بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 16 أكتوبر 2016

لقاء مع أحمد خالص الشعلان حول ترجمة الشعر ... مترجم الشعر: خائن أم محتال؟

Ahmed Khalis Shalan in an interview on poetry translation …
The Poetry Translator: A Traitor or Betrayer?
…Translating Poetry Is a Labor of Love Just Like That of a Poet When Creating Verses
Interviewed by: Abduljabar Al-‘Atabi
(published in Almu’temer Journal  July 2012)
لقاء مع أحمد خالص الشعلان حول ترجمة الشعر ...
مترجم الشعر . . خائن أم محتال؟
ترجمة الشعر ... مخاض يشبه مخاض الشاعر لحظة ولادة القصيدة
أجرى اللقاء: عبد الجبار العتابي
(منشور في جريدة المؤتمر/ تموز 2012)

كثيرا ما تنتاب الحيرة أهل الشعر حينما يقرأون شعرا مترجما، خاصة إذا ما كانت هنالك عدة ترجمات لأشخاص مختلفين في الثقافة و الأسلوب، فيجد البعض أن المترجم . . يخون . . النص الحقيقي حين لا يمنحه التصورات الحقيقية له بقدر ما يرسم رؤية من عندياته، فيما يرى البعض أن المترجم قد . . إحتال . . على القاريء حينما نقل له النص بدون شاعرية . . من هنا كان الجدل كبيرا حول أفضلية مترجم الشعر . . فهناك الأغلبية تجد أن الشاعر هو أفضل من يترجم النصوص الشعرية، لكن البعض يرى أن قلة هم الشعراء الذين يعرفون لغة أجنبية، و قلة هم الذين لديهم إستعدادا لترجمة الشعر .
الشعر .. هو أكثر الأنواع الأدبية تعرضا للخسارة الدلالية.
عملية الترجمة .. عملية عقلية فكرية و جسدية و سايكولوجية بالكامل.
الاميركي روبرت فروست قال . . في الترجمة يتعرض الشعر الى الضياع.
أكد المترجم أحمد خالص الشعلان أن عملية ترجمة الشعر مخاض يشبه مخاض الشاعر حين تولد القصيدة، لكنه يحاول أن يتقمص دور الشاعر، و إن كان تقمصا زائفا بالتأكيد، مشيرا الى أنه لا يعتمد على أية نظرية في الترجمة إطلاقا، لإن المترجم لا تحضره أية نظرية أو فكرة أو منهج ترجمي، بقدر ما تكون حاضرة لديه نظريته الخاصة التي جاءت من خلال تجربته الطويلة في ترجمة الشعر. و أوضح الشعلان أن هناك من يعتقد أن هناك نوعا من . . الإحتيال . . أو  . . الخيانة . . للقاريء في ترجمة النصوص الشعرية، مشيرا الى وجود ذلك، و لكن بنسب معينة. . كما أكد الشعلان على ضرورة أن يكون مترجم الشعر شاعرا بسبب الإحساس الشعري الذي يمتلكه، لكنه إستدرك متسائلا عن وجود فعلي لشعراء يترجمون الشعر، و موضحا موقفه، و هو ليس بشاعر، لحاجة الثقافة العراقية الى هذا، و لأنه أيضا يستمتع بفك شفرات الإفكار التي تحويها لغة ما و تحويلها لتتشكل بشفرات لغة اخرى .
والمترجم أحمد خالص الشعلان، من مواليد ديالى 1944، و عمل سابقا في كلية اللغات/جامعة بغداد، و هو حاليا يدرس اللغة الإنكليزية و الشعر الإنكليزي في جامعة نوروز بمحافظة دهوك .
* أين تكمن الخطورة في ترجمة الشعر؟
  -       في محاولة المترجم الإحتيال على القاريء . . و في محاولة إيهامه من أنه يقرأ شعرا مترجما من لغة أخرى . . هنا تكمن الخطورة . . و مع ذلك يمكن الإشارة الى شيء مهم و هو أننا معنيون بالمحصلة سواء كان المترجم يستطيع الى اي حد ينقل النص بأمانة . . المحصلة هذه هي أننا إذا إستمتعنا بها ستعتبر عملا إبداعيا، و إن لم نستمتع فلا تعتبر عملا إبداعيا ترجميا.
 * لماذا يصر البعض على أن يكون بالضرورة مترجم الشعر شاعرا؟
-        نظريا يعد هذا منطقيا و صحيحا، لأن الشاعر المترجم يكون إحساسه الشعري أقوى بكثير من إحساس المترجم غير الشاعر، هذا شيء مؤكد و أنا أتفق مع هذه النظرية، و لكن أين هم الشعراء المترجمون؟ ليس هنالك عندنا إلا القليل جدا، و أكاد أجزم أنه من بين 100 شاعر عراقي ربما هناك شاعر واحد يعرف لغة أجنبية، أغلب الشعراء لا يعرفون أية لغة أجنبية، و هذه واحدة من الإشكاليات، فهل نترك ترجمة الشعر لأن الشعراء لا يترجمونه؟ جوابي هو . . لا  . . هذا غير ممكن، أما أنا فدافعي الشخصي في ترجمة الشعر هو لحاجتنا الثقافية . . ما يعني أني شخصيا مدرس لغة إنكليزية في كلية و نحتاج الى ترجمة الشعر الإنكليزي الى العربية لأنه جزء من ثقافة اللغة التي ندرسها، هذا أحد الأسباب، فضلا عن اسباب أخر منها ولعي بترجمة الشعر .
* ما رأيك بمقولة لجبرا ابراهيم جبرا من أن مشكلة المترجم انه يقرأ اللغة الأم و يفكر باللغة الهدف؟
-        هذه حقيقة مؤكدة، فنحن متفقون إتفاقا كاملا على أنها من المشاكل العويصة، فالمترجم الذي يترجم من الإنكليزية الى العربية و يظل يفكر إنكليزيا من المفروض أن يتحول بآلية معينة بالتفكير الى العربية . . و هذا ليس سهلا، لأن الوعي باللغتين متداخل ببعضه . . و فعلا إذا إستطاع المترجم أن يتحرر من بعض القيود التي هي من هذا النوع سيقدم نتاجا أفضل .
* أيهما أصعب بالنسبة لك، الترجمة من الإنكليزية الى العربية أم العكس؟
-        الأسهل عليّ كثيرا، و هذه قاعدة في الترجمة، قاعدة عالمية و ليست عربية أو عراقية، أن يترجم المترجم من اللغة الأجنبية الى لغته الأم، لأنه في كل الأحوال إذا كان ممتلكا للغته الأم إمتلاكا كاملا سيكون أداؤه أفضل كثيرا لأنه مهما حاول أن يمتلك اللغة الأجنبية، لا يمتلكها بالقدر الذي يمتلك لغته الام.
* أين تكمن الصعوبة في ترجمة الشعر؟
-        موضوع الترجمة و مشاكلها بشكل عام شائك جدا و يحتاج الى الكثير من العمل و العناء و التوضيح في ان عملية الترجمة ليست هينة إطلاقا لأنها عملية عقلية فكرية و جسدية و سايكولوجية بالكامل . . إذن فكيف يا ترى مع ترجمة الشعر؟ . . هناك الكثير من المشاكل التي تعترض طريق المترجم حين يترجم شعرا، خاصة حين لا يكون شاعرا، أنا شخصيا لست شاعرا و لكن عندي معرفة محدودة بعروض الشعر الإنكليزي و عروض الشعر العربي، و لهذا أنا أبني محاولاتي في ترجمة الشعر على معرفتي الأكاديمية باللغتين العربية و الإنكليزية . . و مع ذلك أنا اواجه الكثير من المشاكل العصية في ترجمة الشعر . . أحيانا أحاول ان أترجم قصيدة فلا أنجح في ترجمتها فأتركها، إيمانا مني بأنني يجب ألا . . أخون . . القاريء و انقل له شيئا ليس موجودا في القصيدة الأصل، و بالأخص القصائد المبنية على تفنن مطلق بإستعمال اللغة مثل قصائد اليوت و كامنغ و هيوز و غيرهم من الشعراء . . و نظريتي هي إستحالة ترجمة الشعر نظما بنظم، من شعر موزون و مقفى الى شعر موزون و مقفى، فلو ذهبنا الى "ديوان حماسة" أبي تمام لوجدنا الكثير من الشعر لا يمكن ترجمته الى أية لغة أخرى نظما، و إنما ينقل على شكل أبيات منثورة.
* هل تتقمص دور الشاعر أحيانا؟
-        بالتأكيد أحاول ذلك . . فعملية ترجمة الشعر مخاض يشبه مخاض الشاعر حين تولد القصيدة، فأحاول أن أتقمص دور الشاعر و أن كان تقمصا زائفا بالتأكيد، لأنني من المستحيل أن أتوصل الى لحظة الخلق الشعري أو الخلق الإبداعي الذي كان فيه الشاعر حين تولدت القصيدة.
* على مدى عملك في ترجمة الشعر، هل تعرضت الى نقد لاذع على ترجمات معينة؟
-        نعم بالتأكيد . . أذكر أنه ذات مرة كتب شخص لا أذكر أسمه في صحيفة من الصحف معترضا على ترجمتي . . بكيف أني قلت كذا بدل كذا  و الكلمة هي كذا و كيت . . و في وقتها رددت عليه، وكان ردي قاسيا لأنه عندما دخل لنقد ترجمتي لبعض النصوص ربطها بالفساد الإداري، و كان عنوان مقاله "في العراق ليس لدينا فساد مالي و إداري فقط  و إنما فساد ترجمي أيضا" . . و هذا لا يعد ربطا أخلاقيا بين المسألتين، وهذه كانت هي المرة الوحيدة التي تعرضت فيها للنقد و لكم للسف لم يكن نقدا علميا   . . و كم أتمنى لو يتوفر نقد ترجمي لكي يرسي لنا تقاليدا في الترجمة تكون مرجعا لي و لغيري . . المشكلة ماثلة و هي أننا لا تراكم معرفي عندنا في الترجمة كي يحول الترجمة الى مؤسسة معنوية!
* لماذا الإصرار على ترجمة الشعر بالنسبة لك؟
- اجابتي ستستند على سببين ، عام وخاص، العام .. هو اننا بحاجة لترجمة الشعر لضرورات ثقافية ،طالما كان الشعر يشكل جانبا مهما من اللغة التي ندرسها باعتباري مدرس لغة انكليزية، والسبب الخاص .. هو ان ترجمة الشعر عندي نوع من انواع التسلية بصراحة، اذ ليس من شيء اكثر اغراء عندي كدارس لغة من فك شفرات الافكار بلغة ما وتحويلها لتتشكل بشفرات لغة اخرى ، والشعر مثلما تعلم هو اكثر نتاجات اللغة تشفيرا ، وأجدني اذكر مثال إدوارد ﻓﻴﺘز جيراﻟد مترجم رباعيات الخيام من الفارسية الى الانكليزية في القرن التاسع عشر ، اذ لم يلتفت انذاك الجمهور الانكليزي ولا النقاد الى موضوع مدى التماثل في الرباعيات بنصها الانكليزي مع نصها الفارسي قدر احتفائهم بما خلقه فيتزجيرالد من شعر مكتوب بالانكليزية مستوحى من مناخ الرباعيات وجوها الروحي الاسر .
* ما الخسارة التي يمكن أن يتعرض لها النص الشعري، و لماذا؟
-        ربما . . لأنه من جميع أنواع الأدب قاطبة هو النوع الأدبي الذي يتعرض لأكبر خسارة دلالية . . و لهذا السبب قد يجد المرء مسوغا مناسبا لما نسمعه من البعض قائلين أن ترجمة الشعر هي ام المشاكل الترجمية، و تعبير . . أم المشاكل . . قد يشير هنا قطعا أو يعني أن عملية ترجمة الشعر مليئة بالمطبات، و يحصل هذا ربما لأن الشعر من بين جميع أنواع الأدب هو الذي يتمتع بأشد الأساسيات صرامة و خصوصية، ما يجعله يختلف إختلافا حادا في هذه الأساسيات من ثقافة الى أخرى و من لغة الى أخرى، فالرواية مثلا نجدها، سواء في عموميات فن الرواية أو خصوصياته لا تختلف من لغة الى أخرى أو من ثقافة الى أخرى، إلا إختلافا طفيفا، و قد يصح قولنا هذا على المسرحية أيضا الى حد كبير، و يصح دون ريب على القصة أيضا، غير أن الشعر هو وحده الذي قد يلتقي في مختلف اللغات و الثقافات عند العموميات و يختلف إختلافا بينا في الخصوصيات.
* ما هذه العموميات؟ . . و أية إختلافات بالخصوصيات نجدها؟
-        الخصوصيات . . من قبيل أن يكون موزونا و منظوما و مقفى و لكنه يختلف إختلافا صارخا، يكاد يكون إختلافا مطلقا في خصوصيات هذه المفاهيم العامة، خذ مثلا مبدأ بحور الشعر و أوزانه، الأوزان كمبدأ عام في الشعر موجودة في أشعار جميع الأمم و الجماعات و لكننا حين نأتي الى خصوصيات الأوزان قد لا نجد وزنا واحدا في الشعر العربي يتطابق مع أي وزن من أوزان الشعر الإنكليزي، و تصح هذه البديهة الى حد كبير حتى على أوزان الشعر للغات التي تنتمي الى الأسرة اللغوية الواحدة مثلا العربية و العبرية (الساميتان) أو الإنكليزية و الإلمانية (الهندو- أوروبيتان) و هكذا . . و أية محاولة نجريها لإيجاد تطابق من نوع ما بين عروض الشعر العربي و تلك الإنكليزية ستواجه إخفاقا شديدا . . ناهيك عما موجود هنا و غير موجود هناك . . خذ مثلا مصطلحات لها دلالات موجودة في الشعر العربي من قبيل عروض، ضرب، سبب، وتد ـ صدر، عجز، فاصلة، حشو . . و غيرها كثير بكل تفصيلاتها الفرعية . . أنجد لها جميعا مقابلات في الشعر الإنكليزي نظريا و تطبيقيا؟ . . و ما هي إن وجدت؟  . . الإجابة هنا مفتوحة دون ريب على مجهول لا يأتينا بخبر يقين، اما إذا أردنا التحدث عن القافية العربية بأنواعها التي قد لا تخطر ببال قاريء الشعر و التي قد لا تخطر ببال بعض ناظمي الشعر الحر، و محاولة إيجاد متطابقات لها في القافية الإنكليزية فتلك مسألة اخرى لا تفضي محاولة حلها إلا الى متاهات كبيرة!
* عدا . . إختلافات الأوزان الشعرية التي هي من أساسيات الشعر بين اللغات المختلفة، ماذا غيرها من الإختلافات؟
-        هناك إختلافات الخواص الموسيقية للعبارة الشعرية و جرس الكلمات في اللغتين . . و ثقافة اللغتين . . و أعني بهذا ما نجده ملائما هنا قد لا يلائم هناك، أو ما هو ساخن هنا يعد باردا هناك، و ما هو مقبول إجتماعيا هنا قد لا يجد قبولا هناك، و سايكلوجيا . . سايكولوجيا شاعر المصدر و سايكولوجيا مترجم اللغة الهدف . . القدرة التخيلية لشاعر المصدر و القدرة التخيلية للمترجم . . بنية اللغة المصدر و بنية اللغة الهدف، أفضليات الإستعمال الأسلوبي للغة عند كليهما، شاعر اللغة المصدر و مترجم اللغة الهدف، فضلا عن كون اللغتين تنتميان الى أسرتين متقابلتين أو متباعدتين مثلما الحال بين العربية و الإنكليزية . . فالأولى سامية و الثانية هندو-اوربية  . . و هذا قد يثير عند البعض شكوكا عن الجدوى الدلالية و الجمالية لترجمة الشعر!
* هل تعتقد أن المواقف حيال ترجمة الشعر وليدة اليوم؟
-        يمكن الإشارة إليها من ناحية كونها مليئة بالمطبات، فهذه المواقف قد تعود بنا تاريخيا و ثقافيا الى عهود بعيدة في ثقافة العديد من اللغات، فنظريا نجد في كلاسيكيات الثقافة العربية مثلا أن عمر بن عثمان الجاحظ كان قد عبر قبل أكثر من 12 قرنا عن إستحالة ترجمة الشعر بقوله كونها . . مهمة مستحيلة . . و ناهيك عما يقوله بعض الكتاب المعاصرين عن ترجمة الشعر من أنه . . فن الفشل . . حسب رأي الأديب الإيطالي البرتو إيكو ، و رأي الشاعر الأميركي روبرت فروست عن ترجمة الشعر ينافسه بقوله  . . في الترجمة يتعرض الشعر الى الضياع!

* من خلال تجربتك الشخصية . . هل تعتمد على نظرية ما في ترجمة الشعر؟
-        لا! . . لا أعتمد على أية نظرية في الترجمة إطلاقا، لأنني حين أترجم لا تحضرني أية نظرية او فكرة أو منهج أو أسلوب ترجمي . . و من خلال تجربتي الشخصية في ترجمة الشعر، حيث أنني الى حد الآن ترجمت ما لا يقل عن 300 قصيدة من الإنكليزية الى العربية و عددا قليلا من العربية الى الإنكليزية . . أجد أن الإنطلاق في ترجمة الشعر، كما أزعم، يشبه الإنطلاق في نظم قصيدة تقريبا . . أنا لا أحب الحديث في النظريات، ذلك لأنني في آخر الأمر عندما كنت و ما أزال حين أشرع بترجمة قصيدة لا تحضر في ذهني أية نظرية من تلك النظريات لكي تكون فناري في الترجمة، و إنما أدع فكري و قلمي يشتغلان معا، و مع ذلك بإمكاني أن أصوغ نظريتي الخاصة . . و هنا بمعنى رأيي الخاص، عن إمكانية ترجمة الشعر.
* ما هذه النظرية الخاصة بك أو وجهة نظرك في ترجمة الشعر؟
-        هذه النظرية تطرح ثلاثة إفتراضات عن إمكانية ترجمة الشعر  . . الإفتراض الاول يفحو بإمكان ترجمة الشعر اذا كانت عملية ترجمته على أساس المعنى وليس غير المعنى، ما يعني إهمال الأساسيات التي بنيت عليها القصيدة و الإكتفاء بنقل الرسالة التي تحملها القصيدة و لكن بإعتراف بحقيقة أن النص المكتوب نظما قد تحول دون ريب الى نثر في اللغة الهدف، و في هذا الحالة يجري تعريض القاريء، إن جاز القول، الى . . إحتيال . . من نوع ما من قبل المترجم بإيهام القارئ أنه يقرأ شعرا في حين أنه لا يقرأ سوى ثيمة النص الشعري (المصدر) مكتوبا نثرا في اللغة الهدف . . و الإفتراض الثاني يفحو بنعم و لا في الوقت نفسه . . بخاصة حين يروم المترجم بالأساس تحقيق بعض الشروط الفنية اللصيقة بفن الشعر، و يسعى لتزويد القاريء بإنطباع أنه يقرأ شعرا منقولا من لغة غير لغته، يحصل هذا خاصة حينما يتمتع المترجم بمهارة إستعمال أقصى قابلياته لخلق خاصية موسيقية محسوسة في النص الهدف، بتلاعبه الماهر بعناصر اللغة غير أن هذا الأمر قد لا ينجح ما لم يكن المترجم نفسه ناظم شعر باللغة الأم و أن يتمتع في الوقت نفسه بمكنة عالية في اللغتين بحيث لا يترك حجرا من أحجار اللغة دون أن يقلبه أو يقلّبه من أجل خلق قصيدة من نوع ما في اللغة الهدف، و مع ذلك فإن القاريء هنا قد يتعرض لاحتيال من نوع ما أيضا حتى لو تغاضينا عن قول تي اس اليوت إذ يقول . . ليس هنالك شعر حر أو مرسل و إنما هنالك شعر جيد و شعر رديء! . . و هنا لأن المترجم سيترك القاريء يظن بأنه يقرأ شعرا مترجما في حين أنه في الواقع يقرأ شعرا مرسلا مكتوبا بلغة غير لغة النص المصدر و لكن ثيمته مبنية على ثيمة النص الأصلي . . أما الإفتراض الثالث فيقول أنه لمن المستحيل إطلاقا ترجمة الشعر نظما بنظم . . أي أن يجري نقل قصيدة بالإنكليزية منظومة بالعربية . . و عبارة نظم بنظم هنا تعني في الغالب تحويل الكل شكلا ومضمونا من شعر موزون مقفى في اللغة المصدر الى شعر موزون ومقفى في اللغة الهدف . .  و هذا لعمري يعني مجازا تحويل سيارة سباق أنيقة خفيفة جميلة الى سيارة شحن كبيرة لوري . . و بعبارة أخرى فإن المترجم في هذه الحالة عليه إفتراضا أن يكتب قصيدة موزونة مقفاة في لغة الهدف، غير أن ثيمتها موضوعة بصيغة قصيد منظومة في اللغة الهدف، و مع ذلك لو توخينا الدقة في التعبير لقلنا بأن التطابق أو قل التماثل أو التناظر أو أية صفة من هذا النوع لن تتوفر في القصيدة الهدف لا مضمونا و لا شكلا  . . و هكذا لن تكون علاقة القصيدة المبتدعة بالقصيدة الأصل سوى علاقة واهية لدرجة أنها لا تصلح حتى أن تسمى ظلا للقصيدة الاولى لأنها ستكون باهتة!
* و أي سبب يمكن الإعتراف به حول ذلك؟
-        ببساطة . . لأننا مهما فعلنا لن نجد أي تطابق بسبب الإختلاف الصارخ بين خصوصيات و أساسيات الشعر الإنكليزي عن خصوصيات و أساسيات الشعر العربي، ناهيك عن الإختلاف بين بيئة اللغتين و الإختلافات الثقافية و خصوصياتها مما يقف حجر عثرة في تحقيق أي تطابق في النظم الشعري بين اللغتين . . فما بالك بالإختلافات الأخرى العديدة، و من الممكن أن تكون الفجوة أكبر في إمكانية ترجمة من هذا النوع إذا علمنا أن قسما من الإختلافات بين اللغتين هي موروثة في اللغتين و يقع قسما آخر منها خارج اللغتين و لكنه يفرض نفسه بالتأكيد أثناء الترجمة.
* هل هذا يعني أن الخسارة هنا ستكون فادحة للشعر المترجم؟
-        دون ريب . . و نستطيع القول بإختصار أن الخسارة قد تكون مؤثرة شكلا و مضمونا . . ذلك لأن ما يرد في ذهن المرء فورا هو أن خلق قصيدة الأصل لن تكرر مطلقا في داخل وعي المترجم مهما كان بارعا في التقمص لأن التاريخ و الزمن لا يكررا نفسيهما . . و بذا لن يكون عمل المترجم هنا سوى كاريكاتيرا و لا يختلف عن الكاريكاتير الذي ذكره ماركس مرة تعقيبا على قول لهيغل من أن التاريخ يكرر نفسه إذ قال ماركس . . صحيح أن التاريخ يكرر نفسه غير أن هيغل نسي أن يضيف بأنه في المرة الأولى يكون دراماتيكيا و في المرة الثانية يكون كاريكاتيريا!  . . و هذا بإختصار يعني أن القصيدة المترجمة هنا ستكون مختلفة عن القصيدة المصدر على جميع مستوياتها سايكولوجيا و ثقافيا و بنيويا و جماليا و أسلوبيا الى آخره من الصفات ذات العلاقة . . و إن القاريء في هذه الحالة لا يتعرض للإحتيال من ناحية إيهامه بأنه يقرأ قصيدة لأنه فعلا يقرأ قصيدة و لكنه يتعرض لإيهام من نوع آخر أو من مورد آخر و هو أنه يقرأ قصيدة في اللغة الهدف تحمل إسم شاعر من اللغة المصدر مع أن القصيدة المبتدعة قد  لا تكون لها أية علاقة بالقصيدة المصدر . . و لكن عزاءنا الوحيد هنا سيكون في إحتمال أن تكون القصيدة الهدف لا صورا . . بل ظلالا لصور القصيدة المصدر لتعكس للقاريء لونا باهتا من ثيمة في الأصل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق