نظما في اللغة المصدر، قد تحول، دون ريب، الى نثر في اللغة الهدف. و بذا يجري في هذه الحالة تعريض القارئ، اذا جاز لنا القول، الى احتيال من نوع ما، مبني على أساس ايهامه بأنه يقرأ شعرا، في حين أنه لا يقرأ سوى ثيمة النص الشعري المصدر مكتوب نثرا في اللغة الهدف. و هنا سيتعرض النص المصدر لخسارة، أكبرها، دون ريب، في فن نظم الشعر، و أقلها في المعنى.

2-  الافتراض الثاني، و ان كان ينطوي على تناقض صارخ، فمفاده "نعم بالامكان ترجمة الشعر"، و في الوقت نفسه، " . . . لا، ليس في الامكان ترجمة الشعر!" غير أن المرء هنا قد يكون بمقدوره أن يعزز قوله لـ"نعم!" أو "لا!" بسبب تضادهما المتوازن. هذا بخاصة حين يروم المترجم بالأساس تحقيق بعض الشروط الفنية اللصيقة بفن الشعر، التي قد تسعى لتزويد القارئ بانطباع أنه يقرأ شعرا منقولا من لغة غير لغته. يحصل هذا بخاصة حين يتمتع المترجم بمهارة استعمال أقصى قابلياته لخلق خاصية موسيقية محسوسة في النص الهدف، بتلاعبه الماهر بعناصر اللغة. غير أن هذا ألأمر قد لا ينجح، ما لم يكن المترجم نفسه ناظم شعر بلغته ألأم، و يتمتع في الوقت نفسه بمكنة عالية في اللغتين، بحيث لا يترك حجرا من أحجار اللغة دون أن يقلبه، من أجل خلق قصيدة من نوع ما باللغة الهدف. و مع ذلك، فان القارئ هنا أيضا قد يتعرض لاحتيال من نوع ما، حتى لو تغاضينا عن قول ت. س. اليوت "لا يوجد شعر حر أو مرسل، و انما هناك شعر جيد و شعر ردئ"،  لأن المترجم سيترك القارئ يظن بأنه يقرأ شعرا مترجما، في حين أنه في الواقع يقرأ شعرا مرسلا مكتوب بلغة غير لغة النص المصدر، و لكن ثيمته مبنية على ثيمة النص ألأصل. و هنا ستكون الخسارة على ألأغلب في كليهما؛ الشكل و المعنى، و لكن ستكون أكبر في المعنى، بخاصة حين لا يتمتع المترجم بما يسمى "بالنفس الشعري".

3-  و الافتراض الثالث يقول " . . . . أنه لمن المستحيل اطلاقا ترجمة الشعر نظما بنظم". و عبارة "نظما بنظم" هنا تعني في الغالب تحويل الكل (شكلا و مضمونا) من شعر موزون مقفى في اللغة المصدر الى شعر موزون مقفى في اللغة الهدف. و هذا، في الواقع، قد يعني مجازا تحويل سيارة سباق أنيقة و خفيفة و جميلة بصغرها و دقتها و انسيابيتها الى سيارة شحن. و بعبارة أخرى، فان المترجم في هذه الحالة عليه افتراضا أن يكتب قصيدة مزوزنة مقفات في اللغة الهدف، غير أن ثيمتها موضوعة بصيغة قصيد منظوم في اللغة الهدف. و مع ذلك، لو توخينا الدقة في التعبير هنا لقلنا بأن التطابق، أو قل التماثل، أو التناظر، أو اية صفة من هذا النوع، لن تكون في المضمون و لا في الشكل. و هكذا، لن تكون للقصيدة المبتدعة بالقصيدة ألأصل سوى علاقة واهية لدرجة أنها لا تصلح أن تسمى لها ظلا! ذلك، ببساطة، لأننا مهما فعلنا لن نجد اي تطابق بسبب الاختلاف الصارخ بين خصوصيات اساسيات الشعر الانكليزي عن خصوصيات أساسيات الشعر العربي، و ناهيك عن الاختلاف البين بين أبنية اللغتين أساسا كونهما من أسرتين لغويتين مختلفتين، و ناهيك عن الاختلافات الثقافية و خصوصياتها، مما يقف عثرة في تحقيق اي تطابق في النظم الشعري بين اللغتين. فما بالك بالاختلافات ألأخرى العديدة المذكورة في صدر كلامنا. و من الممكن، واقعا، أن تكون الفجوة أكبر في امكانية ترجمة من هذا النوع، اذا علمنا بان قسما من الاختلافات بين اللغتين موروثة في اللغتين في يقع قسما آخر خارج اللغتين، و لكنه يفرض نفسه أثناء الترجمة.
نستطيع القول، من هنا، بأن الخسارة قد تكون مؤثرة شكلا و مضمونا. ذلك، لأن ما يرد الى ذهن المرء فورا، هو أن لحظة خلق القصيدة ألأصل لن تتكرر في داخل وعي المترجم مهما كان بارعا في التقمص المترجم، لأن التاريخ و الزمن لن يكررا نفسيهما. و بذا لن يكون عمل المترجم هنا سوى كاريكتيرا لا يختلف عن الكاريكتير الذي ذكره ماركس تعقيبا على قول هيغل من أن التاريخ يكرر نفسه، اذ قال ماركس "صحيح ان التاريخ يكرر نفسه غير ان هيغل نسي أن يضيف بأنه في المرة ألأولى يكون دراماتيكيا و في الثانية يكون كاريكاتيريا".
و هذا باختصار يعني أن القصيدة المترجمة هنا ستكون مختلفة عن القصيدة المصدر على جميع المستويات؛ سايكولوجيا، و ثقافيا، و بنيويا، و جماليا، و أسلوبيا، الخ من صفات ذات علاقة. و لا يفوتني هنا أن اقول أن القارئ في هذه الحالة لا يتعرض للاحتيال من ناحية ايهامه بأنه يقرأ قصيدة، لأنه يقرأ في الواقع قصيدة. و لكنه يتعرض لاحتيال من مورد آخر و هو أنه يقرأ قصيدة في اللغة الهدف تحمل اسم شاعر من اللغة المصدر، و قد لا تكون للقصيدة الهدف المبتدعة أية علاقة بالقصيدة المصدر. و لكن عزاءنا هنا سيكون في احتمال أن تحمل القصيدة الهدف، لا صور، بل ظلال صور القصيدة المصدر لتعكس للقاري لونا باهتا من الثيمة ألأصلية.

و قد يسأل احد هنا معقبا: لم هذا الاصرار، يا ترى، من المتحدث (أقصد أنا) على ترجمة الشعر؟
و جوابي سيشتمل على سببين عام و خاص. العام هو: أننا بحاجة لترجمة الشعر لضرورات ثقافية طالما كان الشعر يشكل جانبا مهما من اللغة التي ندرسها. و السبب الخاص هو أن ترجمة الشعر عندي هي نوع من أنواع التسلية، اذ ليس من شئ أكثر اغراء عندي، و قد قلت هذا سابقا من على هذه المنصة قبل أكثر من سنتين، ليس اشد اغراء عندي كدارس لغة من فك شفرات ألأفكار من لغة ما و تحويلها لتتشكل بشفرات لغة أخرى. و الشعر أكثر نتاجات اللغة تشفيرا. و أجدني هنا أذكر مثال ادوارد فتزجيرالد مترجم رباعيات الخيام من الفارسية الى الانكليزية في القرن التاسع عشر مثالا، اذ لم يلتفت، لا الجمهور الانكليزي آنذاك، بل و حتى النقاد، الى موضوع مدى تماثل الرباعيات بنصها الانكليزي مع نصها الفارسي، قدر احتفائهم بما خلقه فتزجيرالد من شعر مكتوب بالانكليزية مستوحى من مناخ الرباعيات و جوها الروحي الآسر.

و "الفن"، آخر ألأمر مثلما يقول جون ديوي، "هو محصلة معالجة ذكية بارعة لأشياء الطبيعة لأجل تكثيف، وتنقية، وإطالة وتعميق حالات الرضا التي نتلقاها عفوياً. و بذا يجري، في هذه العملية، تطوير معانٍ جديدة، وهذه بدورها تهبنا، على نحو فريد، سمات جديدة وانواع جديدة من المتعة. و ذلك هو ما يحدث في كل أوان تنشأ فيه حالات من النمو بوصفها نتيجة طبيعية."
و كأني بهذا يصح عليّ حين أتوق لترجمة الشعر، مثلما صح يوما ما على فتزجيرالد أو على غيره!
عذرا لإطالتي، و لأن موضوعنا هنا كثير التشعب، فاني أدعو زميلتي الست غيداء الفيصل للتحدث عن جانب مهم من جوانب ترجمة الشعر و ألأدب عموما و هو ما أسميه أنا "الخصوصيات الثقافية في ترجمة الشعر". ولا أدري ان كانت تتفق معي في ترجمة مصطلح culture specific الانكليزي الى "خصوصيات ثقافية" مصطلحا عربيا!

فلنستمع لها!
 و شكرا على اصغائكم!                      


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق