بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 13 أكتوبر 2016

مقتربات جمالية لتحليل النص الشعري في الترجمة


An essay on translation criticism …
Aesthetic Approaches to the Poetic Text Analysis in Translation
By: Ahmed Khalis Shalan 
مقالة في النقد الترجمي ...
مقتربات جمالية لتحليل النص الشعري في الترجمة
أحمد خالص الشعلان

تحليل النص قبل الترجمة هو أحد الشروط اللازمة.
-         فهل لا بد أن يكون مترجم الشعر شاعرا أو متضلعا من الشعر قبل الشروع بالمهمة؟
 ان لم يكن المترجم شاعرا أو متضلعا من الشعر، فثمة ما قد يغريه ليقوم بالمجازفة، و من هذه الإغراءات مثلا:
-         كونه متخصصا و متضلعا من اللغتين، المصدر والهدف،
-          كونه قارئا متمرسا للشعر،
-         ممتلكا لناصية التقييم و النقد،
-    المام عام بالمشتركات و التداخلات الإصطلاحية بين علم الجمال aesthetics، و النقد ألأدبي literary criticism أو النقد الفني artistic criticism
و ترجمة النص، فضلا عن ذلك، تتطلب تحقيق احاطة كلية أولية، على طريقة الجشتالت، بقراءات متعددة استطلاعية توفر مقتربات عامة لتحليل النص. و من هذه المقتربات، دون ريب، ما هو بنيوي structural و ما هو دلالي semantic و ما هو أسلوبي stylistic.
الخارطة البنيوية للنص الشعري، مثلا، لها علاقة وثيقة بالمكنة اللغوية competence للتمرجم و إحاطته الشاملة بقواعد اللغتين و بدرايته بكيفية إنتقاء اللحظة التي يكون عليه فيها كسر قواعد اللغة، أو ليّ عنق العبارة، من أجل الخروج بأبنية اللغة الى رحاب الفن، في حين أن الخارطة الدلالية للنص الشعري لها علاقة حميمة بالتراكم المعرفي cognitive accumulation  بالمفردة عند المترجم، و قدرته على إنتقاء المعاني و ظلالها في المكان المناسب و الوقت المناسب، ما يساعده على الخروج بحس استثنائي للمعنى يلصق بذهن المتلقي للنص الهدف دون عيّ أو التباس. أما الخارطة الأسلوبية للنص الشعري فهي التي تستقي آلياتها من ذائقة taste المترجم، و الذائقة هنا تعني تقييمه الجمالي و قدرته على التفريق بين ما هو جميل و ما هو قبيح!
إن معرفة حقيقة أن أبياتا معينة من الشعر موصوفة من لدن النقاد كونها شعرية جدا في زمانها قد لا تقدم لنا في زماننا سببا كافيا للإعتقاد بأنها أشعارا جميلة!
فهل في الشعر ما هو قبيح؟
أجل . . . و بكل ما تحمله الكلمة من معنى!
خذوا مثلا:

إذا بلغ الفطام لنا صبيا تخرّ له الجبابر ساجدينا
When an infant of ours is weaned,
Down, for him, the despots are bowed.

هذا، ناهيك عن صورة الجبار، في القاموس الأخلاقي، كونها صورة قوة مقرونة بالقسوة macho image، و بغض النظر عن حاجة الشعر للمجاز و المبالغة، أداتين فنيتين يحتاجهما الشاعر، لننظر الى مقدار الوقاحة التي تنضح من البيت بما فيها من عصبية و جهالة. و الذائقة، بموجب الفيلسوف كانت، بإمكانها أن تعقد مقارنات من نوع ما[1]. و المترجم الناقد الحريص، ذو الذائقة الواعية، عليه ألا يعلن هنا عن رأيه إلا بعد أن تتضح لديه الكيفية التي يجري بها الربط بين وجدانه و الموضوع مدار التقييم، عند الترجمة، بخاصة حين تـُقارن المبالغة و المجاز الموجودان في شعر لبيد و بالموجودة منهما في شطحة جميلة لشاعر متصوف إذ يقول:
أنا القرآن و السبع المثاني        و روح الروح لا روح الأواني
I am the Qur'an and Al-Sabi' Al-Mathani,[2]
Soul of the soul, not of the body.
   
و عودة للقبيح من الدلالات في الشعر، لنتأمل قول الشاعر:
لا تشتري العبد إلا و العصى معه         إن العبيد لأنجاس مناكيد
و هل ثمة ما هو أقبح من درس متأثر بالهوى prejudice يريد أن يعلمنا إياه الشاعر هنا، بما فيه من قسوة و تمييز قد لا يكون زمان المتنبي نفسه إحتملها، بحسب معرفتنا بكافور الأخشيدي المهجيّ في هذا البيت، بوصفه أحد أكثر السياسيين فطنة في زمانه، ناهيك عن زماننا المتخوم بمنظمات المجتمع المدني!
ان للأحكام ألأخلاقية و الجمالية نتائج عملية يفتقر إليها عادة العقل المجرد. يقول ديفيد هيوم "ان الشكل، الذي لم يكتسب توازنا صحيحا، يعد قبيحا ugly، لأنه ينقل الأفكار غير المستساغة من قبيل التي تشي بـ"إنحراف fall، أو أذى harm، أو ألم pain" ("مبحث في مبادئ الأخلاق" ص245)[3].  و ذلك كله متوفر في بيت شعر المتنبي. لذا، على المترجم هنا أن يدرك حقيقة ان الذائقة لا تأتي دائما بما يأتي به العقل!
Buy not the slave but with a stick,
And look how grubby and hapless, the slaves are.

و الخطورة هنا تكمن في أن المتنبي يحاول في هذا البيت أن يملي على مخيلة imagination المتلقي ما فرضه الموقف الشخصي عليه من شطحات خيلاء و تخايل flight of fancy، و ليوهمنا بأنه يخرج بالخاص subjective الى العام universal، في مسعى منه لجعل رأي المتلقي من رأي الشاعر. و هذه شطحة هي بمنتهى القبح!
و الأمثلة من هذا النوع كثيرة، فكيف سينقل المترجم هذا القبح و تلك الوقاحة ليخلق الصدمة المطلوبة لدى المتلقي، إستهجانا لفكرة الشاعر، و ليس إعجابا بما يقوله من شعر؟ و سايكولوجيا، هذا نوع من خوف يعاني منه المتحدث في بيت المتنبي، خوف يريد به أن يدفعنا الى أن نستهجن في وجداننا ما يظنه إنحرافا عما هو طبيعي، في أن يتقلد عبد أمور البلد، و السادة محكومون! و ما أسهل إنخداع الوجدان! و أنظروا، كيف ضلل الشاعر نفسه، و يريد أن يضللنا معه، فيخفق دائرة خاصة من القراء، و يفلح مع الدائرة الأوسع من القراء!
-         فهل، يا ترى، يستطيع المترجم أن ينقل لنا كل ذلك؟
و أظن إن أفضل المترجمين حرفية هنا سيخفق حتى لو قتل نفسه ترجمة، لأنه سيعجز، بموجب نظريتنا في ترجمة الشعر[4]، عن الإتيان بالشحنة العاطفية المطلوبة، و تكون النتيجة نصا أقل قبحا مما هو عليه في معادلة الجميل/ القبيح، و أقل وقاحة  بمعناه السائب، الذي قد لا يرتقي بنا الى إستهجان فكرة تقديس العبودية التي تنضح من بين كلمات الشاعر، و نتماهى مع ما أراده الشاعر. و ليس هو المطلوب!
و فضلا عن ذلك، من سيقرر الصواب هنا للتفريق بين ما هو قبيح و ما هو جميل، إذا وجد المترجم نفسه فجأة أمام الاختلافات الحادة بين ثقافة اللغة المصدر و اللغة الهدف بوصفها عائقا يحيل بينه و بين رسم جدلية الجميل/القبيح، بخاصة إذا عرفنا أن الوجدانيات التي ينقلها الشعر، نفسه، ليست متساوية في جودتها؟ فما هو الحل؟
* * * * *             * * * * *                 * * * * *
و إذ تطرقت للتو الى مقتربات للنص الشعري، و  ليس الى النص نفسه. فبعد إحاطة بانورومية بالمقتربات، كيف سيتعاطى هذا المترجم، مع ما أُستعمِل من آليات شعرية في النص، و التي عليه أن يشق طريقه عبرها بنجاح، لكي يصل الى الجانب الآخر، ضفة النص في اللغة الهدف، مكللا بالغار؟
ها هي ذي هنا البرية التي تحدث عنها ثربانتس مؤلف دون كيخوتة، حين إحتار أين يضع بابا لتلك البرية! . . و ها هنا يجد المترجم عشرات الأدوات الشعرية figures of speech، فخاخا على المترجم أن يفككها بعناية و يحللها، لكي يكون بمقدوره فكك شفراتها decode في اللغة المصدر، و ما يتطلبه ذلك من معرفة حسية مشخصة بما تتضمنه من حدس، لأن المترجم هنا لا يتعاطى مع حقائق علمية معرّفة، بل مع مشاعر، أو بالأحرى مع إفتراضات، عليه أولا أن يحولها  شفراتها trans-code الى دلالات حيادية، و هي عملية عقلية مجردة وسيطة و إنتقالية بالغة التعقيد، و الأدهى أنها عملية نادرا ما تكون محسوسة أو مدركة، و كأنها تجري هناك في قعر الذهن، لكي يكون بإمكانه فيما بعد رسم شفرة encode  المعاني باللغة الهدف مصحوبة بالإنفعال المطلوب. و حيث يبتدأ ما يسمى بلغة النقد الأدبي مبدأ الاحتمال verisimilitude دوره الحاسم، غير المنظور، في إنتقاء المفردات لتشكيل عبارات شعرية يوهم المترجم نفسه، و فيما بعد يوهم قارئه، في أنها مقاربة جدا لما موجود في النص المصدر!
و مثلما قلت، تلك هي برية القصيدة،  فـمن ذا "سيجرؤ على وضع باب للبرية!" على رأي ثربانتس؟  . . أو، بعبارة أخرى، من أين سيبدأ المترجم بتحليل النص و تفكيكه و تشخيص أدوات الشاعر، لكي يجد لها مكافئا equivalent في اللغة الهدف؟ و سؤال مهم آخر هو:هل عليه أن يجد المكافئات على مستوى المفردة vocabulary، أم على مستوى العبارة الشعرية poetic expression، أم على مستوى الصورة image؟
فالمترجم إن أراد:
-     أن يجعل من تحليل المفردة دليلا للمكافئات في الترجمة[5]، نهجا عاما في التحليل، سيقع دون ريب في مطب محدودية التفكير literal-mindedness، مهما حاول أن يظهر عمله بحلة مجازية figurative. ذلك، لأنه بعزله للمفردة، دون دراية، عن سياقها الفني في العبارة الشعرية، قد يسقط عنها دورها بوصفها جزء محتملا في أداة شعرية poetic device . . (و المفارقة هنا أنه قد يحصل، و إن في حالات نادرة، أن يكون بيت الشعر مبنيا من مفردة واحدة بخاصة في شعر مرحلة الحداثة و ما بعد الحداثة! والأمثلة كثيرة عند شعراء مرحلة التسعينيات في العراق الذين إستهوتهم لعبة اللغة و ليس الفن!).
و إن أراد:
-     أن يجعل من تحليل العبارة الشعرية[6] نهجا عاما له في تحليله للنص، لإيجاد مكافئات لها، قد يواجه هنا معضلة ميل لاشعوري متواصل لإغفال أداء المفردة وحدة للبناء في الشعر، و دورها في إحداث التأثير الصوتي و الحسي المطلوب. و قد تأتي النتيجة بالتالي: عبارة شعرية عائمة بالتجريد، لا يربطها بالحس رابط، و الحس هو روح الشعر.
و إن أراد:
-     أن يجعل من الصورة نقطة إنطلاقه في التحليل، سيجد نفسه مضطرا الى مفارقة الكثير من فعاليات النص المصدر (تشبيهات و مجازات و مؤثرات صوتية و بلاغية و غيرها)، أو قد يضطر الى قلبها رأسا على عقب، أو استبدالها واحد بمكان الآخر. و تبعا لهذا، و لكي يخلق صورة موازية و نظيرة للأصل، قد ينصب فعل المترجم، على البنية، فيستبدل الظرفي adverbial بوصفي adjectival أو بالعكس، أو يستبدل الأسمي nominal بفعلي verbal أو بالعكس. أو تلك بهذه، أو المزج بينها جميعا، و يقتل نفسه لكي يجئ بصورة مقاربة للصورة الشعرية الموجودة في المصدر، يزعم أنها تنضح ألوانا و أصواتا.
و جدير بالذكر أن ما يصلح من نقاط إنطلاق من الثلاث المذكورة آنفا لتحليل النص في ترجمة نوع من الشعر، قد لا يجدها المترجم الفطن تصلح لترجمة نوع آخر.
لنر، مثلا، ما يصلح نقطة إنطلاق في التحليل في ترجمة هذا الجزء من قصيدة الكسندر ﭙـوݒ Alexander Pope "مقالة في النقد An Essay on man" :
Snatch from his hand the balance and the rod,
Re-judge his justice, be the God of God.
In pride, in reasoning pride, our error lies,
All quit their sphere, and rush into the skies.  

من يده، إخطف الميزان و الصولجان
و إستحّجه في عدله، كن إله الإله
في الغرور، و فلسفة الغرور يكمن الإمتحان.
الكل رافض لما هو فيه، و مارق الى اللامتناه.

فالشاعر ـوݒ الذي إستطاع من ناحية أن يرتقي  بالإيقاع rhythm، ليخلق منه سردا جميلا، مثلما يحصل في قصيدته المذكورة آنفا، وإستطاع أيضا أن يذلل ما يسمى heroic couplet، من خلال إحداث تنويعات، بالكاد تُرى أو تُحس، في الصوت أو الايقاع أو قواعد اللغة، لخلق إفادات مؤثرة و جميلة لا تنسى عن الوضع البشري. و في شعر مملوء بالأفكار، أكثر منه بالأحاسيس، لا غرابة،إذن ، أن نجد تجريدا عاليا جدا في أبيات ـوݒ، لأنه أصلا نتاج عصر سُمي بـ"عصر العقل Age of Reason". و لكن لنتأمل أيضا ما في المفردات المكتوبة غامقة في أبياته من جرس مؤثر، حسي ودلالي، ما يجعل منها محور العبارة الشعرية، بحيث تصلح نقطة انطلاق للتحليل. و مع ذلك، فقد لاتستقيم أمور تحليل النص الا بنقطتي انطلاق متزامنتين للترجمة هما: المفردة، و العبارة الشعرية. و لا أرى هنا متسعا من الوقت لاستزادة في التفصيل.

و لنتأمل جلال الموت و مجانيته، في آن، هنا في أبيات السياب:

يا خليج
يا واهب اللؤلؤ و المحار و الردى
تردد الصدى كأنه النشيج،
يا خليج
يا واهب المحار و الردى
Oh, Gulf,
Oh, that that gives pearls, oysters, and decease,
The sound reechoed as sobs,
Oh, Gulf,
Oh, that that gives just oyster shells and demise.

و لننظر لمفردة "اللؤلؤ" ودورها الحاسم في الإنتقال من المعنى الى الدلالة. فهي بحضورها في البيت الثاني تشي بمعنى مبررٍ و مستساغٍ للموت، لأنها تعرض الخليج بوصفه قوة حركية في الطبيعة، مخيفة تسبب الموت، و لكنها أيضا تهب "اللؤلؤ" الذي يحدث مسرة في الوجدان. و يصف أيمانويل كانت قوة من هذا النوع بـ"الجليل sublime"، لأنها قوة غامرة overwhelming،[7] في حين أن غياب مفردة"لؤلؤ" في البيت الخامس هو الذي يفضي بنا الى دلالة الموت المجاني، حين يتحول الخليج الى مجرد شئ مخيف، لا يثير السرور، لأنه واهب للموت و القواقع الفارغة! . . التناقض هنا بين فكرتي الموت، و محورها اللؤلؤ، هو سر جمال هذا الشعر. و إنتصار مفردة "اللؤلؤ" هنا يكاد أن يكون حاسما. إذا حاول المترجم أن يلغيها من الترجمة، فأنظروا كيف ستتحول أبيات السياب تلك كومة من المفردات تشبه كومة الأصفار!  . . فالى أي حد يستطيع المترجم، من خلال تحليله للنص، أن يمسك بلحظة خلق هذا الجمال، لكي يخلق نظيره؟
  
أو لناخذ الأبيات التالية من نزار قباني:

زيديني عشقا
زيديني،
يا أحلى نوبات جنوني
زيديني.

يا أحلى إمرأة بين نساء الكون
أحبيني،
يا من أحببتك حتى احترق الحب
أحبيني
Much more, love of thine,
Much further.
Oh, the sweetest craziness' fit of mine,
Take me further.

Oh, prettiest woman, among the world's,
Love me.
Oh, whom I've loved, until love burns,
Care for me.

لننظر أولا . . ما أبهت النتيجة حين يـُنقل سهل نزار قباني الممتنع الجميل الى لغة أخرى، في نص لا يأتي بالنتيجة المرجوة حتى لو قلّب المترجم كل حجر في اللغة الانكليزية! و بعد، ففي أبيات تتميز بمنتهى المبالغة exaggeration و الحسية للوصول الى التجريد في فكرة الحب المطلق حين تقرأ باللغة المصدر، بإعتماد الشاعر على كثافة الصوت و المعنى الحسي التعبيري في المفردتين "زيديني" و "أحبيني" لخلق النغمة الآسرة الجميلة في القصيدة، و هما أيضا مفردتان تنطويان على حكم تقييمي يوحي بأن المتحدث ليس مكتفيا حبا! . . فلننظر ما آلت اليه النتيجة في ترجمة المفردتين الى الإنكليزية بما فيهما من إطالة لا بد منها في محاولة المترجم لخلق إيقاع و تنويع من نوع ما. ها هنا يبرز دور المفردة طاغيا في تحليل النص. و بإختصار:
-    أتـخلق ترجمة من هذا النوع انسيابا في الشعر و حنانا في العاطفة مشابه لذاك الذ أبدعته ألمعية عقل المتحدث في قصيدة نزار قباني،  و هي اللمسة الفورية التي تحدث عنها ديفيد هيوم؟[8]
الاجابة متروكة للمتلقي الانكليزي! . . . و هنا أيضا ليس من متسع للاستزادة!

و لنذهب هذه المرة الى أبيات جون دن John Donne من غنائيته "الموت Death":
One short sleep past, we wake eternally,
And Death, shall be no more: Death, thou shalt die.

إغفاءة قصيرة نمر بها، و نستفيق في الآخرة،
و الموت هناك لن يعود موتا: لأنك، يا موت، أنت الذي ستموت.

قبل أن نرى من أين نبتدئ تحليل النص، لنقارن بين مضمون بيتي جون دن، و ما يقوله المتنبي في هذا البيت:

يحاذرني حتفي كأنيّ حتفه        و تنكزني الأفعى فيقتلها سمي
My fate is wary of me, as if I am its death,
The snake bites me: to be killed with my poison.

ها هنا يقودنا مفهوم الجميل الى فكرة الخلود شديدة التجريد، بإجبارنا على تلمس طرقنا الى مفاهيم يتعذر علينا العثور عليها بسبب تجريديتها العالية. مع أن تجربة الجميل هنا ليست غريبة و لا محيرة، و إنما على العكس، تجربة تبعث السرور في النفس، إذ توفر إشباعا قصديا للخلود.[9] و لأن الحس يكاد في المثالين إياهما أن يكون غائبا، ليس أمام المترجم إلا تحليل بنية العبارة الشعرية من أجل إعادة تشكيل دلالتها باللغة الهدف. و لكن، أسيدرك المترجم المفارقة في  فكرة الخلود في شعر الشاعرين؟ ذلك ممكن، اذا تعرَّف المترجم مسبقا على النزعة الميتافيزيقية المتشحة بالسخرية و التشاؤم عند الشاعر دن، و مقارنتها بالنزعة العقلية العملية الدنيوية عند المتنبي، ما يكون دليلا له يوضح الفرق بين طريقة سعي دن للخلود بعد الموت، و منهج سعي مختلف للخلود في الحياة عند المتنبي. و هو ثيمة على المترجم أن يجسدها بطريقة ما!
و ما هو جدير بالذكر هنا هو أن منهج تحليل العبارة الشعرية قد يتيح للمترجم فرصا أكبر من منهج تحليل المفردة في محاولة إيجاد مكافئات مقاربة للأدوات الشعرية (بنيوية و صوتية و دلالية و بلاغية) التي تصوغ صنعة الشاعر. و لكنهما كليهما، منهج تحليل المفردة و منهج تحليل العبارة، يصلحان طريقا لاستخدام الدلالة reference جسرا للوصول الى المعنى sense، و  ليس العكس.
و ثمة، من نواح أخرى، قصائد زاخرة بالصور. و اذا ما ظن الشاعر أن  التركيز على المفردة و العبارة الشعرية هنا سيكون كافيا لجلب ألوان الصورة الشعرية في اللغة المصدر الى نص اللغة الهدف، فإنه دون ريب سيقع في إشكالية وضع العربة أمام الحصان! ذلك . . لأن الإلمام بالصورة يتطلب الابتداء بحسّ المعنى للوصول الى ادراك الدلالة، و ليس العكس. أما اذا كان المترجم فطنا وربط الحصان أمام العربة، منذ البداية، لإستجلاء الإحساس الذي يضعه الشاعر في الصورة،  قد يفلح المترجم في مهمته الى حد معقول. و يحصل هذا بخاصة مع شعر الطبيعة في الحقبة الرومانسية romanticism، و شعر مرحلة الحداثة modernism و ما بعد الحداثة، مثل شعر إزرا باوند Ezra Pound ، و ت. س. اليوت T. S. Eliot، و مع شعر البحتري، و محمد مهدي الجواهري، و السياب، و علي محمود طه، و شعر غيرهم الملئ أغلبه بتجاور الصور images juxtaposition و تلاصقها، و المعروف بإستغناء الشاعر عن كل ما لا يظنه ضروريا من أجزاء الكلام لتشكيل الصورة الشعرية. إذن، اللعبة هنا هي لعبة حس يبتدأ بالوان و خطوط إفتراضية، و يمر بعملية إدراكية معقدة، لينتهي بكلمات و عبارات تبث صورة من نوع ما! و تبرز هذه الخاصية بروزا شديدا في شعر اليوت أكثر من غيره، بخاصة في قصيدته المعروفة "أغنية حب في ج. الفرد بوفروك The Love song of J. Alfred Prufrock". و بسبب كثافة الصورة في هده القصيدة، لنأخذ لازمة القصيدة مثالا:

In the room the women come and go
Talking of Michelangelo
في الغرفة، النساء يذهبن و يجئن
متحدثات عن مايكلانجلو

          فها هنا، و بغياب شبه كامل للصفات و الظروف، لأنها تعد، على مذهب الصوريين imagists من الشعراء، زائدة عن الحاجة إلا عند الضرورة، كيف سيتعامل المترجم مع نص سعى به الشاعر الى الإستفادة من فن سكوني في المكان، متخيلا لوحة بألوان مادية، و تحويله، بالكلمات، الى فعل ديناميكي في فن يتحرك بالزمان، هو الكلمات؟ سيكون على المترجم هنا أن يذهب الى الإحساس بالصورة من أجل الامساك بدلالتها. و لأن الإنطباعات الأولية التي يثيرها الشكل form في ذهن المتلقي، فإنها تتمتع بدور إستثنائي في توجيه مزاجه mood. لذا، نرى أن المترجم حين يبتدأ، مثلما فعل الشاعر، بتهيئة مكان الحركة بوضعه عبارة "في الغرفة" في بداية البيت الشعري، كأننا به يمهد للاحساس بـ"اطار الصورة"، لكي يمهد للقارئ الإمساك بحس المعنى، فيسهل عليه حينئذ، عندما يمر القارئ على عبارة "متحدثات عن مايلكلانجلو" في البيت التالي . . سيسأل دون ريب: لم "متحدثات عن مايكلانجلو"، و ليس عن رفائيل، أو بيكاسو؟[10] حينئذ ستتحقق نية المترجم بتوجيه القارئ صوب الدلالة  الموجودة في عبارة "متحدثات عن مايلكلانجلو".

و لو كان المترجم، من ناحية أخرى، قد نقل اللازمة الى العربية، مثلا، على النحو التالي:

النساء يذهبن في الغرفة و يجئن
يتحدثن عن مايكلانجلو

أو
تذهب النساء و تجيء في الغرفة
ليتحدثن عن مايكلانجلو

أو . . أو ..أو!

لكانت النتيجة قد إختلفت كثيرا، بخروج المترجم عن إطار الصورة المتوخاة بعلاقتها بجدلية المكان/ الزمان، و جدلية السكون/ الحركة، مما لا يمهد للوصول الى الدلالة. فنحن لا نستطيع إستبدال الممارسة التي تمر بها الذائقة في المكان بالموافقة التي يبديها العقل في الزمان. و لا أظن المجال يتسع هنا للاستزادة.

و لنأخذ مثالا آخر من قصيدة "الجندول" للشاعر علي محمود طه:

مر بيّ مستضحكا في قرب ساقي                  
يمزج الراح باقداح الرفاق

قد قصدناه على غير اتفاق،                
فنظرنا و ابتسمنا للتلاقي

و هو يستهدي على المفرق زهرة                  
و يسوي بيد الفتنة شعره

حين مست شفتي أول قطرة               
خلته ذوّب في كأسي عطره
. . . .

ها هنا قصيدة قيل عن ألفاظها أن مكنوناتها تنتشر كالبخور، لأن الشاعر، مثلما قيل، إعتاد على حرق بخور الكلمات في أشعاره، ليخلق بها كل تلك الأخيلة و الصور المترعة سحرا و نشوة.
و أنا، و بموجب نظريتي عن إمكانية ترجمة الشعرpoetry translatability،[11] التي خلصت فيها الى أن المترجم، مهما عمل بجد و روية و بعد نظر، و مهما عَليت ثقافته و مكنته على جميع المستويات، سيظل يوهم قارئ النص الهدف بأنه يقرأ شعرا نظيرا للشعر الموجود في النص المصدر!
و هنا في نص علي محمود طه، ثمة أكثر من شئ قد يظل ملتبسا لدى المترجم: المتحدث و نبرته tone، و المخاطب addressee، و إطار القصيدة و خلفيتها (مكانها و زمانها) setting، و مزاج القارئ mood. فكيف سيتمكن المترجم من تحليل النص، ما لم يذهب ليستفسر عن تاريخ القصيدة.
 و لنفترض أن المترجم أحاط بكل ما سبق، قد تكون محاولته على الوجه التالي:
          
As he passed, laughing, to draw near a waiter,
Mixing wine in the pals' saucer.

Seeking our fortune to meet him accidently,
 We looked forward, and smiled at him admiringly,

In a fork, taking the on his arm a flower,
Doing his hair, with a hand, full of allure.

As soon as a drop touched my lip
I thought him melting, his flavor, in the cup.

في تلك الأبيات، تطلب الأمر من علي محمود طه توظيف الكثير من التفكير، وصولا للاحساس بالوجدان المطلوب[12] من خلال لعب حر بالقدرات الإدراكية، بخاصة الفهم understanding و التخيل imagination ، مثلما يسميه ايمانويل كانت Emanuel Kant في حكم الجميل beautiful، إذ يقوم الفهم بـ"تعزيز" أو "تعجيل" التخيل بنوع من سلسلة متواصلة من التفكير و الشعور ذاتييّ الديمومة عند المتلقي[13]. و لينظر المترجم ها هنا أيضا نوع النظام و القوام الذي يخلقه علي محمود طه بالكلمات ليكوّن إحساسا جميلا، كما لو أنه مهيئ ليمنحنا مسرة أو إرضاء للنفس. و مع إفتراضنا بأن المترجم قد يكون وظف أضعاف ذاك التفكير الذي وظفه الشاعر، ليفك شفرة ذاك الجمال، فهل يستطيع حقا الوصول الى الإحساس المطلوب بمثل ذاك الوجدان، ليعيد تشكيل الشفرة الجمالية؟ . . الاجابة هنا أيضا متروكة للمتلقي!
استنتاج
إن مهمة المترجم هي أصعب بكثير من مهمة الناقد، لأن عمل الناقد لا يتعدى إصدار تقييم  عن عمل الشاعر، بتحليل القصيدة لمعرفة مواطن القوة فيها من أجل ابراز خصائصها الجمالية، التي ينجذب اليها المتلقي. أما المترجم فدوره أعقد بكثير، لأنه مطلوب منه ضمن مهمته أن يقوم بتحليل بنية النص و تشكيلاتها. أي، بعبارة أخرى، عليه أولا ان يقوم بواجب الناقد، لكي يكون بعدئذ قادرا على نقل كل ذلك الى لغة أخرى، في نص يفترض به أن يكون مقاربا للنص المصدر.
و طالما كانت الغاية من تحليل النص هو التعرف على مضمونه و نتيجته الجمالية، سيكون على المترجم ألا يقوم بدور الناقد فحسب، و أن لا يقوم بدوره مترجما فحسب، و إنما عليه، فضلا عن ذلك، أن يحاول جوازا تقمص دور الشاعر في لحظة يحاول بها إعادة كتابة القصيدة بلغة أخرى. و ها هنا سيحتدم الصراع داخل المترجم، دون ريب،  بين موضوعية تسعى الى تصور التجربة الشعرية مطابقة لما هو موجود في اللغة المصدر و أخرى ذاتية تسعى الى تصور النص الهدف بحلة جمالية لا غموض فيها عند وصوله الى المتلقي. و لكي يحقق هذا، على المترجم أن يحقق صلة بين  الفهم الصحيح للنص و الذائقة الجمالية التي يوحي بها النص. و الذائقة هنا تعني الوجدانيات. و هذه، بوصفها نتائجا لتفاعلنا مع العالم، لا يمكنها دائما أن تزودنا بما نعتمد عليه من معلومات، على الرغم من أن وجدانياتنا، في باطنها، تمتثل على نحو غير مباشر لأوامر صادرة من قوانين عامة تتحكم بجنسنا البشري نوعا.  و مع ذلك، على مترجم الشعر، من ناحية ثانية، أن يكون قادرا فورا على اصدار أحكام تخص الذائقة، بتمييزه للصفات المعزوة للخواص الأخلاقية و الجمالية الموجودة في القصيدة، وما تشير له من تسليم المتحدث في القصيدة بوجود نزوع كامن فيه الى ابراز الوجدان، استحسانا أو استهجانا، الى جانب مجاراته للتداعيات التخيلية التي أتاحت للشاعر، و تتيح للمترجم و هو يترجم، التنبوء بالكيفية التي ستقوم بها تصميماته التخيلية و السردية بتحريك مشاعر متلقي القصيدة.
و ختاما، فـ"إن الذائقة المهذبة عند أي ناقد جيد ستوازن، حيثما يكون مناسبا، بين المسافات النسبية لكل وجوه الشئ موضوع الذائقة. و تصميم الشكل يعد ميزة تساهم في الذائقة، و لا يجوز التركيز على التمييز الجمالي فقط."[14]
و هذا لعمري ينطبق على ذائقة المترجم الى حد كبير!






[1] أنظر "علم الجمال عند الفيلسوف كانت، ص 36 ترجمة أحمد خالص الشعلان / وزارة الثقافة العراقية/ دار السؤون الثقافية العامة 2009
[2] "السبع المثاني" المقصود بها سورة الفاتحة
[3] أنظر موسوعة ستاتفورد للفلسفة "علم الجمال عند ديفيد هيوم"
[4] انظر الشعلان، أحمد خالص "هل يمكن ترجمة الشعر؟" محاضرة القيت في قاعة اتحاد ألأدباء- بغداد / 29 أيلول 2009 ثم القيت في قاعة جمعية المترجمين العراقيين / السبت 23 تشرين ألأول 2010 بطلب من الجمعية و نشرت في جريدة "تكست" الالكترونية العدد المزدوج  11 و 12– المجلد 1-  نيسان 2011 التي يحررها على الانترنيت مجموعة من أكاديمي و أدباء البصرة .

[5] أنظر مونا بيكر "بعبارة أخرى"
[6] نفسه
[7] أنظر  بنهام، دوغلاس "علم الجمال عند الفيلسوف كانت" ص 44 / ترجمة أحمد خالص الشعلان - وزارة الثقافة العراقية/ دار  الشؤون الثقافية العامة - بغداد 2009

[8] أنظر  موسوعة ستاتفورد للفلسفة "علم الجمال عند ديفيد هيوم"
[9] أنظر  بنهام، دوغلاس "علم الجمال عند الفيلسوف كانت" ص ص 37-38/ ترجمة أحمد خالص الشعلان- وزارة الثقافة العراقية/ دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد 2009

[10] أنظر الشعلان، أحمد خالص "بروفروك اليوت و مصير الانسان" (بالانكليزية)، مجلة الترجمة و اللسانيات، مجلة فصلية محكمة العدد 2 تشرين ألأول 2001 – جمعية المترجمين العراقيين /بغداد . . . .  أعيد نشرها مترجمة الى العربية في مجلة الأقلام العدد 1 / 2008

[11]  أنظر الشعلان، أحمد خالص "ترجمة الشعر في التطبيق و الخاصيات الثقافية" محاضرة القيت بالاشتراك مع المترجمة الأكاديمية غيداء الفيصل في سيمنار عقد في كلية اللغات/ جامعة بغداد بتاريخ 12/3/ 2011 ثم القيت في قاعة الاتحاد العام للأدباء في العراق – بغداد بتاريخ 4/7/ 2012 و ستنشر في مجلة الثقافة الجديدة
[12] أنظر موسوعة ستاتفورد للفلسفة "علم الجمال عند ديفيد هيوم"
[13] أنظر  بنهام، دوغلاس "علم الجمال عند الفيلسوف كانت" ترجمة أحمد خالص الشعلان ص 34 وزارة الثقافة العراقية/ دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد 2009
[14] أنظر "موسوعة ستاتفورد للفلسفة "علم الجمال عند ديفيد هيوم" 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق