بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 1 أكتوبر 2016

المشهد الثقافي في بعقوبة أبان خمسينيات و ستينيات القرن العشرين

An essay on Ba’qubah’s cultural memory …
Ba’qubah’s Cultural Scene During the 1950s & 1960s
By: Ahmed Khalis Shalan
مقالة في ذاكرة بعقوبة الثقافية ...
... المشهد الثقافي في بعقوبة أبان خمسينيات و ستينيات القرن العشرين
أحمد خالص الشعلان

بضوء المفهوم المعاصر لـ . . الثقافة . . الذي يعني وجود كتاب و فنانين نشطاء (تشكيليين و مسرحيين و موسيقيين و مغنين و سينمائيين، و مؤرخي فن، الخ) يلقون قبولا عند شريحة واسعة من السكان، و جمهور متعاطف، يتحول تعاطيه مع الثقافة الى عادة يومية، الى جانب مؤسسات ثقافية و فنية معترف بها (حكومية أو غير حكومية) تحيط بالنشاط الثقافي عموما و النشاط الفني خاصة، و تلم الفنانين و المثقفين في منتديات و جمعيات و تجمعات يلتقون فيه بجمهورهم . . أقول:
-    على ضوء مفهوم من هذا النوع . . متى و كيف بدأت، في حقبة القرن العشرين، عملية تشكل . . مشهد فني و ثقافي . .عموما في محافظة  (كانت تسمى "لواء") ديالى، و في بلدة قضاء  بعقوبة، مركز المحافظة حصرا، و ليس في أقضيته و بلداته الأخرى؟
 هذا أمر ليس من اليسير التأكد منه تاريخيا، آخذين بنظر الإعتبار أن البدايات الفعلية العفوية غالبا ما تنوجد خلف ستر بعيدة عن الأضواء، و تنـلـَمُّ نتفة فنتفة في سياق الحراك الإجتماعي.
و في مجتمع كانت غالبية أفراده ترسف في قيود أمية مزمنة . . فإن البديهة تقول أن أي مشهد ثقافي و ما يحتويه من عناصر فنية هو في الأساس نشاط إجتماعي لا يتبلور أو يتجلى إلا بعد أن تؤديه، أو تسنده على أقل تقدير، مؤسسات بارزة الكيان تلبي الحاجات العقلية و الروحية للمجتمع . . من قبيل نقابات و إتحادات و جمعيات و تجمعات (تابعة للدولة أو غير تابعة)، و بخاصة المدارس . . و نقول تحديدا المدارس لأن الكيانات الثقافية غير الحكومية كانت غائبة آنذاك غيابا تاما لأسباب كثيرة:
-     منها ما يخص الدولة و منظومتها التربوية و الثقافية و القانونية بما تبيحه من إنشاء لهيئات ترعى الفن و تعضده أنشطته، و
-     منها ما يخص النشاط و الحراك الإجتماعي الذي يفرز بالتالي من بين ما يفرز نشاطا ثقافيا تتجلى ملامحه بأنشطة فردية شخصية متناثرة و تظل محاولات فردية إذا كان ما ذكرناه في الفقرة السابقة غائبا.
 و مع ذلك . . لا بد للمرء أن يتساءل هنا عن الدور الذي قامت به المدارس آنذاك في هذا الشأن . . ذلك، لأن من طبيعة مناهج المدرسة، منذ تاسست الدولة العراقية أوائل القرن العشرين و حتى وقتنا الحاضر، أن تشتمل على مفردات هي على مساس مباشر بتشكل الذائقة الفنية، من قبيل . . دروس الرسم و الموسيقى و التمثيل، بل و حتى دروس الرياضة لها دور في تشكل الذائقة الجمالية للفرد لأنها تعني بجمال و صحة جسم الإنسان. و على الرغم من أن مفردات الأنشطة الفنية كانت ذات طابع مدرسي تعليمي، فهل لنا أن نسأل:
-     أكان لمثل هذه الدروس اللاصفية، بوصفها اللبنات الأولية لتشكل الذائقة و الوعي الفني للفرد، من دور فاعل في تشكل المشهد الفني و الثقافي العام في مدينة بعقوبة؟ . . و الى أي حد ساهمت المدارس في إرساء لبنات من هذا القبيل كي تكون حجر الزاوية في مشهد ثقافي واعد؟
تبدو الإجابة هنا بالغة الصعوبة . . لأنها تعتمد في هذه المقالة على الذاكرة الشخصية لكاتبها مزودة بالإنطباعات و المشاهدات و المعايشات الشخصية لكاتب هذه السطور و ما حملته ذاكرته مما له علاقة بهذا الصدد!
دعونا نذهب لنرى البذار في ذاكرة السنين . . . فأنا، و الى أقدم حقبة تعود إليها ذاكرتي في ماضي بعقوبة حصرا، و في سن التاسعة، و هي السن التي إنتقلت بها أسرتي، من بلدة المقدادية (شهربان) الى مدينة بعقوبة، وكان هذا عام 1952، و كنت حينها في الصف الثالث الإبتدائي، والتحقت بـ  . . مدرسة بعقوبة الإبتدائية الأولى . . لا أذكر، وحتى إكمالي تعليمي الإبتدائي، أن كانت مدرستي قد قامت بتقديم مسرحية أو تمثيلة أو أدت أي نشاط موسيقي، عدا المعرض السنوي للرسم، الذي كان يعقد سنويا في مدرستي، لمدارس المحافظة ("اللواء" آنذاك) كافة، بما فيها المتوسطة و الثانوية . . و لم يكن في مدينة بعقوبة في تلك الحقبة من المدارس الإبتدائية سوى مدرستان للبنين . . مدرستي و مدرسة ثانية هي  . .  مدرسة فيصل الثاني ("الدبة" بتسميتها الشعبية) الإبتدائية. و للبنات كانت ثمة . . مدرسة واحدة هي . . مدرسة بعقوبة الأولى للبنات . . و مع تلك الإبتدائيات كانت ثمة . . مدرسة ثانوية بعقوبة للبنين . . و مدرسة ثانوية بعقوبة للبنات . . و أضيفت للإبتدائيات . . مدرسة ثالثة أفتتحت عام 1955 إسمها . . مدرسة الخالدية الإبتدائية . . و مدرسة رابعة أفتتحت عام 1957 إسمها . . مدرسة الأمين الإبتدائية . .
كان النشاط الفني في المدارس يومذاك، أيام النظام الملكي، ينحصر في تعلم أناشيد تمجد الملك و أحيانا الوطن في درس يسمونه  . . درس النشيد و الموسيقى . . (كانت الأناشيد تؤدى دون موسيقى طبعا! . . ربما بسبب إفتقار التربية لخريجين مختصين في الموسيقى) . . و في درس الرسم كان التلامذة يُـتركون ليرسموا في مواضيع يطلبها منهم معلم هو الآخر دون إختصاص بالرسم، بل و قد لا تكون له، في الغالب، أية علاقة بهواية الرسم و حرفته، و لكنه يكلف في الغالب بالقيام بمهمة معلم الرسم، أما بسبب حبه هو شخصيا للرسم، أو كأن يكون رساما فطريا، أو قد يُـكلف بدرس الرسم، لمجرد إسقاط فرض أكمال نصابه القانوني من الدروس . . و لم يكن المعلم في أغلب الأحيان ليعلم التلامذة أية مبادئ للرسم نظرية أو عملية، كأن يزود التلامذة بنماذج أو كليشهات على السبورة كي يتدربوا عليها في دفاترهم  لكي يدرب التلامذة عليها . . بل كان المعلم يأتي و يقول . . إرسموا منظر طبيعي . . إرسموا سيارة . . إرسموا قطار . . إرسمو سمكة . . إرسموا كرسي و هكذا . . و حين ينتهي التلامذة من الرسم يراجع المعلم رسوماتهم ليضع لهم عليها تقديرات قيمية حتى دون أن يجري أي تصحيح للرسومات! . . في الواقع كان معلم المذكور يستغل درس الرسم عادة محطةَ إستراحة له من دروسه الأساسية . . و حين يكون الجو صحوا و الهواء عليلا غالبا ما ياخذ المعلم تلامذته الى حديقة المدرسة بحجة رسم منظر طبيعي حيث يضع له كرسيا في شمس أو فئ ليستريح! . . أرسموا الحديقة . . إرسموا وردة أو زهرة!
          و هذا ينطبق أيضا الى حد كبير على درس النشيد و الموسيقى.
و ينطبق هذا أيضا على درس الرياضة . . لأن معلمي الرياضة كانوا جميعا من غير المختصين، إذ لم يكونوا أكثر من لاعبين في الفرق الرياضية لدار المعلمين الإبتدائية (معهد معلمين) و حين يتخرجون و يتوظفون في المدارس يكلفون بتمشية بدرس الرياضة البدنية
          و من هنا . . كانت قدرات التلامذة و مواهبهم الفنية تنمو عفويا دون موجه أو خبير يهتم بهذه المواهب و ينميها و يطورها . . ما يعني من جانب آخر أن أغلب تلك المواهب كانت، دون ريب، تذهب هدرا، و ربما ما تزال تذهب هدرا حتى بوجود معلمين مختصين، بخاصة إذا كان المعلم من نوع يتلقى فتاوٍ تحرم الفن و تسخر منه و  تعده عيبا و نقيصة!
          و هذا التصور ينسحب كثيرا على ما كان يجري، بهذا الصدد، في مراحل دراسية أعلى من الإبتدائية . . في مدرسة ثانوية بعقوبة للبنين (تأسست في أربعينيات القرن العشرين)، مع فارق هو وصول أوائل خريجي معهد الفنون الجميلة للأخذ بتدريس مادة الرسم. و هنا أيضا يأتي واجبه أحيانا أشبه بإسقاط فرض و ليس تفرغا تاما ليقوم به لأنه في الغالب لم يكن من أهل المدينة، بل من بغداد العاصمة . . و من هنا . . فالمدرس يرى أنه يأتي غالبا ليقضي خدمة إجبارية، يعيدونه بعد سنة أو ينيف من حيث أتى! . . و أذكر منهم بهذا الصدد الفنان التشكيلي الصوفي المعروف شاكر حسن آل سعيد الذي ما أن تخرج من معهد الفنون الجميلة، فتوظف للخدمة في ثانوية بعقوبة لمدة سنة في أواسط الخمسينيات، و سكن في البيت الركن مقابل مقنطرة خليل باشا، و إشتغلت في حينها و أنا في العاشرة من عمري مراسلا بينه و أخي الفنان التشكيلي المرحوم علي الشعلان زميل شاكر حسن في المعهد . . و يسري هذا على مدرسة متوسطة بعقوبة التي تأسست أواسط الخمسينيات، فضلا عن دار المعلمين الابتدائية التي تكفلت بتخريج المعلمين، لتلبية حاجة مدارس بات عددها يتزايد بوتيرة سريعة للمعلمين. و هنا علينا أن نثبت حقيقة تاريخية، تخص دار المعلمين، هي الغياب التام تقريبا لما يعد دورا تربويا فنيا و ثقافيا لهذه الدار، بموجب المفهوم الذي ذكرناه آنفا، الذي لو قيض لها أن تقوم بدور من هذا النوع لكان قد وسَّع لتلك الدار أطارها المهني التعليمي الى فضاء أرحب يضفي عليها مكانة ثقافية و فنية مرموقة.
و ظل الحال هكذا في مدارس مدينة بعقوبة و القرى المحيطة بها (الهويدر . . خرنابات . . و شفتة . . بهرز . . و غيرها) حتى سقوط الملكية في تموز 1958!
و أظن أن إستنتاجنا بالإمكان تعميمه/ الى هذا الحد أو ذاك، على ما كان يدور آنذاك في أقضية لواء ديالى الأخرى!
هذا عن الواقع الرسمي لمؤسسات كان يفترض بها تمهيد الأرض لبذار مشهد فني و ثقافي. و لكن ماذا عن الواقع خارج هذا الحيز، في الفسحة الرحبة للناس و اهتماماتهم و ذائقتهم؟
كانت مدينة بعقوبة، أواسط الخمسينيات . . تمور نار السياسية فيها تحت الرماد . . و هي في حالها هذا حال بغداد العاصمة و مدن العراق الأخرى. و كان للأحزاب السياسية السرية (الحزب الشيوعي العراقي و الحزب الوطني الديمقراطي و حزب البعث و ربما غيرها) دورٌ خفي في تنمية حب قراءة الأدبيات و المنشورات الحزبية غايته تنمية ثقافة جماهيرها سياسيا، فجاء الإهتمام بالثقافة عموما حصيلة جانبية لهذا الإهتمام بالسياسة. و هنا أستطيع أن أجزم بوجود قاعدة من القراء النهمين (بإقبالهم على قراءة كتب السياسة و الفلسفة و العلم و الرواية و القصة و الشعر و المسرح) في بعقوبة ذاك الزمان ذات العشرين ألف نسمة، قد يفوق عددهم عدد القراء فيها حاليا و هي تضم ما يزيد على نصف مليون نسمة! . . و دليلي على ذلك أنه الى جانب مكتبة متخصصة ببيع القرطاسية و صاحبها حسب علمي ما يزال حيا هو الحاج  . . فاضل حسين رجيبة . . كان ثمة مكتبتان متخصصتان لا ببيع القرطاسية، و إنما متخصصتين ببيع الكتب الثقافية التي تأتي من كل حدب و صوب، و دكان آخر صغير صاحبه المرحوم . .الحاج جاسم بدي . . يبيع فيه كتبا و مجلات قديمة. و كنت أنا شخصيا أحد زبائنه، أشتري منه روايات أرسين لوبين و طرزان و روكامبل، وأنا في السادس الإبتدائي، مدشنا بها معرفتي بعالم جرّ عليّ أنواعا شتى من المتاعب و المصائب و الويلات، لولا معادلها الموضوعي، و هو المتعة العقلية اللامتناهية التي وجدتها فيه.
و حكاية سيزيف تتكرر، دون ريب، بكر الأيام و الليالي و الأزمنة و العهود! . . و بالذات في هذه الديار، حيث على المثقف، و خاصة الفنان، أن يحمل صخرة الذائقة الجمالية لكي يصل بها الى ذروة وعي الناس، و لكنه، و هو يشارف على بلوغ القمة، نراه سرعان ما يسقط، هو و الصخرة سوية، متدحرجا الى أسفل الوادي، لكي يعيد الكرّة! . . ما يعني أن غياب النشاط الثقافي الجمعي آنذاك، من ناحية ثانية، لا يعني أن الأرض كانت واد ليس ذي زرع لم يكن يجري فيها ماء أو بذار، لما يُـمكن أن يتجمع يوما ما، ليكون روافدا يتشكل منها مشهد ثقافي يجمع عناصره الفنية في مفهومه المعاصر الموحد . . فبذار من هذا النوع كان يجري متناثرا بعيدا عن الأضواء على الرغم من تواضعه.
و نستطيع أن نقول هنا و دون تردد ان المبادرات الفردية كانت هي حجر الزاوية . . كانت هناك، في بعقوبةِ العهدِ الملكي، إرهاصات شاخصة في المدينة على أمكانية تـشكـُّلِ مشهد ثقافي من نوع ما . . و كانت من نوعين:
-    إرهاصات و الذي كان بد له آخر الأمر أن يفرز بنية فوقية تتبوأ فيها الفنون و الآداب موضوعية . . تتمثل بالحراك السياسي الإجتماعي المتواصل، بكل تناقضاته و صراعاته مكانة لائقة. أراد كل طرف في ذلك الصراع، ترويجا لأيديولوجيته دون ريب، أن يعبر عن نفسه ثقافيا و فنيا بطريقة ما . . و إذ قيل الكثير في هذا الصدد، تنظيرا و إجتهادات شخصية، أجدني في غنى عن تكراره؛ و
-         إرهاصات ذاتية و فردية . . لم يتطرق أحد اليها بحسب علمي إلا لماماً.
و من هذا النوع ألأخير:
الإرهاص الأول . . صحيح إني لم أسمع ،طيلة تلك الحقبة، بوجود فرقة مسرحية في بعقوبة، و لا فرقة موسيقية أيضا، تقدم أي منهما أداءً أو عرضاً يحضره جمهور. لكن المفارقة الصارخة، قياسا بزمن أرض اليباب الثقافي الحالي، هي وجود دارين للعرض السينمائي في بعقوبة أيام زمان هما . . دار سينما ديالى و أصحابها من اليهود  . . ناجي و أخوه يهودا . . الذين نجوا من فرهود بغداد 1942 و فروا الى بعقوبة ليؤسسوا مصالحهم من جديد في المدينة . . و كنت أنا شخصيا أرى يهودا أو أخاه ناجي يقف أحدهما في باب السينما حين كنت أرتادها و أنا يافع . . و دار السينما الأخرى  هي سينما النصر لصاحبيها أحمد حسك و حسن الزيدي، و هما من أعيان بعقوبة! . . كانت هاتان الداران تسعان سوية لما لا يقل عن خمسمائة متفرج كل ليلة (ليتخيل السامع و القارئ!) في مدينة لم يكن عدد سكانها يزيد عن نفوس أية قرية كبيرة من قرى هذه الأيام! . . داران للسينما لم يكن وجودهما آنذاك يمثل علامة ثقافية هي الأكثر بروزا على الإطلاق فحسب، بل و كانا مثالا صارخا يطل من الماضي فخورا بوجه الحاضر الآسن الملئ بقذارات و ترهات و خرافات تتوالد يوميا مثل الطحالب و تلتهم عقول الناس بحيث بات أغلب الجمهور العراقي بلا عقل!
          و إذ أحسب وجود تلك الدارين آنذاك إرهاصا . . ذلك لأن الذهاب الى السينما كان يومذاك تقليدا محصورا بطبقة معينة من أهل المدينة فحسب، و أنما كان أيضا تقليدا لشرائح المجتمع كافةً (أغنياء و فقراء . . متعلمين و أميين . . موظفين و أصحاب مهن و حرف و أكثرها دلالة . . رجال و نساء من كل الأعمار!)، ما يعوضهم جميعا عن غياب المعرض التشكيلي و العرض المسرحي و حفل الأداء الموسيقي النغمي، ليتفرجوا على آخر ما تنتجه ستوديوهات الأفلام في هوليوود و روما وباريس و نيودلهي و القاهرة . . و المفارقة المدهشة هنا، أنه و بسبب غياب وسائل الدعاية المرئية و المسموعة آنذاك، كان لكل دار عرض . . عربنجيا . . يطوف المدينة عصرا بعربانته الربل تحمل بوستر الفلم المعروض . . و كان هذا العربنـﭼـي، هو بشخصه، ظاهرة تلفت الإنتباه، أحدهما ماهي العربنــي و كان يقلد حركات و أسلوب اسماعيل يس، و الآخر إبراهيم عيادة العربنــي و كان يقلد طريقة إلقاء عبد الفتاح القصري، و هذان إسماعيل يس و القصري هما ممثلان كوديديان مصريان!
          و مع أنه لم يكن في الامكان أبدع مما كان! . . أقول . . يا لفقر حاضرنا!
          و مثالي الشخصي على إعتبار السينما في المدينة إرهاصا فنيا بارزا يعد آنذاك مؤشرا ثقافيا، هو أني، و أنا طفل صغير، تعرفت حالي حال كثيرين غيري، على الموسيقار فريد الأطرش و الموسيقار محمد عبد الوهاب و الموسيقار ريتشارد فاغنر و الموسيقار فرانز ليست، من طريق السينما، مثلما تعرفت على حضيري أبو عزيز و رضا علي، و زكية جورج من الراديو و الكرامافون. و تعرفت هناك على شاشة السينما أيضا على بعض أعمال طه حسين و توفيق الحكيم و وليم شكسبير و تنسي وليامز و  وليم فولكنر و إرنست همنغواي، و العديد غيرهم من الفنانين و الروائيين العالميين!
الارهاص الثاني . . حكاية أمير القيرواني التي كانت حكاية بكل ما تحمله مفردة حكاية من دلالات!  . . إذ صحيح أنه لم تكن ثمة أمكنة تعقد فيها ندوات شعرية أو معارض للرسم، فأنا لا أنسى أبدا شخصية . . أمير القيرواني . . ذاك الأوتــي الرسام الذي كان دكانه (ملاصقا لمرقد السيدة المؤمنة مقابل العيادة الشعبية الحالية في بعقوبة) ليس ببعيد عن دكان أبي . . كان القيرواني رساما و نحاتا فطريا، يقلد في رسمه، ما علمت فيما بعد أنه، لوحات كبار الرسامين العالميين، و يعلقها على واجهة دكانه بإنتظار المتفرجين الذي قد يصادف بينهم شاريا . . و كان يظل بإنتظار الشاري مثل انتظارنا الحالي لغودو الذي لا يأتي أبدا!
(من اليمين) حمودي الحارثي  و سليم البصري و عمانوئيل رسام و أمير القيرواني
         
كان دكان ذاك الأوتــي و الرصيف الذي أمامه . . و تراني الآن أتخيله بعد مرور حوالي ستة عقود، فضلا عن أنه كان بالإمكان آنذاك أن يكون نواة (لكنها للأسف بذرة لم تنفلق قط!) لصالون فن تشكيلي، و تكون في الوقت نفسه بذرة صالون أدبي مصغر، إذ كان ذاك الرصيف يعج يوميا تقريبا بعدد من ناظمي الشعر أو قرّائه، و الكتّاب الهواة الشباب، و قارئي الكتب من كل لون، يقرأ بعضهم لبعض مما يكتبون، و معهم جمهور صغير جدا من أصدقاء هذا الأوتــي من المتعلمين و الدارسين الشباب. و لأن اللوحات التي يقلد رسمها هذا . . الأوتــي الرسام . . كانت في الغالب لوحات عري (وكأنه كان يريد أن يفقأ بها عين أحد ما! . . أو يستفز أحد ما!) مأخوذة من الموديلات التي رسمها رسامون عالميون،  لم يكن ليسلم من لسان و سباب أولئك الذين ينصبون أنفسهم، في كل الأزمان، أوصياء على الفضيلة مجانا.
          و حصل يوما ما أن أتاه . . و الجمهور عنده، أحد أعيان بعقوبة، و كان أخرسا، و ظل يقوم بحركات تنضح عصبية و غضبا جامحا (و كأنه يريد أن ينتقم لخرسه من أمير القيرواني!)، مشيرا آخر الأمر نحو جسد إمرأة في لوحة تجمع نساء أخريات بأجساد عارية (علمت فيما بعد من أخ لي، فنان تشكيلي، أنها . . لوحة المستحمات . . الشهيرة عالميا، و سرعان ما أمسك الأخرس بخناق الأوتــي الرسام، و إنهال عليه ضربا و لكما من يديه القويتين (والخرس يتميزون عادة ببنية قوية تعوضهم عن ذرابة اللسان!)، فأدماه، دون أن يتحرك أحد لنجدته من جمهوره الأدبي الجالس على الرصيف أمام دكان القيرواني، خوفا من بأس العين البعقوبي الأخرس، علما ان الأوتــي كان، بأريحية منه، يسقي ذاك الجمهور شايا على حسابه من مقهى غنيم السامرائي المجاورة . . و علمت، بعد أن إنفضت المعركة، ما فهمت منه بأن الأخرس وجد في اللوحة موضوع النقاش جسد إمرأة يشبه تكوين جسد زوجته، ما ظنه إنتهاكا لحشمة زوجته أولا و للآداب العامة ثانية. هذا، إن لم تكن أوهامه قد قادته الى تصورات هي أفحش و أسوأ، غطى خرسـُهُ الإفصاح عنه!
 و بعد أن أنخذل الأوتــي الرسام بجمهوره المثقف الجبان هذا الخذلان . . كانت هذه الحادثة هي الفصل الختام لذاك الإرهاص لإنبعاث أول صالون فني أدبي محتمل في مدينة بعقوبة، لو كان قيض له أن يتمتع بمناخ مناسب. أتى كل ذلك على نافوخ أمير القيرواني، حسبما أذكر، و أجواء حرب السويس 1956 ما تزال ماثلة و المدينة تعج بالإضطرابات و المظاهرات المناوئة للحكومة، فأغلق أمير القيرواني دكانه. و هكذا إنغلق صالونه المفتوح و هو ما يزال بذرة، و غادر مرتحلا بعد أسابع الى بغداد. و جاءنا خبره من هناك بعد التغيير الذي حصل في 14 تموز 1958 بوصفه أحد أوائل و أشهر رسامي البوستر السياسي الذي يحمل صورا كبيرة لعبد الكريم قاسم توضع في الساحات العامة. و ظهر أيضا في السبعينيات على شاشة التلفزيون ممثلا في برنامج  . . تحت موسى الحلاق . . مع المرحوم سليم البصري و حمودي الحارثي. و من الجدير ذكره هنا هو أنه بعد أسبوع من حادثة الإعتداء عليه كانت نسخة . . لوحة المستحمات . . التي رسمها القيرواني، مثلما علمت، هي اللوحة الأولى و الأخيرة التي باعها أمير القيرواني من بين لوحاته الأخريات التي كان يعرضها على باب دكانه. و كان المشتري مركـِّب أسنان (يسمونه "حمزة أبو اسنان")، و كانت عيادته قرب قنطرة خليل باشا، إشتراها مثلما راج آنذاك نكاية بذاك العين البعقوبي الأخرس! . . لم إشتراها؟ . . لا أحد يعلم! . . و ذهبت اللوحة و ذهب سرها معها!
فطوبى لذاك الذي إشتراها . . أية كانت دوافعه و حتى لو كان في تلك الصفقة ما يريب! . . لم؟ . . لأنه ربما كان أول من يشتري لوحة لرسام في تاريخ بعقوبة إرهاصا لمجتمع يحب الفن!
الارهاص الثالث . . . كان وجود النساء الملايات، اللاتي يعزّين النساء الثكالى في مآتم أعزائهن، إرهاصا فنيا و ثقافيا من نوع ما، إذ تتحول  الواحدة منهن بيسر كبير، مثلما تفعل الممثلات حين يتقمصن دورا، الى فرقة غناء مصغرة تروح في الأفراح تطرب النفوس بغناء يرتقي بأرواح النساء المحبوسات وراء الحجب. و مع أن عمل الملايات ذاك كان يعد، بمعايير ذاك الزمان، فحشا بنظر البعض من الرجال الذين سمعوا ذاك النوع من الغناء أو سمعوا عنه، و لكنه مقارنة بما يقوله كاظم الساهر هذه الأيام  . . يللي دلالك زايد/ وياي ليش معاند/ هي ستمية بوسه/ كلشي منك ما رايد! . . و لكن تبين بمرور الأيام إن غناء تلك الملايات كانت له ذائقة ترتقي كثيرا فوق الغناء المبتذل المتداول هذه الأيام!
أولم تكن المطربة المشهورة . . صديقة الملاية . . قد غنحدرت في أوائل و أواسط القرن العشرين من وسط من هذا النوع، و ظلت تلقب حتى في الإذاعة بـ . . صديقة الملاية! . . و من هذا الطراز من واهبات المسرة، بعقوبة كان لها بإمتياز . . مائدة الملاية!
          أقول مع وجود تلك الملايات، المطربات الفطريات، اللاتي لا يختلفن كثيرا عن الرسامين الفطريين، إلا أن على المرء في مدينة بعقوبة ألا ينسى . . خليلو . . (إسمه خليل و أطلقت عليه هذه "البوـة" إستصغارا و ليس تصغيرا لغويا لغرض التدليع مثلما سنعرف!) . . و ها هناك كان لدينا فنان فطري، و هو ذاك الشاب اليافع الذي أضطر لمغادرة قريته في أطراف . . ناحية أبي صيدا . . بعد أن لفظه ذووه، سفاهة منهم لتسفيهِهِ، بسبب شغفه بالفن، غناء و تمثيلا و رقصا، و هو بعد لم يبلغ العشرين . . جاء خليلو الى مدينة بعقوبة، و روحه تتطلع الى وعاء يسكب فيه فنه، فخاب ظنه إذ لم يجد ذاك الوعاء! . . فراح يجوب سوق المدينة و درابينها يغني و ينكت و يبعث المسرة في نفوس الباعة و أهل الدكاكين. و لم يحتج لطولِ وقتٍ كي يتقبله الناس. ذلك، لسبب بسيط طالما غاب عن ذهن معاصريه ممن أرخ لتلك الحقبة إن وجدوا، و هو أن الوعي الاجتماعي، الجماعي و الفردي، كان يتشكل، آنذاك، تلقائيا و طبيعيا، دون قسر، و دون أن يتعرض هذا الوعي لإخافة ببعبع من نوع ما يأتي من ظلامات قيعان القرون، ليثير الرعب في نفوس الناس من الإستمتاع برحلة الحياة.
رأيت أنا  . . خليلو . . لأول مرة عند دكان أمير القيرواني، المار ذكره، و كانت هي أيضا، ربما، المرة الوحيدة التي التقى بها خليلو بأمير القيرواني و جمهوره، قبل أن يغلق الأخير دكانه و يترك البلدة الجاحدة التي اراد أن يشيع بها شيئا مختلفا و جديدا . . لكن المدهش في الأمر هو أن حادثة أمير القيرواني مع ذاك العين البعقوبي الأخرس، الذي هتك القيرواني، دون أن يدري، سر تكوين جسد زوجته، لم تـَفـُتَّ في عضد  . . خليلو . . أو تترك عليه أثرا يخيفه من جمهور بعقوبة، غذ كان حبه للفن أقوى بكثير من خشيته و خوفه من العواقب. إلا أن ما إكتـَشَفـتـُهُ فيما بعد، عن قرب، من شخصية . . خليلو . . هو أنه كان ذكيا و فطنا، و قد عرف منذ البداية من أين يؤكل الكتف، و هو إدراكه أن الدخول الى قلب مدينة بعقوبة الجمعي لا يمر بسوق بعقوبة، بل يمر من خلال قلوب النساء الصبايا و الأمهات و الجدات الجالسات في درابينها الضيقة عند أبواب بيوتهن!
          راح خليلو أول الأمر يتقرب اليهن . . بالتظاهر بأنه مخنث يفتقر الى الرجولة التي عند باقي الرجال، لكي يشيع طمأنينة في قلوبهن تجاهه و تجاه نواياه، كي لا يكن موضع نقد من رجالهن! . . و المفارقة هنا هو أن ظاهره الجسدي كان يصرخ بعكس ذلك، فقد كان يبدو أحيانا و كأنه قرد كثيف الشعر ملئ بالرجولة  و الفحولة!.
          كيف إستطاع خليل أن ينفذ الى قلوب النساء؟ . . هذا أمر إعتمد كثيرا على فطنته و فطرته.
راح خليلو يجلس مثلهن . . و يتحدث مثلهن . . يقلدهن بكل شئ! . . و يؤدي أمامهن أدوارا ثمثيلية و غنائية قصيرة، يقلد فيها أحداهن، فيرحن الأخريات يفطسن من الضحك . . و يقوم بتقليد الأخريات، واحدة فواحدة، لكي لا يسبب لإحداهن زعلا، و كأنه ذاك المهرج الذي يعرف كيف يسخَرُ من الملك بإماتته من الضحك! . . و بعد أن ينتهي يجمعن له ما يتيسر بعملة الآنة ( و هي عملة معدنية من الفضة تساوي أربعة فلوس بعملة تلك الأيام). و يمضي الى دربونة أخرى . . و أخرى . . و أخرى . . و هكذا كان في آن يشبع حاجته للفن و يجمع رزقه. و صحيح أن بعض العجائز كن ينفرن منه، إلا أن صيته سرعان ما ذاع، و راح البعض منهن يدخلنه بيوتهن و يطعمنه، و يدعوّنـَّه في مناسبات أفراحهن. و بصوته القوي الصادح المعبر، و إن كان فجا أحيانا، و لكن المدهش أبدا، إذا أخذ بميزان عام (الذي لا يقل بقيمته الفنية عن صوت أي مطرب مشهور في ذاك الزمان!)، صار خليلو المنافس الوحيد و الخطير لكل مُليّات تلك الحقبة!
-         بم كان خليلو ينا فس المليّات؟
 بقدرته المدهشة على الأداء المنوع الذي لا يُشقُّ له غبار، فهو: المطرب و المغني و المهرج و الممثل المتقمص، المواسي للحزانى من النساء و الممتع للفرِحات منهن في آن. و هو نبوغ لم تستطع أن تجاريه فيه أية ملاية من الملالي. فضلا عن قدرته الفطرية العجيبة لمعرفة عشرات أنواع الأمزجة لأهل البيوت التي دخلها. كل بيت يخاطبه بالمزاج الذي يرتاح إليه.
 ألا يعد هذا بالذات فنا من الفنون، و أعني أن يحزر المرء مزاج الآخر و يهبه ما يريد!
و بأسى عميق شكى لي خليلو مرة قائلا:
-    من يجيبون طاري عفيفة إسكندر لو زهور حسين يــولون . . الفنانة عفيفة اسكندر . . الفنانة زهور حسين . . لكن من يجيبون طاري خليل يــولون  . . خليلو الشعار!
("شعار" بمعناها الشعبي تطلق على إنسان به خفة و تستعمل للإنتقاص و ليس للأعجاب!).
كان في نفسي أن أرى خليلو مرة ساكتا . . و لكن هيهات! . . إذ لم أره مرة إلا و هو يؤدي! . . و حصل مرة، أثناء ستينيات القرن العشرين، و كنت أنا عائدا الى بعقوبة متعبا من عملي ظهيرة يوم من عام 1965 من بلدة المقدادية، حيث كنت معلما، و صادف أن كان خليلو معي في الباص الخشبي نفسه عائدا بعد جولة في المقدادية (محاولة منه في بسط صيته الى بلدات أخرى)، فقلت له:
-    إسمع خليلو، آني تعبان و أريد شوية أنام، إذا سكتت لغاية أن نصل بعقوبة، راح أدفع أجرتك و أنطيك فوكاهه ربع دينار! . .  صار؟
كان ربع دينار ذاك الزمان مبلغا مغريا عنده قياسا بالدرهم أو العشرة فلوس التي تُعطى له . . رد عليّ أمام هذا ألاغراء:
-          صار . . أبو شهاب!
و سكت خليلو . . و حاولت أنا أن أغفو، و لكن هواجسي منعتني من التنعم بإغفائة، ربما لأني أعلم أن خليلو قادر على كل شئ إلا السكوت لمدة دقائق، فكيف و قد طلبت إليه أن يسكت لمدة أكثر من نصف ساعة و هو وقت الوصول الى بعقوبة! . . جعلني هذا الأمر أتصرف مثلما ينام الذئب . . ينام بإحد مقلتيه و يتقي بالأخرى المنايا فهو يقظان نائمُ . . أفتح عينيّ فضولا لأصطاد ما هو متوقع من خليلو . . في كل مرة أفتح بها عينيّ كنت أراه مادا رأسه عبر شباك الباص يحرك شفتيه يغني صامتا للريح، و كأنه ممثل بانتومايم، فتأخذ الريح معها شيئا من نفسه و من روحه التواقة للغناء والفن، فيروح جمع الركاب، معلمين و جنود، يضحكون بصمت، إحتراما منهم هم الآخرين لشرطي معه! . . و حين صار الباص قريبا من بعقوبة، و أنا ما أزال مغمضا عينيّ الإثنتين، ضاق خليلو ذرعا بصمته و لم يطق عليه صبرا، فسمعته يصرخ:
-    إسمع أحمد شعلان . . انحصرت روحي! . . ـلبي راح يط . . آني بطلت من هذا الإتفاق . . و عندي إستعداد أدفع لك غرامة بالمقابل!
و هنا فتحت عيني . . و سألته بفضول:
-         خليل . . و شني هذي الغرامة اللي راح تنطيهه؟
رد قائلا:
-         آني أدفع أجرتك و آني أنطيك ربع دينار من عندي . . بس خليني أغني عيني . . روحي راح تط!
ضج الركاب في حينها و أنا معهم بضحك صاخب . . و لكني لم أخذله بسبب حبه للفن، و آخر الأمر وهبته ما وعدته به، عدا ما حصل عليه من بعض الركاب الآخرين مقابل المسرة التي قدمها لهم طيلة الطريق!
ظل خليلو بالدشداشة التي بقيت زيه الوحيد، لغاية مماته وحيدا، في نهاية التسعينات . . و ظل ديدنه طيلة حياته إدخال المسرة على قلوب الآلاف من الناس، ظاهرة فنية فطرية و مؤشرا ثقافيا عفويا، إن جاز لنا القول، يجوب مدينة بعقوبة و البلدات و البليدات الأخرى المنتشرة في خارطة محافظة ديالى . . و على الرغم من أنه فقد الكثير من بريقه بسبب التوسع الهائل الذي حصل في المدينة و ما رافقه، بعد ظهور التلفزيون، من بروز لظواهر و قنوات ثقافية حديثة متنوعة و متعددة. إلا أنه كان حتى في مماته فريدا، إذ صُعق الناس جميعا بالثروة التي جمعها نتفة نتفة، و تركها لذوي السفاهة من أهله ممن نبذوه من أصحاب الفضيلة . . لأنهم لم يشعروا بالخزي حين إستلموا ميراثه الذي جمعه من فنه! . . و صدق القائل . . يحصد السفيه غلة يتعب بها الحليم!
ما حصل في 14 تموز 1958 كان حدثا مجلجلا عالميا و عاصفا محليا، لدرجة أن رئيس وزراء بريطانيا آنذاك صرح قائلا . . لقد فر الآن من أيدينا الحصان الرابح في الشرق ألأوسط! . . و هو بعبارة "الحصان الرابح" لم يقصد أهل العراق، إذ لا شأن له بأهل العراق (مثلما سيحصل فيما بعد في 2003 إذ لم يأت الغازي الأمريكي أيضا لسوادعيون أهل العراق)، و إنما قصد ثروات العراق!
و مع أن ما حدث في 14 تموز في بنيته العميقة كان، برأي البعض، قطعا تعسفيا لتطور إجتما- سياسي كان يجري طبيعيا، و لو كان قيض له الإستمرار في مسيرته الطبيعية لكان من المحتمل أن يفضي الى طريق يجنب العراقيين الكثير من المصائب، إلا أن ما حدث في 14 تموز 1958 في الظاهر كان ذا تأثير هائل في المجتمع العراقي، فإنعكس على ذائقة العراقيين و شهيتهم للكتابة و القراءة، و تمثل ذلك في بغداد العاصمة بببروز المشهد الفني- الثقافي بروزا لافتا، تعزز بالظهور الأول للكيانات و الأنشطة الثقافية بمختلف أنواعها و مستوياتها (مطبوعات، فرق مسرحية و فنية، معارض تشكيلية، منظمات ثقافية، شخصيات فنية و ثقافية بارزة يشار اليها بالبنان)، إلا أن تلك الأنشطة و الشخصيات تأثرت أغلبها بالصراعات و التحزبات و الإنقسامات السياسية التي تلت 14 تموز 1958، مستفيدة من  هامش الحرية الموهومة غير السوية الذي أوجده ذاك الحدث.

و مع ذلك . .  فإن مدينة بعقوبة لم يتبلور فيها للأسف شئ مماثل و موازٍ لذاك المشهد إلا النزر القليل جدا، على الرغم من أن قاعدة القراء فيها إتسعت توسعا هائلا، بل و سخنت و إلتهبت لدوافع، كانت في الغالب سياسية و ليست ثقافية خالصة. فقد ظلت المدينة دون أنشطة ثقافية بارزة، بسبب إنشغال الناس، بخاصة المثقفين، بالسعار السياسي الدائر. غير أن هذا لا يعني أن المدينة كانت خالية من أناس يهتمون بالثقافة لدوافع ثقافية في المقام الأول.

و كان البذار الثقافي، من ناحية أخرى، يجري من لدن أفراد تأثروا بالفسحة التعليمية التي توفرت بعد 14 تموز 1958 و ما أتاحته من فرص، تمثلت بذهاب عدد من أبناء المدينة للإلتحاق بالمعاهد الفنية و الثقافية في العاصمة، بخاصة معهد الفنون الجميلة. إلا أن حصاد هذا البذار لم يظهر إلا في أواسط ستينيات القرن العشرين و أواخرها، بسبب الأحداث السياسية الدراماتيكية التي أوجدها الانقلاب السياسي الفاشي الذي حصل في 8 شباط 1963، الذي حمل البعثيون و القوميون الى السلطة، و ما تلاه من خنق للثقافة . . حبس للفنانين و المثقفين اليساريين و الوطنيين عموما . . و تبعه إنحسار حتمي، في عموم البلد دون استثناء، للإنتعاش الفني- الثقافي الذي أوجدته أجواء 14 تموز 1958. و أشرَّ ذلك الحدث دخول الفن و الثقافة في ليل يشبه ليالي القرون المظلمة. و كان لا بد لهذا الليل الطويل في النهاية من آخر! . . و بمجئ إنقلاب 18 تشرين 1963، الذي قاده القوميون المستاؤن من سياسات البعث و إستفراده في القرار السياسي، حصل في المشهد السياسي تغييرا إنبساطيا نسبيا، تمثل بإطلاق سراح الآلاف من المعتقلين في عموم البلد و منه مدينة بعقوبة، و كان للمثقفين حصة في موجة الإفراج عن المعتقلين.

و كأن الثقافة جرثومة تنمو ما أن تجد الجو المناسب . . و بعد إطلاق أسراب المثقفين من المعتقل، لاحت في أوائل النصف الثاني من عقد الستينات أمارة نهوض ثقافي، إذ بدأت الحياة تدب من جديد، و إن بطيئة، في المشهد الفني الثقافي، بعد ذاك القطع التعسفي لمسيرة المجتمع. و بدأ حصاد البذار الثقافي المذكور آنفا تظهر طلائعه، متمثلا بعودة فريقين، الى بعقوبة، ممن يصلحون أن يكونوا نواة لمشهد فني - ثقافي قادم و هما:

-         الفريق الأول . . هم الطلبة الذين قبلوا في المعاهد الثقافية في العاصمة، و

-     الفريق الثاني . . هم الفنانون و المهتمون بالنشاط الثقافي الذين كانوا منفيين خارج المحافظة أو الذين أطلق سراحهم من السجون، و كان بين اولئك مثقفون ممن طلبوا هو أنفسهم بمحض إرادتهم نفيا ذاتيا من محافظتهم الجنوبية الى بعقوبة بسبب قربها من بغداد العاصمة.

ضمن الفريق الأول . . كان خريجون من معهد الفنون الجميلة . . إثنان منهم في قسم المسرح، صارا فيما بعد رائدي المسرح في بعقوبة هما: ثامر الزيدي (المغترب حاليا) و سالم الزيدي (الموجود حاليا في بعقوبة) . . و من الفانين التشكيليين: حسن فليح (مات فيما بالسرطان و هو في سن مبكرة) و عبد الله الصباغ، و علي الطائي و المرحوم خضير الشكرجي، و مذاك الوقت لم يتوقف تزود المدينة بخريجين سواء من معهد الفنون، أو من أكاديمية الفنون الجميلة التي كانت قد رفدت المشهد الثقافي في العراق عموما بأولى وجبات خريجيها.

و تمثل الفريق الثاني . . بوصول نخبة من المثقفين الى بعقوبة بعد إطلاق سراحهم من المعتقل . . سليمان البكري (معلم في الأصل من المقدادية . . يكتب نقداً) . .الكاتب المسرحي و الفلكلوري حسين الجليلي (معلم إبتدائية جاء نفيا ذاتيا من الناصرية) نُسب موظفا في مديرية التربية في ديالى . . الكاتب المسرحي المعروف محي الدين زنكنة (جاء نفيا من كركوك) و نسب مدرسا للعربية في إعدادية بعقوبة . . عبد الأمير الحبيب (جاء نفيا من بغداد . . كاتب قصة قصيرة) و نُسِّب مدرسا للرياضيات في متوسطة أبي صيدا . . الكاتب حسب الله يحيى (جاء نفيا من الموصل) و نُسِّب للعمل في النشاط الفني لمديرية تربية ديالى . . و لربما كان قد وصل غيرهم ممن لم نتعرف عليه آنذاك.

كان المشهد الثقافي آنذاك و تحديدا حوالي النصف الثاني من العام 1967 و النصف الأول من عام 1968 يتشكل من الروافد التالية:

1-    بروز بوادر حركة مسرحية واعدة تمثلت بتشكيل فرقتين مسرحيتين هما:

-    فرقة مسرح بعقوبة . . شكلها المخرج ثامر الزيدي بالتعاون مع المرحوم عبد الخالق جودت الذي كان يعد المؤلف المسرحي للفرقة (بتعريب و تعريق المسرحيات العالمية و المصرية) . . و كان من بين ممثلي الفرقة سعدون شفيق الكاتب والاعلامي المعروف حاليا . . عقيل عباس أمير القندرجي . . إبراهيم أحمد  ابو البوريات . . سعدون مراد . . و غيرهم.

-    فرقة مسرح المجددين . . أسسها سالم الزيدي. و لنا لها عودة  في تفاصيل لها علاقة بشخصية سالم الزيدي الرائدة.

2-  مع وجود الفنان التشكيلي ناظم الجبوري، الذي صار رساما بمواهبه الشخصية . . و كان معاصرا لأمير القيرواني المار ذكره . . برزت حركة تشكيلية تكونت تقريبا من الفنان التشكيلي حسن فليح ( وافته المنية مبكرا بمرض السرطان) و علي الطائي و خضير الشكرجي (الذي أحتفظ أنا شخصيا بلوحتين من أعماله المبكرة)  . . و نمت هذه الحركة و تعززت فيما بعد ببروز عدد من التشكيليين الآخرين و منهم خريجين من معهد الفنون و أكاديمية الفنون، صاروا فنانين بارزين مثل شنيار عبد الله و آخرون . . و ما هيأ لحسن فليح لأن يكون نشاطه التشكيلي بذرة صالحة لحركة تشكيلية في ديالى هو كونه، في الوقت نفسه، مصورا فوتوغرافيا.

3-  بروز حركة للتصوير الفوتوغرافي كان يقودها منذ الخمسينيات المرحوم علي حسين مطر (صاحب ستوديو الأمل) أقدم مصور فوتوغرافي، و  كان شاعرا و أديبا و حاديا مفوها في المواكب الحسينية . . و تعززت هذه الحركة ببروز مصورين آخرين، بخاصة مجئ جاسم الزبيدي (صاحب ستوديو ميسلون) الى المدينة، الذي سيصير بعدئذ واحدا من أبرز المصورين الفوتوغرافيين في العراق.

4-  و قد لا يكون قد تطرق أحدُ من قبل قط الى دور حسينية بعقوبة آنذاك في رفد المشهد الثقافي في بعقوبة بشعراء و أدباء شباب ما يزال بعضهم ينشط في المشهد الثقافي الحالي، برعاية من رجل الدين المتنور المرحوم السيد عبد الكريم المدني (الذي كان هو نفسه ظاهرة ثقافية حين كان يرفع آذان الفجر بصوته الذي تجتمع فيه جميع مواصفات الذائقة الجميلة و النبيلة، لدرجة إني، بمفارقة مدهشة، طالما ظننت حين كنت اسمعه يرفع الآذان، بأن ريمسكي كورساكوف لم يكن ليؤلِف سيمفونيته الذائعة الصيت . . شهرزاد . . لولا إستماعه للسيد المدني يرفع ألآذان فأوحى له بتأليف تلك الألحان الرائعة الجميلة الجليلة، مع علمي بأن كورساكوف كان قد سبق المدني بما يقارب القرن زمنا!) . . و ما يدهش في شخصية المدني أنه كان رجل دين من النوع الذي لم يبع دينه يوما لترهات السياسية، التي ينشغل بها غيره هذه الأيام، فيسفوِّا و يُسفـَّهوا، و كان أحد أبرز هؤلاء الأدباء الشباب الذين خرجتهم حسينية بعقوبة، الشاعر قاسم عباس أمير القندرجي، و الشاعر عبد الحليم المدني، و غيرهم.

5-   زمرة الأدباء اليساريين . . و هي التسمية التي كان يطلقها الكثيرون على مجموعة فنانين و كتاب هم: سليمان البكري و حسين الجليلي و محي الدين زنكنة و عبد الأمير الحبيب و كاتب هذه السطور)، بخاصة حين كانت المجموعة تلتقي في مقهى المرحوم مجيد محسن، التي كانت تسمى . . مقهى الشبيبة . . و ما تزال موجودة حتى اليوم. و إستمرت المجموعة بلقاءاتها التي كادت أن تكون يومية في المقهى (دون سليمان البكري في أغلب الأحيان فيما بعد، بعد عودته الى المقدادية)، للإطلاع على آخر ما كتبوا، أو تجتمع الزمرة في دار حسين الجليلي الذي كان يستقبل أفرادها في بيته يومين في الأسبوع على الأقل، على شكل صالون أدبي . . و كان ثمة آخرون خارج هذه الشلة، مثل المعلم المربي و الكاتب المثقف عبد العزيز المعموري . . و المدرس عبد السار خماس. و كلاهما من منطقة أبي صيدا.

أحمد الشعلان و سليمان البكري

أما كيف إلتقت أغلب هذه الروافد، التي كان مفترضا بها أن تكون بداية فرزٍ أولٍ لمشهد فني- ثقافي، مثلما هو متعارف عليه الآن، في تاريخ مدينة بعقوبة، فهذا يعود الى الشخصية الدينامية لسالم الزيدي (إبن طيب الذكر  . . الملا حسين . . مؤذن جامع الشابندر) . . فهذا الرجل كان صاحب مبادرة في رسم بدايات لمختلف الأنشطة الفنية و الثقافية . . و رأيي هذا به لم يأت جزافا، لأني أذكر جيدا مبادرته الثقافية الأولى، و نحن  ما نزال صبيين . . كنا في الصف الثاني المتوسط عام 1959، حين إلتفت الزيدي مرة، و نحن عائدان من المدرسة، الى دكان أبي المغلق (كان في الأصل الدكان الذي تركه أمير القيرواني، فأجره أبي مخزنا)، و كان فارغا، و سألني بجرأة تخلو من المزاح، إن كان أبي يرضى أن يعطينا الدكان ما دام فارغا لنؤسس فيه فريقا لكرة القدم. و جرى الأمر مع أبي مثلما أراد الزيدي. و تفاجأت عصرا بلافتة كبيرة معلقة على الدكان تحمل أسم  . . فريق الزعيم الثائر لكرة القدم . . فيا له من عنوان آنذاك! . . و سرعان ما توافد الصبيان من عمرينا على المكان، بل و سرعان ما إستجاب اناس كثيرون لمبادرة حملة تبرعات للفريق، ليشتري الفريق بمردودها تجهيزاته الكروية، ساهم فيها بحماس غنيم السامرائي (المعروف بـ . . أبي كرَيـِّم . .) صاحب المقهى المجاور، و ذلك لشدة إعجابه بالزعيم عبد الكريم قاسم الذي يحمل الفريق أسمه و عنونه، فوهب الفريق كنبة من مقهاه! . و لكن بعد أشهر تفاجأنا جميعا ذات صباح باللافتة ممزقة أمام الدكان بسبب إشتداد السعر السوقي للتحزبات السياسية في المدينة، فانفرط عقد الفريق، خوفا مما تحمله الأيام من مفاجآت غير تمزيق لافتة الفريق!

 

الزيدي و الشعلان  على المسرح يؤديان في مسرحية لمحي الدين زه نكنه

و في أواسط الستينات حسبما أذكر كان سالم الزيدي هو صاحب المبادرة  في تعارفي مع سليمان البكري . . و هو أيضا الذي عرفني على محيي الدين زنكنة . . و هو أيضا الذي عرفني على حسين الجليلي . . و بإختصار كاد سالم الزيدي أن يكون صاحب الدور الأول في إلتئام عقد  . . الزمرة . . بعد تحوله من الأفكار القومية الى الأفكار الماركسية الثورية المتلبسة بزي قومي (مثلما حصل للكثيرين من المثقفين العرب آنذاك بعد إنتكاسة فكر التيار القومي العروبي بهزيمة العرب الكبرى في حرب حزيران 1967).

و دأب سالم الزيدي على القيام بمبادرات أخرى . . فهو الذي قام بالخطوة الأولى بإصدار جريدة فنية- أدبية طبعناها على نفقتنا الخاصة بنسخ محدودة العدد، صدر منها فقط أعداد قليلة جدا، و لم تلق رواجا، و توقفت . . ثم كان المبادر الأول في إصدار  . . مجلة القصة . . (على نفقتنا الخاصة أيضا)، و صدر من هذه المجلة عددان فقط في بعقوبة، و ساهم في الكتابة بها، عدا زمرة الأدباء المذكورة آنفا، عدد من أصحاب الأقلام المعروفين حاليا.  و توقفت بسبب قصور التمويل، مع أن البعض، ربما، حسبها آنذاك منافسا لـ . . مجلة الكلمة . . الذائعة الصيت أدبيا، التي كانت تصدر في النجف.
أحمد الشعلان و حيدر عبود فليجة يؤديان في مسرحية الأجنحة لحسين الجليلي

بعد إخفاق تجربة . . مجلة القصة . . توجه سالم الزيدي، في مبادرة جديدة، الى تشكيل فرقة مسرحية لتكون موازية لـ . . فرقة مسرح بعقوبة . . المار ذكرها، لكونه بالأساس خريج فرع المسرح. و تقدمنا بالطلب لتأسيس الفرقة موقعا من لدن أفراد الزمرة المار ذكرها بالإضافة الى فاضل القيسي خريج قسم الموسيقى في معهد الفنون، إلا أن الطلب لم يحصل على موافقة الجهات المعنية لأسباب واهية. لكن ذاك لم يفت في عضد سالم آنذاك، فإتصل بـ . . مؤسسة البصام للسينما و المسرح . . (مركزها في بغداد)، ليحصل منها على موافقة بفتح فرع لها في بعقوبة، فتحقق ذلك. و هكذا أنولدت . . فرقة مسرح المجددين . . في بعقوبة، و كان هذا قد حصل عشية الانقلاب السياسي، الذي حصل في 17 تموز 1968، الذي حمل البعث مجددا الى السلطة. و سرعان ما إنضم الى الفرقة العديد من هواة التمثيل، أذكر منهم حيدر عبود  فليجة (معلم) و يونس خضر البياتي (خياط)، و أحمد عبود (معلم من قضاء الخالص) و خليل ابراهيم المضمد، و محمود عيسى (طالب) . . ثم التحق بنا فيما بعد جبلة العزاوي، الذي كان قد تخرج للتو من قسم المسرح في أكاديمية الفنون، فأخرج لنا مسرحية اليوزباشي (فصل واحد) من تأليف محي الدين زنكنة، عرضناها على مسرح نادي الموظفين. و كانت تلك أول مسرحية تؤديها الفرقة، و في الوقت نفسه كانت أول مسرحية تعرض لزنكنة في حياته على الإطلاق . . و إنضمت الى الفرقة الممثلة الهاوية . . إقبال رشاد . . و هي فتاة لم يسعفها الحظ بالمشاركة في أية مسرحية، لأن جميع المسرحيات التي قدمناها لم يكن فيها دور لعنصر نسوي، فذهبت الى بغداد، و تلقفتها هناك أحدى الفرق المسرحية، و ظهرت على المسرح فيما بعد مع وجيه عبد الغني و قاسم الملاك مرات عديدة، بخاصة في  . . مسرحية الدبخانة . . و اخرج سالم الزيدي للفرقة آنذاك . . مسرحية الحقيبة . . من تأليف حسين الجليلي (طبعها الجليلي على نفقته الخاصة مع كتاب جميل آخر له عنوانه . . رسائل من الهور) . . كانت أحداث مسرحية الجليلي تدور عن المقاومة الفلسطينية (حاولنا تسجيلها فيما بعد في التلفزيون، و لكنها لم تعرض ربما بسبب فقر الأداء). و لكننا قدمنا لهذه المسرحية عروضا عديدة  في أماكن عدة، إذ كانت المقاومة الفلسطينية موظة تلك ألآونة، التي كانت ما تزال تتفاعل فيها تداعيات هزيمة النظام العربي أمام اسرائيل في حزيران 1967 . . و قدمت الفرقة من تأليف و إخراج سالم الزيدي عروضا عديدة، و في أماكن عديدة، لمسرحية شعبية كوميدية (لا أذكر اسمها)، أضحكت جمهور بعقوبة كثيرا و أبهجته، و إستمر عرضها لأسبوع أو أكثر . . و ظلت الفرقة في تلك الآونة تتدرب حوالي أربعة أشهر على مسرحية . . السيد بونتلا و تابعه ماتي . . للكاتب الألماني برتولد برشت (الذي كان هو الآخر موظة ثورية في تلك ألآونة بسبب أفكاره الثورية في المسرح)، و أخرجها شاب كان طالبا في أكاديمية الفنون الجميلة لا أذكر اسمه بالضبط للأسف ( قد يكون ياسر ابن علي حارز الحلاق في سوق بعقوبة)، و قيل لي أنه حاليا أستاذ في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد. إلا أن عرض تلك المسرحية تأجل الى الأبد!


ممثلي فرقة مسرح المجددين يؤدون في مسرحية لسالم الزيدي: من اليمين يونس خضر ومحمود عيسى و أحمد عبود و الماكير أبو نصير و خليل إبراهيم المضمد و أحمد الشعلان و محمد مجيد

          كانت الفرقة في الواقع . . تشهد ربيعها الأول، الذي كان في الواقع أولا و أخيرا، إذ سرعان ما بدأت السلطات الجديدة آنذاك بأدلجة الفن و الثقافة، بمخطط غايته التحكم بالأنشطة الثقافية، غير مستفيدة من درسي الأمس: الأول، هو الدرس الدرامتيكي الذي رافق مجئ البعث السابق الى السلطة . . و الثاني، هو الدرس الأقدم و هو ما حصل جراء تجربة الشيوعيين السوفيت قبلهم، حين قاموا بأدلجة الفن و الثقافة عموما ففقد الفن بريقه!  . . و كانت النتيجة آنذاك خنق روح الفن، و إنكماش حرية التعبير، و فقدان الفن و الأدب لروحهما و نفسهما التنويري الجمالي، بتأثير من رقيب، أحيانا منظورا، و أحيانا غير منظور، ففتر حماس أعضاء . . فرقة مسرح المجددين . . و تعثر نشاطها. و كانت ثمة قشتين قصمتا ظهر الفرقة آنذاك هما:

-         الأولى . . نجاح السلطات بدس عنصر في الفرقة يتجسس على توجهات أعضائها، و

-    الثانية . . هي نجاح تلك السلطات آخر الأمر أيضا بإستدراج سالم الزيدي، لينخرط في ماكنتها الفنية- الثقافية الأيديولوجية.

و بذا . . كفَّ الزيدي مذاك عن أن يكون مبتكرا و مبادرا! . . فإنفرط عقد الفرقة!

و سيصح فيما بعد هذا الذي قلناه للتو، فتفتر همة النشاط الفني و الثقافي روحا في العراق عموما، بسبب السياسات الجديدة التي برزت في أعقاب 17 تموز 1968.
ختاما . . الأمل كبير في أن تأخذ كلية الفنون الوليد الجديد لجامعة ديالى بيد المشهد الفني و الثقافي في المحافظة عموما، بأن يضع كادره، المتفاني في إشاعة الثقافة الجمالية، في باله دوما، أن الثقافة وحدة وعي متكاملة، و فروعها تنمو متلازمة، و الأمثلة كثيرة و متوفرة في تاريخ ثقافة الشعوب عموما، إذ لم ينمو فيها فرع دون آخر، لأن الجمهور هو واحد دائما، يقرأ قصة و رواية وشعرا، و يميل الى حضور العرض المسرحي أو الفعالية الموسيقية، و يتفرج على معرض تشكيلي أو عرض سينمائي.

أملي كبير في أن تكون هذه الكلية الوليدة  هي الرائدة و حجر الزاوية و في تطور ثقافي لاحق مشهود في محافظة ديالى عموما، بتقوية علاقتها بالأنشطة الثقافية خارج الكلية . . منظماتٍ و جماعاتِ و أفرادٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق