بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 5 أكتوبر 2016

الإنسان و إكتساب اللغة

An article on language psychology…
Man and Language Acquisition
By Steven PinkerTranslated by: Ahmed Khalis Shalan

في علم النفس اللغة 
الإنسان و إكتساب اللغة
ستيفن ببنكر ... ترجمة أحمد خالص الشعلان
S. Pinker
يعد إكتساب اللغة أحد اكثر المواضيع أهمية في علم المعرفة cognitive science، إذ حاولت جميع نظريات المعرفة تفسيره. و من المحتمل ألا يكون  ثمة موضوع  أثار نقاشاً قدر الذي أثاره هذا الموضوع. و لا غرابة أن يحظى الموضوع مثل هذا ألاهتمام، فاكتساب لغة ما يعد خصيصة البشر وعلامتهم البارزة ، واعني بذلك هو ان البشر جميعهم يتكلمون، في حين اننا لا نجد أي كائن غير بشري يفعل ذلك. واللغة هي الواسطة التي تتعرف بها على أفكار الآخرين. لذا، لا بد ان تنشأ بين الانسان ولغته علاقة وثيقة. ونحن في كل مناسبة نتحدث فيها نكشف عن شئ يخص اللغة ، وبذا يكون أيسرُ علينا الالمام بالحقائق التي تخص بنية اللغة ، ومعنى ذلك ان ما نلم به من معلومات تشيرالى نظام معقد وعلى نحو فائق للعادة . ولكن ، وعلى الرغم من ذلك ، فان تعلم اللغة يعد من المهام التي ينجزها أي طفل بنجاح ملحوظ ، خلال أعوام معدودة، ودون الحاجة إلى دروس نظامية . ويعد موضوع اللغة موضوعا لصيقاًَ جداً بكل ما ينبغي ان يكون عليه جوهر وجود الإنسانية. إذن ليس من المستغرب أن يحظى موضوع إكتساب الاطفال للغة ما بهذا القدر الفائق من العناية. إن أي إنسان يحمل آراءً ذات قيمة لعقل الإنسان لا بد له أن يرغب في تبيان أن الخطوات المعدودة الاولى التي يقوم بها أي طفل، في هذا المجال، ما هي إلا خطوات ماضية في الاتجاه الصحيح.
        ولا يعد موضوع إكتساب اللغة من المواضيع التي تثير اهتماماً ضمنياً فحسب ،  فدراستها أيضا تعد إحدى الطرق المؤدية الى البحث عن إجابات لاسئلة تنفذ الى اعماق علم المعرفة وتشتمل على ما يأتي:
الجهازية Modularity
          "الجهازية" تعني السعي إلى معرفة هل أن الأطفال يتعلمون اللغة باستعمالهم "عضواً ذهنياً" mental organ  معيناً يعمل على وفق مبادئ تنظيمية لا تشاركه فيها أجهزة معرفية أخرى ، مثل جهاز الإدراك الحسي perception ، وجهاز التوجيه الحركي motor control، وجهاز التفكير  reasoning (جومسكي 1975 و1991 وتودر 1983)؟ أم أن إكتساب اللغة هو ليس اكثر من مسألة اخرى على جهاز الذكاء العام general intelligence أن يحلها، و بذا تصبح بالتحديد مسألة الوسيلة التي نتصل بوساطتها بالبشر الآخرين عبر قناة سمعية (بيوتنام 1971 وبيتس 1989)؟
فرادة الإنسان Human Uniqueness
        ثمة سؤال آخر فحواه معرفة اذا كانت اللغة هي حالة فريدة يختص بها البشر. و قد يبدو الجواب على مثل هذا السؤال غامضاً للوهلة الأولى . فثمة حيوانات يتصل بعضها بالبعض ألآخر من خلال خزين من الرموز المقررة ، أو ربما تناظر التشكيلة التي يبدو بها زئبق الثرمومتر، ولكن ليس بينها ما يكشف عن نظام ذي قواعد تأليفية كالذي يمتلكه البشر، حيث يعاد فيه تشكيل الرموز بوجوه مختلفة ممكنة لكي تنتظم في مجموعات لا متناهية من التراكيب، كل منها له معناه المحدد. وثمة من ناحية اخرى العديد من المزاعم عن فرادة الإنسان ، مثل تلك القائلة بأن البشر هم الحيوانات الوحيدة التي تستعمل الادوات أو تخترعها. فهذه المزاعم التي أثبت فيما بعد زيفها، ب و المبنية على أعتقاد بعض الباحثين بان للقردة المقدرة على تعلم اللغة ولكنها، ولسوء حظها، لم تحظ بوسط ثقافي كالذي حظي به البشر فاستثمروه في تعلم اللغة . لذا تراهم يحاولون تعليم القرود انظة شبيهة باللغة. أما مسألة ان كانوا نجحوا بذلك ، أو مسالة أن اطفال البشر كانوا حقاً هم من علموا أنفسهم اللغة ، فهي أسئلة تظل مدار بحث طويل الأمد.
اللغة والتفكير Language and Thought
          هل تعد اللغة شيئاً كان قد جرى التحامه في اعلى سلم المعرفة بوصفها وسيلة يجري بها لصق الكلمات الخاصة بالاتصال بالافكار التي تعبر عنها (فودر 1975 و بياجيه 1929)؟ أم أن تعلم لغة ما يعني بهذا القدر او ذاك تعلم التفكير بتلك اللغة؟  ثمة فرضية مشهورة وضع خطوطها العامة بنجامين وورف Benjamin Whorf(1956)، إذ تؤكد على ان المقولات والعلاقات التي نستعملها في فهم العالم تأتي أساساً من لغتنا الأم، وبذا يقوم متحدثو مختلف اللغات بصياغة العالم على وفق مفاهيم موضوعة بطرق متعددة. وبموجب هذا تغدو الغاية من اكتساب لغة ما هي تعلم التفكير، ولا تقتصر على تعلم الكلام. تعد هذه الفرضية من الفرضيات المثيرة للاهتمام، غير أن اغلب علماء المعرفة المحدثين يعدونها في الواقع زائفة .  لأنهم يرون أن الأطفال، مثلما هو معروف، بإمكانهم التفكير قبل ان يظهروا اية قدرة على الكلام. ولقد اظهر علم النفس المعرفيpsychology    cognitiveبانهم لا يفكرون بوساطة الكلمات فحسب، وانما بوساطة الصور والافتراضات المنطقية ايضاً. و اظهر علماء اللغة بان لغات البشر بها من التعقيد و التخطيط بحيث يصعب استعمالها وسطا للتخمين الداخلي . فحين يحاول احد التفكير بكلمة "ربيع"  spring ، فهو حين يفعل ذلك يفعله، ولامراء في ذلك، دون خلط فيما اذا كان يقصد بالكلمة تسمية لفصل season معين او يقصد الشروع بالنط boing  مثل اي زنبرك ، أو فيما إذا ورد في ذهنه إمكان أن تلبي كلمة واحدة الحاجة للتعبير عن فكرتين، فالأفكار ليست هي الكلمات. ومع ذلك، فان اكتساب اللغة يشكل مساهمة فريدة في هذا الموضوع، لأنه من المستحيل حقاً ، مثلما سنرى، كشف الوسيلة التي يتعلم بها الاطفال اللغة ، ما لم يفترض المرء مسبقا امتلاكهم لقدر ليس قليلاً من آلية machinery معرفية، لا لغوية non-linguistic، في موضع ما قبل ان يبدأو بعملية التعلم.

التعلم والسليقة Learning and Innateness
          إن البشر جميعهم يتكلمون، إلا أننا لا نجد من بين حيواناتهم الأليفة، أو بين نباتات منازلهم من يفعل ذلك، بغض النظر عما تتلقاه من تدليل وعناية. ذلك، لان اللغة تقتضي ضمناً وجود دور للوراثة heredity، ومع ذلك، فبينما يتحدث الطفل المترعرع في اليابان اليابانية، نجد إن الطفل نفسه يتحدث الانكليزية ان ترعرع في كاليفورنيا، ولا بد له أن يفعل ذلك. إذن، إن البيئة environment لها دور حاسم. وبناءً على هذا لا يتبقى مجال للحديث عما إذا كانت الوراثة ، أم البيئة ، هي ما يقرر تعلم اللغة، أو حتى لتحديد ما إذا كانت هذه أو تلك "اكثر أهمية"، و إنما عوضاً عن ذلك، قد يكون اكتساب اللغة هو أملنا الافضل في الكشف عن الكيفية التي تتفاعل بها الوراثة مع البيئة. فنحن نعلم ان لغة البالغين هي على درجة من التعقيد بحيث يصعب تحليلها. ونعلم ايضاً بان الاطفال لا بد انهم سيكونوا راشدين يوماً ما. لذا، فانه  لابد من وجود شئ في عقل الطفل يجعله قادراً على بلوغ تلك المرحلة من التعقيد. إذن، واستناداً على هذا، لا بد أن تكون زائفة تلك النظرية التي تبالغ في إنكارها لوجود بنية سليقية innate structure. ذلك لان الطفل المفترض لديها سينتهي به المطاف الى التحدث بلغة هي أدنى من أية لغة حقيقية. ويصح هذا من ناحية ثانية، على أية نظرية تبالغ هي الاخرى في اعطاء دور لمثل هذه البنية السليقية. ذلك ، لان الطفل المفترض برأيها سينتهي به المطاف إلى اكتساب التحدث بالانكليزية حصراً، أو لغة البانتوي، أو الفيتنامية ، حصراً وليس أية لغة أخرى.
        وإن جئنا الى الوقع فان معرفتنا، من الناحية العملية، لا تنحصر فحسب في ما تنطوي عليه مخرجات output عملية إكتساب اللغة، وإنما تنطوي أيضا على قدر كاف من مدخلاتها وبالتحديد الكلام الصادر عن الوالدين لأولادهم. لذا، فانه حتى لو كان إكتساب اللغة يعد بالأساس "صندوقاً أسوداً " black box ، حاله حال العمليات المعرفية جميعاً ، فنحن نعلم ما يكفي عن مدخلاته ومخرجاته ما يجعلنا قادرين على الوصول الى افتراضات دقيقة عن محتوياته .
        لقد ابتدأت الدراسة التعليمية لعملية اكتساب اللغة حوالي الوقت الذي وُلِدَ فيه علم المعرفة، أواخر خمسينيات القرن العشرين . ولعلنا نستطيع الان إدراك حقيقة ان هذا الامر لم يحدث بمحض الصدفة. إذ كان ثمة حافز تاريخي يتمثل بمراجعة نعوم جومسكي Noam Chomsky لآراء سكنرSkinner حول السلوك اللفظي verbal behavior (جومسكي 1959). وكانت النزعة الانكلو-امريكانية آنذاك في علم الطبيعة، وعلم الاجتماع، والفلسفة، قد توصلت إلى إجماع فعلي في الرأي يخص الاجابات التي تتطلبها الاسئلة المذكورة آنفاً. وهو ان العقل يتألف من قابليات حسيحركية sensorimator *، مضافاً إليها عدد قليل من القواعد البسيطة الخاصة بالتعلم تتحكم بالتغيرات التدريجية الحاصلة في الخزين السلوكي للكائن الحي. لاجل ذلك فان اللغة ينبغي ان تكون عملية تعلمٍ، ولا يمكن وصفها كونها شيئاً من جهاز module. وبذا، لا بد ان يكون التفكير ضرباً من ضروب السلوك اللفظي ، طالما كان السلوك اللفظي هو المظهر الاولي لـ"التفكير thought" الذي بالامكان ملاحظته خارجياً.
        لقد أكد جومسكي وبضربة واحدة زيف مثل هذه المعتقدات، ذلك انه اظهر بان عملية إكتساب اللغة عند الاطفال لا تخلو من المهارة العالية ، فهم يتعلمون اللغة ، وهذه تحكمها قواعد تجريدية ، بل و أنهم حتى يفعلون ذلك ، مثلما هو ظاهر، دون أن يوجههم احد للقيام به، أو دون أن يزودوا ولا حتى باية مفاتيح أخرى تأتي من الوسط المحيط تساعدهم على حل الغاز طبيعة مثل هذه القواعد . واستناداً على هذا فان تعلم اللغة يعتمد على جهاز سليقي  intelligence. إن الكثير من الجدال الجاري حول إكتساب اللغة ماهو إلا محاولات لاخضاع هذه المجموعة من الافكار للاختبار، و هي كانت فيما قبل، وبسبب ثوريتها، عرضة للجدال، وما تزال كذلك حتى اليوم.
تعلم اللغة بوصفه نشاطاً أحيائياً
The Biology of Language Learning
        إن ما جعل لغة الانسان ممكنة هو بعض التكييفات adaptations، التي حصلت على عقل الانسان وجسمه، تعرض لها في مجرى تطوره الانساني الطويل ، والتي تتهيأ للأطفال مسبقا، لكي يستخدمونها في تعلمهم لغتهم الأم.
1- نشوء اللغة  Evolution of Language
        إن من أكثر الأشياء جلاء هو الجهاز الصوتي البشري والهيئة التي يبدو عليها، وكأنه خلال نشوئه قد تعرض الى تعديلات تقتضيها الحاجة للكلام. فحناجرنا تقع أسفل الحلق، وأجهزتنا الصوتية لها انحناء زاوي حاد ملائم يشكل تجويفين مستقلين، مرجعين للصدى، وقابلين للتكيف، وهما  "الفم mouth"  و "الحلق pharynx أو throat". و هذا الانحناء يتبدى لنا مثل نطاق كبير ذي بعدين يستعمل في لفظ اصوات العلة vowel sounds، إلا أن هذا، في الواقع، لا يتحقق إلا بتضحية تأتي على حساب الفعالية في التنفس، والبلع، والمضغ. فقبل اختراع مناورة هايملكHeimlich Maneuver (و هي تقنية توصل اليها الطبيب الامريكي هـ .جـ هايملك تستعمل في انقاذ الشخص الذي يمر في حالة اختناق بشئ يعلق في حلقه ، و تتلخص بان يقوم شخص بالضغط بقوة مفاجئة على بطن المختنق اسفل القفص الصدري مباشرة- المترجم) كان الاختناق بالطعام حالة شائعة تسبب موتاً مفاجئاً، إذ كان يطال 6000 انسان سنوياً في الولايات المتحدة. ولا بد ان الفوائد، الناجمة من الانتخاب النشوئي، و التي جنتها اللغة كانت كبيرة لدرجة انها افقدت تلك التضحية قيمتها.
        و انه لشئ يثير الاغراء، أن يظن المرء بانه إذا كانت اللغة قد نشأت بموجب الانتخاب الطبيعي التدريجي الذي قال به دارونDarwin ، فنحن، إذن، لا بد ان نكون قادرين على ايجاد السلف precursor الذي انحدرت منه اللغة في اقرب الاقرباء الينا وهم قرود الشمبانزي . فقد جرى، في تجارب مشهورة عديدة كانت مثار جدل، تعليم الشمبانزي بعض اشارات اليد hand-signs بموجب  "لغة الإشارة الأمريكية American sign Language"، و فحواها التلاعب بقضبان واشارات ملونة، فضلاً عن فهم وتنفيذ بعض التعليمات . وإذا ما حاول أحد تسمية قابلية الشمبانزي هذه "لغة"، فهذا لا يدخل في باب العلم، إذ أن المسألة كانت تعتمد أساسا على موضوع هو أيجاد تعريف definition يحدد القدر الذي نرغب به مطّ كلمة "لغة".
        إن السؤال العلمي المطروح هو معرفة ما إذا كانت قدرات القرود متشاكلة مع لغة الإنسان، واعني بذلك ما إذا كان النظامان اللذان لديهما يظهران التنظيم الاساسي ذاته، و فيما إذا كانا يدينان بأصلهما إلى نظام واحد كان يستعمله سلفهما المشترك المفترض. إن علماء الحياة لا يجادلون، في سبيل المثال ، فيما إذا كانت التراكيب الشبيهة بالاجنحة التي تحملها القوارض الزاحفة بالامكان تسميتها  "أجنحة حقيقية" أو أية تسمية أخرى (لأنها ستدخل في باب التعاريف الباعثة للملل). وانه لواضح ان تراكيب من هذا النوع ليست متشاكلة مع اجنحة الخفافيش، لانها تحتوي على تخطيط يختلف في اساسه التشريحي، ويعكس تاريخاً نشوئياً آخر. فاجنحة الخفاش ما هي إلا تكييف تعرضت له ايادي السلف الثديي المشترك، أما أجنحة السنجاب الطائر فهي تكييف تعرض له قفصه الصدري. و لا يعد التركيبان متشابهين تماماً إلا لأنهما يقومان بالوظيفة ذاتها.
       
إن أنظمة الإشارة signal systems عند الشمبانزي، وعلى الرغم من كونها اصطناعية، لها بعض الشبه بلغة الانسان (مثال ذلك استعمالها للاتصال بالآخر واحتوائها على تآلف بين اكثر من اشارة أساسية). ومع ذلك، فمن غير المرجح ان تبدو متشاكلة homologous مع لغة الإنسان. فالقرود تحتاج الى سياقات تعليم كثيفة شديدة الصرامة مرسومة من قبل البشر لكي يكون بمقدورها إكتساب قدرات أولية ، تكون في الغالب محصورة في عدد من الاشارات تتسلسل مجتمعة في سياقات متكررة شبه عشوائية، تستعمل لغرض طلب الطعام او المداعبة. وهذا يختلف اختلافاً حاداً مع ما يقوم به اطفال البشر الذين يلتقطون آلاف الكلمات على نحو تلقائي، ويؤلفون بينها في سياقات مركبة، حيث تؤدي كل كلمة في السياق دوراً محدداً، آخذين بنظر الاعتبار إنتظام الكلمات الموجودة في لغة البالغين لكي يستعملونها في جمل تحقق تشكيلة متنوعة من الغايات، مثال ذلك، التعليق على المواضيع المشوقة.
        وما يجدر ذكره هنا، هو أن غياب التشاكل homology لا يلقي اي شكوك على التفسير الداروني  للنشوء التدريجي للغة. إن البشر لم ينحدروا من قرود الشمبانزي، ولكن هذا لا يمنع انحدارهما من سلف محتمل مشترك كان قد عاش قبل حوالي 6-7 مليون سنة . ويفترض هذا الامر وجود 300000 جيل إستطاعت اللغة من خلالها أن تنشأ نشوءاً تدريجياً في المسار الذي أدى الى نشوء البشر، بعد ان إنفصلت عن المسار الذي أدى الى الشمبانزي. وثمة سببين يجعلاننا نفترض ان اللغة نشات في المسار الذي ادى الى الإنسان، أولهما هو أن يكون أسلافنا قد طوروا تقنية ومعرفة من خلال وسطهم المحلي في الحياة التي عاشوها ، والسبب الثاني هو أن تلك التقنية والمعرفة كانتا قد تطورتا من خلال تعاون كثيف متبادل. وهذا هو ما اتاح لهم الاستفادة من مشاركة الاقرباء في المعرفة التي لم يكن بلوغها سهلاً ، ومن ثم تبادلها مع جيرانها.
2- مالا يجمع اللغة بالذكاء العام
Dissociations between Language and General Intelligence
        لقد تطورت عند البشر مجموعة من الدارات الكهربائية الخاصة بالدماغ. وتقع هذه على الاغلب في النصف الايسر من كرة الدماغ المحيطة بالصدع ألحرجيSylvain fissure ، الذي يبدو أنه كان مصمما لأجل اللغة، على الرغم من انه لحد الان لم تعرف الكيفية التي يجري بها البرق الداخلي  بالضبط لاستثارة قواعد اللغة لكي تقوم بوظيفتها.

أن آليات الدماغ brain mechanisms التي تشكل اساس اللغة ليست هي ذاتها تلك التي تبيح لنا ان نبدو ذوي الذكاء العام. إن بعض الصدمات غالباً ما تسبب للبالغين أضراراً كارثية في اللغة، ومع ذلك، فليس من الضروري ان يكون ذلك سبباً لكي يعانوا بعد الصدمة ضعفاً في ناحية أخرى من نواحي الذكاء، وبخاصة تلك النواحي التي تخضع للقياس في اختبارات الذكاء التي لا علاقة للغة بها. وعلى النحو ذاته، ثمة مجموعة من الاعراض syndromes تسمى "ضعف اللغة النوعيSpecific Language Impairment  " الذي غالبا ما يؤشر تأخرا واضحا في ممارسة اللغة، و ذلك بان يواجه الطفل صعوبات في التلفظ، وصعوبات دائمة في فهم وتمييز واداء الجمل نحوياً. إن الناس المصابين بضعف اللغة النوعي تظهر عليهم بالتحديد مثل هذه الاعراض على الرغم من المشاكل الإدراكية التي يعانونها مثل التخلف retardation ، وغياب المشاكل الحسية مثل فقدان السمع، أو المشاكل الاجتماعية مثل التوحد autism (و هي حالة يسترسل فيها الانسان بالتخيل تهرباً من الواقع-المترجم).
        إن ما يثير اهتماماً اكبر، هو وجود أعراض متزامنة تظهر إنفصالاً معاكساً، إذ تتعايش اللغة سليمة غير مصابة باي أذى مع التخلف العقلي. و بذا تظهر هذه الحالات بان نمو اللغة لا يعتمد على وجود ذكاء عام يقوم بوظيفته تمام القيام. وأمامنا مثال من الاطفال المصابين بما يسمى "سبينا بيفيدا Spina Bifida ". وهو تشوه فقري يؤدي بالعامود الفقري الى وضع يكون فيه دون حماية، يحدث غالباً استسقاءً في الرأسhydrocephalus  يسبب زيادة في الضغط من سائل السحايا الخيشومية الذي تمتلئ به بطينات الدماغ" (و هي تجاويف كبيرة)، تؤدي بالنتيجة الى انتفاخ الدماغ من الداخل. إن الأطفال المصابين بمرض استسقاء الراس ينتهون احياناً وبوضوح الى حالة من التخلف العقلي. ومع ذلك فهم يستمرون طويلاً في ابداء قدرة على الكلام والدخول في محادثات لا تشوبها الاخطاء في استعمال قواعد اللغة، التي يستطيعون من خلالها اعادة رواية الاحداث الحية وباهتمام، وهي أحداث ما هي، في الواقع، إلا نتاج التخيل imagination. ويأتينا مثال آخر مما يعرف بـ "أعراض ويليمز  Williams syndromeو هي حالة وراثية تشتمل على انواع من الشذوذ الجسدي، تنطوي على تخلف عقلي خطير، يرافقه انعدام القدرة على القيام بابسط المهام اليومية (ربط سير الحذاء، أو تحديد المرء لوجهته، أو جمع عددين، أو إخراج أشياء من الدولاب)، و لكن يرافق كل ذلك دفء في العلاقة الاجتماعية والنزوع الى الجماعة وقدرات على الاداء اللغوي وطلاقة في الكلام.
3- نضوج نظام اللغة
Maturation of Language System
        يفترض كل من نيوبوتNewport  وغليتمان Gleitman بان نضج الدارات الكهربائية circuits الخاصة باللغة خلال سني الطفل المبكرة قد تكون قوة دافعة تشكل الاساس لتقدم عملية اكتساب اللغة . فقبل الولادة تكون قد تشكلت فعلياً كل العصبونات neurons (الخلايا العصبية)، و تكون قد تموضعت في اماكنها المناسبة في المخ. و مع ذلك فحجم الرأس، و كتلة المخ، وسمك اللحاء الدماغي cerebral cortex (المادة السنجابية)، حيث تجري عمليات التشابك العصبي synapses (الارتباطات conjunctions) التي تسهل التخزين الذهني، تستمر لكي تنمو بسرعة في سنة ما بعد الولادة. أما الارتباطات بعيدة المدى (المادة البيضاء white matter) (و هي مادة تتكون من نسيج عصبي أبيض كله من الياف في الدماغ والحبل ألشوكي-المترجم) فهذه لا تكتمل حتى الشهر التاسع، ثم تتواصل سرعة نموها خلال سني الطفولة، مستحثة انفصال النخاعين. و تستمر عمليات التشابك العصبي في التطور لكي تبلغ أوجها، من ناحية العدد، بين الشهر التاسع و عمر السنتين (معتمدة في ذلك على النطاق الذي يوفره الدماغ) و التي يكون عند الطفل من التشابكات العصبية، في موضع منها، ما يفوق عدده بـ 50% على العدد الذي عند البالغين. وحينئذٍ يبلغ النشاط الايضي metabolic في المخ مستوياته نفسها التي عند الكبار في حوالي الشهر التاسع او العاشر من العمر، وسرعان ما يتجاوزها، إذ يبلغ ذروته عند الرابعة من العمر. فضلاً عن ان عدداً هائلاً من العصبونات يموت في مهده. ويستمر هذا الاضمحلال خلال السنتين الاوليين قبل ان تتحدد مستوياتها في سن السابعة. و تبدأ التشابكات العصبية بالاضمحلال في سن الثانية و تستمر خلال سني الطفولة الباقية وحتى سن المراهقة الى ان ينكفئ معدل النشاط الايضي في المخ لينزل الى المستويات التي هي عند الكبار. ولربما تكون الاشارات اللغوية الاولى مثل البربرة babbling والكلمات الاولى واستعمال القواعد يتطلب مستويات دنيا في حجم المخ، ومن الارتباطات بعيدة المدى والتشابكات العصبية الاضافية ، وبخاصة في مراكز المخ الخاصة باللغة.
        وعلى النحو ذاته، بإمكان المرء أن يحدس بالبديهة، بان هذه التغييرات هي المسؤولة عن ضعف قابلية تعليم اللغة طوال حياة الإنسان، وبان الدارات الكهربائية، الخاصة بتعلم اللغة، الموجودة في المخ، هي أكثر طواعية في مرحلة الطفولة childhood، إذ يتعلم الاطفال اللغة او يتمكنوا منها حتى إذا تعرض نصف كرة المخ الايسر الى الضرر، بل وحتى في حالة ازالته جراحياً (و ليس في مستويات اعتيادية)، في حين ان ضرراً مشابهاً يصيب البالغين في الدماغ، يؤدي عادة الى ما يسمى بـ  "الحبسة aphasia" الدائمة. إن البالغين في الغالب لا يتعلمون اللغة الاجنبية الى حد التمكن منها على الإطلاق، وبخاصة الجوانب التي تتعلق منها بتلفظ ألأصوات phonology ، وبذا يكون هذا سبباً في نشوء ما نسميه بـ "اللهجة الدخيلة foreign accent"، لان نموهم اللغوي يسبب أنواع الخطأ الدائم الذي يخفق في تخليصهم منها اي نوع من تعليم، مهما بذلوا من محاولات التصحيح. ثمة فروق فردية عظيمة، لا بد من تمييزها، لانها تعتمد على الجهد والمواقف العقلية والعاطفية والثقافية، و على قدر التماس مع اللغة و نوع التعليم والموهبة البارزة.
        ولقد قدمت العديد من التفسيرات في هذا الصدد تشير جميعها الى تفوق يظهره الأطفال، فهم بإمكانهم الاستفادة من الطريقة التي تتحدث بها امهاتهم إليهم، و هم معرضون أيضا لاقتراف أخطاء الممارسة دون الشعور بها او الخجل منها، و لأنهم أكثر اندفاعاً للاتصال بالاخر، ولانهم ايضاً يحبون المشاكلة  to confor، كما انهم ليسو مصابين بـ "رهاب الأجانب  xenophobic" (الخوف من الأجانب أو كرههم، وهو عامل مؤثر يكون عند الكثيرين عائقاً لا شعورياً في تعلم اللغة الاجنبية وبخاصة عند الكبار- المترجم) أو ينصب فخاخاً لهم في طريقهم. كما أن الأطفال ليست لديهم لغة اولى first language تفرض تدخلاً لا شعورياً على قائليها. و مع ذلك، فإننا قد نجد ان بعض هذه التفسيرات هي على الارجح ليست موضوعة على اساس ما عرفناه عن الكيفية التي تجري بها عملية تعلم اللغة. فبإمكان الأطفال، في سبيل المثال، أن يتعلموا لغة ما دون الاعتماد على ما يسمعونه من امهاتهم من كلام فيه غض طرف عن أخطائهم indulgent speck ، لأنهم لا يقترفون سوى اخطاء قليلة، و ليس ثمة حاجة لتغذية ارتجاعية تخص ما يقترفون من اخطاء حقاً. و بذا لا يمرون بما يسمى "انكفاءً" قد يسببه وجود معلم او مراقب يحصي عليهم اخطاءهم across- the-board- decline في عملية التعلم. و مع ذلك، فليس ثمة، من ناحية ثانية، دليل يشير مثلاً الى ان تعلم المفردات (بمقارنتها بالتلفظ أو القواعد) ينحسر في سن البلوغ.

        إن ذلك كله يظهر ما قد يقوم به مجرد عامل مثل عامل العمر من دور مهم. والتعلم الناجح للغة لا يقوم عادة الا على الاعتبارات التالية : انه مضمون للاطفال حتى سن السادسة، وتجري تسوية التعلم منذ هذه السن وحتى فترة ما بعد البلوغ بوقت قصير. وانه بعد هذه السن نادر الحصول. ان تحولات النضج الجارية في الدماغ، مثل الانكفاء في معدل النشاط الايضي، وفي عدد العصبونات اثناء فترة السنوات المبكرة للدراسة، و تناقص عدد التشابكات العصبية، ومعدل النشاط الايضي حوالي سن البلوغ ، قد تعد اسباباً مقبولة. وبناء على هذا كله ، فلا بد من افتراض وجود "فترة حاسمة critical age" محددة عصبياً neurologically determined  تكون العامل الحاسم وراء التعلم الناجح للغة. و هي دون شك مرحلة حاسمة تعد نظيراً للمراحل الحاسمة التي يجري التثبت من وجودها عادة، و هي المراحل التي تمر خلالها الثديات mammals عموما في نموها البصري visual development وتمر بها ايضاً الطيور في تعلمها لتغريدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق