بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 14 أكتوبر 2016

مقالة في ذكرى عالم لغوي ... إتفقنا معه أو إختلفنا يظل مصطفى جواد علامة مضيئة


ِِِِ   ِAn essay in the memory of an Iraqi linguist …
           Whether We Agree or Disagree with Him …
Mustafa Jawad Is Still an Illuminating Highbrow Linguist
Ahmed Khalis Shalan
(…published in Al-Sabah Journal)
مقالة في ذكرى عالم لغوي ...
... إتفقنا معه أو إختلفنا يظل مصطفى جواد علامة مضيئة
أحمد خالص الشعلان
(منشور في جريدة الصباح)

Mustafa Jawad
A. Kh. Shalan
من المعروف أن اللغة في وجودها الكلي  ليست ملكا لأحد، كائنا من يكون. و لا أظن أن أحدا يجرؤ على الزعم بملكيتها . . بيد أن هذا لا ينفي من جانب آخر حقيقة أن كلاً منا يحمل جانبا من اللغة على وفق شرطه الإنساني. فاللغة مثلما هي ملك الجميع هي أيضا همُّ الجميع، و ليس هم أحد معين بالذات طالما كنا جميعا نستعملها واسطة للإتصال و التفاهم و التناحر و التقاتل . . و الدليل على ذلك هو أن الأمم المتحضرة عند التنافس فيما بينها يفوز آخر المر من يشحذ لسانه لا من يشحذ سيفه!
كان المرحوم د. مصطفى جواد أحد الجمع الذين كان من حقهم بحكم معرفتهم باللغة أن يدلوا بدلوهم بشأن كبير مثل شأن اللغة . . و على الرغم من أنه لم يكن مختصا بدراسة اللغة دراسة أكاديمية، و ليس في هذا عيب بل مزية تضاف الى مزاياه . . لأنه في حاله  هذا صنو نعوم جومسكي علّامة اللغة العالمي في القرن العشرين إذ ليس مختصا باللغة بل بالرياضيات . . كان هم الرجل منصبا على ما يظنه تنويرا للناس بما يعتقده قواعد الكلام الصحيحة، و يحثهم على تجنب ما يعده خروجا على قواعد الكلام الصحيح، بأخطاء مظنونة في تراكيب المفردة أو العبارة . . و من المعروف أن اللغويين في الغرب راحوا منذ أواسط القرن التاسع عشر و حتى يومنا هذا، و حتى قبل دي سوسور، يستقون مادتهم مما يسمونه corpus و بالإنكليزية تعني “..collection of written and spoken language used to study language" و ترجمتها العربية "عينة من اللغة المكتوبة و المحكية تستعمل لدراسة اللغة" . . لكن ما يؤخذ على مصطفى جواد أنه كان يستقي مادته من مصادر سكونية للمادة اللغوية . . مادة المعاجم و القواميس فقط . . التي ظل أصحابها لقرون طويلة لا يعبأون بالحركة العامة للحياة و متطلباتها و  ما يتبعها من تمثلات فكرية و عملية للغة.
فالناس . . على كر القرون، و في كل أنحاء المعمورة . . و ربما في طرف في الكون يوجد فيه كائنات عاقلة تتواصل مع بعضها . . متى ما إبتدأو الكلام يكون لديهم بإستمرار ما يضيفونه للغة بحكم حركة الحياة و إحتياجاتها و تطورها. و بذا تنشأ مفردات جديدة تلبي مطلبات جديدة، تتبعها إستعمالات لتراكيب جديدة، و حكم جديدة، و أقوال جديدة، و مأثورات جديدة، و لهجات جديدة، بل قل ربما حتى لغات جديدة. و مثالها لغة الكريول المعروفة عند دارسي اللغة . . و هذا المسار هو الذي يحفظ للغة حيويتها. و من بين متحدثي اللغة يوجد أناس لا يكتفون بالتحدث باللغة، بل يتحدثون عن اللغة . . و كان من بينهم مصطفى جواد في برنامجه . . قل و لا تقل . . الذائع الصيت في زمانه (أواسط ستينيات و أوائل سبعينيات القرن العشرين). و كان حرصه على اللغة الذي يتجلى من خلال توصية الناس بألا يخرجوا عن تراكيب معينة في الكلام مرده بالتاكيد حرصه على ما يظنه سلامة الدلالة التي تحملها تلك التراكيب. و لم يكن هذا غريبا على الإطلاق في لغة ظل أهلها يتحدثون  بها، و دون ريب، يبدعون الجديد في إستعمالهم للغتهم، و لكن داريسها،  منذ ما بعد حقبة الإنجاز الفذ لعدد من اللغوين العرب قبل قرون طويلة غابرة، الذين رأوا أن الألفاظ أما ان تحمل المعاني بذواتها وهي ما سموه بـ . . الدلالة الطبيعية . . أو أن تحملها بوضعها من لدن سلطة ميافيزيقية و هي ما سموه بـ . . الدلالة التوفيقية . . أو بوضع الناس لها و هي ما سموه بـ . . الدلالة الوضعية.
و نتيجة لسكونية كل شئ في هذه البقعة من الأرض بما فيها اللغة، بسبب طغيان السلطة الميتافيزيقية، و يشمل الدارسين المزعومين للغة لقرون طويلة، تمسك مصطفي جواد بنوعي الدلالة الأولين المذكورين آنفا و تجاهل النوع الأخير، و هو . . الدلالة الوضعية . . التي تنشأ من الإستعمال الديناميكي الحي للغة، و هو الرافد الأساس الذي كان البنيويون من أوائل من إنتبه إليه في العصر الحديث، في أوائل القرن العشرين، منذ بلومفيلد و تلامذته في أمريكا، و من تبعهم من البنيويين الأوربيون، الذين راحوا يتنصتون لما يقوله عامة الناس، و يأسسوا عليه دراساتهم اللغوية الوصفية. لكن المفارقة الكبرى هي أن بغية البنيويين لم تكن لتختلف عن بغية د. مصطفى جواد، في إعطائهم أهمية قصوى لبنية الكلام و ظلوا يعتقدون أن المعنى تابع للبنية، و من هنا جاءت تسمية مدرستهم . . البنيويةstructuralism ". فهل كان مصطفى جواد بنيويا الى هذا الحد أو ذاك؟ . . الإجابة بنعم مرجحة الى حد كبير، طالما كانت البنيوية هي الموظة الدارجة و الطاغية في دراسة اللغة أيام كان المرحوم مصطفي جواد يسعى في تحصيله الأكاديمي في أوروبا.
و هم يتنصتون الى بنى الكلام التي يستعملها الناس، ظلت دراسة البنيويين منصبة على البنية، و لم يفطنوا الى أن الحاجة للدلالة و المعنى هي التي تدفع الناس لإبتكار تراكيب جديدة للكلام، إلا في وقت متأخر جدا. فقدموا على إستحياء منهم، و كان الآوان قد فات على ظاهرتهم العلمية، مساهمة في دراسة الدلالة. و لكن المرحوم مصطفي جواد، و لأنه مقلد للتوجهات الساكنة في تاريخ دراسات اللغة العربية و في الوقت نفسه مقلد للبنيويين  المحدثين، و بسبب الطبيعة السكونية لبرنامجه . . قل و لا تقل . . ظل بعيدا عن الصحوة القصيرة المتأخرة التي أبداها البنيون تجاه دراسة الدلالة و مدرستهم توشك على الأفول.
و مع ذلك، فإن مأثرة البنيويين العظمى و الفذة في دراستهم للغة كانت تكمن في أن دراستهم كانت في الأساس وصفية و ليست توجيهية، على العكس من اللهجة ألآمرة لبرنامج مصطفي جواد . . قل و لا تقل . . و مأثرتهم الأعظم دلالة كانت في أنهم أطلقوا المارد اللغوي من قمقمه، فنشأت بتأثيرهم مدارس لا تحصى لدراسة اللغة، يتفق بعضها معهم بالكثير حول تبعية المعنى للبنية . . و بعضها يختلف في الكثير بهذا الصدد . . و بعضها يختلف كليا زاعما إن البنية هي التي تتبع المعنى، و ليس العكس، لأن المعنى ينشا في أذهان الناس إدراكيا، كأنعكاس لواقع قائم، فيروحون يبحثون له عن تركيب لغوي مستندين بما لديهم من ذخيرة لغوية . . فسمعنا نتيجة لذلك، بمدرسة براغ و مدرسة لندن و مدارس أخرى عديدة كان لها تأثير طاغ على الفن و الأدب، و ليس على دراسة اللغة فقط . . و صرنا نسمع بأسماء مثل نعوم جومسكي الذي دفعته الهواية بادئ الأمر لدراسة اللغة، حاله حال مصطفى جواد، فاسبح أحد ابرز دارسي اللغة في القرن العشرين بنظريته المعروفة عن . . النحو التحويلية Transformational Grammar . . و سمعنا بودوسن Widdowson و سابير Sapir و ياكوبسن Jacobson . .
-   فهل كان لمنحى مصطفى جواد، و لو على نحو ضئيل، من تأثير مشابه لتأثير دارسي اللغة أولئك على لغاتهم؟
الجواب هو . . أشك بذلك! . . فقد كان هناك من يعتقد أن منهج برنامج . . قل و لاتقل . . كان قد أرعب الناس من اللغة و دراسة اللغة، بل حتى و من إستعمال اللغة. و ذلك،  بسبب الطبيعة المقلدة السكونية لنهج برنامج مصطفى.
إن لكل لغة حكاية مثلما يقول ديفد كرستال David Crystal أحد دارسي اللغة الإنكليزية . . إذ يقول أن هذه الحكاية الأسطورة غاليا ما تكون مضللة الى حد ما. ذلك، لأنه ليس ثمة حكاية واحدة للغة! . . فثمة أولها الحكاية الميتافبزيقية . . و تأتي بعدها الحكاية البنيوية . . و تأتي بعد تلك الحكاية الدلالية . . ثم الحكاية الإجتماعية التي تخبرنا بعدد كبير من الوظائف التي تقوم بها اللغة في المجتمع . . و ثمة الحكاية الأدبية التي توضح علاقة التزاور و التغذية الراجعة بين اللغة و الأدب . . و ثمة الحكاية التطورية التاريخية التي تمر بها أية لغة في العالم، إذ يجري توصيف مراحلها بمفردات من قبيل . . بداية و وسط و نهاية . . أو  . . قديمة و وسطى و حديثة . . إلا أن المفارقة الكبرى نحسها نحن حين نكتشف أن إهتمام مصطفى جواد باللغة لم يخرج عن إطار دراسة اللغة العربية ممثلة بلهجة قريش التي ظلت، لأسباب ميتافيزيقية، دون أي تغيير حاسم تطوري لأربعة عشر قرنا . .
-          فهل كان مصطفى جواد مهتما بهذه الحكايات جميعا؟
و جوابي على هذا سيكون بالتأكيد . . أشك بذلك! . . ذلك لأن إهتمامه كان منصبا على المفردة و ليس على اللغة ببنيتها الديناميكية الحية . . و هو معذور بهذا!
إن فرض قيود قدسية على اللغة لا بد أن يؤدي الى عزلتها عن حركة الحياة، و تحجرها آخر الأمر. و اللغة في تحجرها fossilization قد تكون عصية على الكسر، و لكنها تغدو دون ريب عرضة للتفتت غير المنظور عبر الزمن، بخاصة وسط الإندفاع الحالي الجاري لبعض لغات العالم (الإنكليزية، الفرنسية، الألمانية، الروسية، الصينية، و غيرها) في نزوعها المتسارع نحو الكزرزموبوليتانية، بسبب مرونة هذه اللغات و قدرتها على ممارسة لعبة كسر القواعد، بإمتصاص الجديد و المحدث و ترك ما ولى زمانه . . و هو العامل الذي فات المرحوم مصطفى جواد، لإدراك ان قابلية اللغة على الإقتباس و الإستعارة و الإمتصاص لما هو جديد، من داخلها و من خارجها، هو الذي ينسج للغة عظمها و لحمها و شحمها الأدبي، منذ ان كان وعي الإنسان للغة إشاريا وتعبيريا و لم يكن قد وصل بعد الى مرحلة النطق.
طيّب الزمان ذكر د. مصطفى جواد . . و لم يكن ذنبه لوحده، إذ لم يقم برنامجه . . قل و لا تقل . . بدور تلك الحصاة التي تلقى في بحيرة راكدة المياه، فتحركها. و كان بذلك على عكس البنيويين الذين كانوا الحصاة التي حركت بركة دراسة اللغة، و كانوا الإرهاص الذي ولـَّد هذا الكم الهائل من فروع دراسة اللغة الذي ما يزال ينمو حتى اللحظة بغستجابات مذهلة مع التطور التقني الألكتروني.                          
و طيّب الزمان ذكر الخليل بن أحمد الفراهيدي، إذ قال . . فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو، هي أليق مما ذكرته بالمعلول، فليات بها!
-         فهل جاء مصطفى جواد بما هو أليق بالمعلول؟
أترك الإجابة لقارئ سطوري هذي!








  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق