بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 15 أكتوبر 2016

قراءة سيميائية في قصيدة إبراهيم الخياط ... بعقوبة ما أبهاك أيام كنت مدينة الفردقال!

Semiotic reading in Ibraheem Al-Khaiyat’s poem
Ba’qubah ... Such a Beautiful Place When You Were as Oranges Town!
Ahmed Khalis Al-Shalan
(published in Tareeq A-Sha’ab Journal and A-Noor Center)
قراءة سيميائية في قصيدة إبراهيم الخياط ...
... بعقوبة ما أبهاك أيام كنت مدينة الفردقال! ...
أحمد خالص الشعلان
(منشورة في جريدة طريق الشعب و مركز النور)

لا أزعم أن قراءتي لهذه القصيدة هي قراءة نقدية بقدر ما هي قراءة سيميائية لما ورد في القصيدة من علامات حية وجامدة، خالدة و زائلة. وأود أن أضيف أيضا أن لهذه القصيدة خصوصية فريدة، و هي أنها قد لا تكون مصدر إستمتاع كبير للقارئ الذي لا يعرف بعقوبة نظير للإستمتاع الذي يحسه القارئ الذي عاش في بعقوبة وعايش تلك العلامات . . ومع ذلك، فثمة محاولة في بنية القصيدة لخلق نوع من إيقاع و إنسجام، جاء عفويا، أقصد تلك السيولة التي خلقت نفسها في تلك اللازمة . . صباح الخير . . التي تتكرر مع كل بيت، وليس كما إعتدنا على لازمات القصائد التي تتكرر بعد كل مقطع او عدد من الأبيات الدوارة.  وبالتالي  قد يكون في إنخلاق هذه اللازمة ميل لا شعوري لدى الشاعر للخروج بها من الخاص المغرق في خصوصيته الى  العام الرحب.

إنها قصيدة الزمان والمكان، قصيدة إبراهيم الخياط هذه المعنونة . . بعقوبة ما أبهاك أيام كنت مدينة البرتقال . . تمر على الأماكن وعلى الأزمان عبر سرد الصباحات، نقرأ . . صباح الخير . . في بيتها الأول، وتظل . . صباح الخير . . هذه تتكرر مع كل ثنية بيت فيها، و مع كل إنعطافة ذكرى، و مع كل إلتفاتة للشاعر في موجودات بلدة بعقوبة القديمة . . و أعني بـ  . . القديمة . . البلدة التي لم تكن قد إستفحلت بها بعد ثقافة الطوائف والدمار وما خلفه من أسى.

في تكرار . . صباح الخير . . الذي لا يبعث الملل، بل يبعث الأمل، يحتار المرء في حجم المسرة والحزن الممتزجين فيها. وهل أشيع سرا إذا قلت أني بكيت مدينتي  . . بعقوبة . . حين قرأت هذه القصيدة، بل، وحين رأت زوجتي متفاجئة بدمعي الغزير ينهمر لا إراديا من عيني، ناولتها القصيدة قبل أن تسأل، فراحت هي الأخرى دمعها ينهمر، مع أنها لم تعش في . . بعقوبة . . معي سوى أشهر قليلة قبل أن يجلينا الإرهاب عنها. و قد يكون دمعها إنهمر تأثرا بحكاياتي لها عن بعقوبة الجميلة أيام زمان، تلك البلدة التي ما أكثر ما أهرب الى ذكرى طفولتي فيها، أو قد تكون هربت معي لا شعوريا الى الأيام الأولى لقصة حبنا التي غرفنا بها السعادة والحبور أشهرا في شقتي المتواضعة في بعقوبة.

          وهكذا يروح ينبعث، مع كل تكرار لـ  . . صباح الخير . . في القصيدة، شيء ما من بين السطور، فتهب له الروح، وترف له العين، وتخفق في الحنايا مشاعر شتى، بمزيج من الحنين والأسى.

ففي سرد الأماكن التي تمر عليها أبيات القصيدة تشخص لحاسة القارئ العارف ببعقوبة فورا جغرافية المدينة وتاريخ البلدة القديمة حين لم تكن قد نمت بعد لها أطراف و أحياء جديدة و زوائد سرطانية موبوءة بالعربان المتعطشين للدم . . تمر القصيدة أول ما تمر على . . الشاخة . . مَعلمها البارز الخالد، التي يا ما سبحنا ونحن صغار بمائها الذي تمتلئ به جنباتها، في حقبة شهدت فيها . . الشاخة . . تلك المظاهرات الصاخبة في عهد الملكية، ولا أحد يدري من أين أتى اسم . . الشاخة . . لذاك النهير الذي يشق بلدة بعقوبة القديمة فيفلعها الى نصفين . . التكية . . و . . السراي.

و . . الشاخة . . كان إسمها  . .خريسان . . فرأى نظام صدام الإسم فارسيا، فإستبدله بـإسم  . . سارية . . أحد أولئك العربان الغزاة! . . و ذات أماس كنا نجلس فيها خلال ستينيات القرن العشرين على كنبات خشبية تصطف على طولها، في مقاهٍ تظللها أشجار عملاقة، فيروح ماؤها المنساب بهدوء ينقل ضجيج نقاشاتنا في الأدب والثقافة والسياسة،  ونحن شباب، الى أبعد نقطة يصلها ماؤها في الريف . . يتوسطنا آنذاك ذاك المثقف الجليل الدمث الخلق . . حسين الجليلي. و لا يكاد المرء ينسى في الماضي القريب الرفقة العلمانية، وأنا منهم، لـ . . الملا عدنان . . هذا الصوفي المتأثر بجلال الحنفي.  يُجلسنا على جرف . . الشاخة . . نتشمّس ونتبادل الطـُرف . . وقد لا ينسى ماء . . الشاخة . . المنساب شاهدا، طرفة . . الملا عدنان . . تلك، حين إنطلق صوت المؤذن يرفع الأذان، فقال لنا . . أسألكم برب العباد لو لم تكونوا مسلمين، وسمعتم مؤذنا له صوت قبيح مثل هذا الذي يرفع الأذان، ويدعوكم للدخول في الإسلام، فهل تدخلون؟ . . أين نحن منك يا بلال يا حبشي؟! . . وسرعان ما فارقنا . . الملا عدنان . . دون وداع، مع رعيل الشهداء الذين إختطفتهم قوى الظلام والظلمة في زمن الطوائف غير النبيلة هذا.

و تمر . . صباح الخير . . على . . شارع الأطِبه . . شارع العيد اليومي لأهل بعقوبة، يكتظ بالنساء والشابات في العصاري والأمسيات، ويزيده إكتظاظا طوفان الشباب وراءهن تلبية لنداء الحب . . هذا الشارع كان يعج بكل ما هو متحضر أيام زمان، أيام جمال البلدة، مهرجان الأجساد الجميلة، إناثا و ذكورا، مسرّة سرمدية للعين، و أجمل ما فيه أنه كان يوما ما مكانا لأول مقر علني للحزب الشيوعي في البلدة العتيقة أيام السبعينيات!

وتمر  . . صباح الخير . . على  . . المساطر المكتظة . . و هي الأماكن التي يتجمع فيها عمال البناء مشيدو المدائن طلبا للرزق، ليس بعيدا عن . . شارع الاطبه . . في  . . العنافصة! و تمر على . . العنافصة . . التي اعتدنا أن نشتري منها صباح كل يوم ذاك . . الـيمر اللذيذ . . الذي يُشبّه به ناظم الغزالي خدّ الحبيبة قائلا لها  . . خدج الــيمر أنا أتريـ منه . . نشتريه من معيديات، موردات الخدود، باسمات الوجوه، وكريمات . . و إعتدنا أن نشتري من العنافصة مساء لفة كباب من . . فرمان . . ذاك الكبابـــي النبيل و الفنان عازف الكمان! . . و كان يشاع عن . . العنافصة . . إن إسمها جاء بسبب . . نسائها المتعنفصات . . على أزواجهن في أيام البلدة القديمة، وبسبب خفتهن وجرأتهن وجسارتهن في الرد على الرجال . . بهاءً للمرأة صنو الرجل! . . فهل ما زالت نساؤها كذلك في عصر . . العنافصة . . الجديد، الذي أجبرت فيه النساء على لبس الحجاب والنقاب؟ . . و مع ذلك فـ . . العنافصة . . هي التي رأت أول إنفجار لعبوة شر ناسفة للخير، و تلقت هي أول قذيفة هاون لئيمة جاءت من فرسان الظلام، و راح ضحيتها شبان ثكلت بهم أمهاتهم  وزوجاتهم.

و تمر . . صباح الخير . . على  . . السوق . . الضاج بالباعة في دكاكينهم وعلى عربات الباعة، وعليهم وهم على الأرصفة. فبين ثنايا  . . صباح الخير . . نسع هنا في السوق نسمع صوت . . الحاج حُبيني . . ما يزال يتردد في أحلامنا ينادي على الشارين لحلاوته الشكرية والرملية . . حلاوة شكرية برم بم برم! . . حلاوة رملية  بم برم بم! . . و يحصل بعد رحيل الحاج حبيني أن يُختطف إبن إبنه محمود البايسكلجي على يد الإرهاب و لا يعود! . . بل و نسمع هناك من الماضي صوت . . حمدان الجربة . . الصبي، يساعد أباه البقال فينادي . . طماطة حمرة دم . . وينهن عيني . . و ينهن أمهات المعجون . . طماطة حمرة! . . و يحصل فيما بعد أن تصير . . الطماطة الحمرة . . على يد الإرهاب و فرسان الظلام . . تابو . . هي و الخيار و الثلج، لأن النبي الأسلام لم يأكل منها في زمانه!

وها هنا في السوق تمر صباح الخير . . على تلك  . . المنارة الشاهدة . . التي ظلت تطلُّ لليال طويلة طواها النسيان، تُطلُّ من عليائها صيفا على مئات الأزواج يمارسون الحب مع زوجاتهم نياما على سطوح المنازل، و على عشرات قصص الحب التي تنسج ليلا عبر الحيطان على تلك السطوح بين شباب و صبايا الجيرة، تلك  . . المنارة الشاهدة . . التي لم تشِ يوماً بمن رأت وبما رأت! و حافظت على الحرمات . . و لهذه المنارة قصة مع . . شعلان الجربة . . ذاك السني البدوي الآتي من ربيعة الموصل بدايات القرن العشرين ليكون شرطيا في دولة العراق الحديثة، ويتزوج من تميمية شيعية من المقدادية، فيتشيّع معها، ويرحل بعد ثلاثين عاما الى بعقوبة ليشتغل بقالا، وحين أريد تجديد بناء حسينية بعقوبة بداية ستينيات القرن العشرين، و ها هو . . شعلان الجربة . . يصبح شيعيا أكثر من الشيعة أنفسهم، فيروح ليتبرع لبناء الحسينية بمبلغ جمعته زوجته ليشتروا به بيتا للأسرة، فتجزع الزوجة مما فعل! . . و كانت مكافأته على ذلك هو حصوله على دكان في أسفل المنارة مباشرة، و بجانبه القصاب . . حسن جنــال . . الذي إعتاد على شرب الخمرة في الدكان بعد وقت صلاة العشاء، فيداهمه مرة الحاج إبراهيم عيدان ملتزم الحسينية وهو يعبّ عرقا في ثنية الدكان قائلا له . . و لك إنتَ ما تخاف لتوـع هذي المنارة على راسك و إنتَ دا تشرب عر؟! . . و يرد حسن جنــال يومها عليه قائلا . . شنو هالحــي حجي؟ . . منارة حطيتو بيهه خمسة وعشرين ألف طابوـة يوـعهه ربع عر؟ . . هاي شلون منارة لعد! . . فما كان من الملتزم، إزاء هذا الرد المفحم، إلا أن يكبت ضحكته و يخرج ليطلقها مكتومة خارج الدكان! . . كان ذاك زمن التسامح، الزمن الذي كانت فيه تلك . . المنارة الشاهدة . . تنقل صباحا ذاك الصوت الرخيم للسيد عبد الكريم المدني يرفع آذان الفجر، ولشدة عذوبته كنت أنا قد آمنت يومها، إيمانا لا يخلو من مفارقة، بإعتقادي بأن  . . رامسكي كورساكوف . . مؤلف سيمفونية شهرزاد لا بد أن يكون قد سمع صوت السيد عبد الكريم المدني يودي أذان الفجر، فأوحى له بتأليف موسيقاه الخالدة تلك، مع أن موسيقار شهرزاد سبق السيد المدني بقرن من الزمان! . . و المنارة الشاهدة . . تشهد أيضا على ذاك النمام للسيد المدني عن . .علي الكبابجي . . مقابل باب الحسينية متهما الرجل بالمروق الديني لأنه بهائي التدين، مطالبا السيد بتحريم الأكل عند هذا الكبابــي . . فأبى السيد المدني . . يا للنبل!

 كان ذاك عصر التسامح! . . و هي  . . المنارة الشاهدة . . أيضا على ذاك الذي طلب من السيد المدني أن يصدر فتوى ضد الزعيم عبد الكريم قاسم . . فأبى السيد المدني . . يا للإيمان الصدق الذي لم تلوثه السياسة! . . كان ذاك عصر الدين للدين و السياسة للسياسة! . . و ما أروعها هذه . . المنارة الشاهدة . . يوم إتفقت أنا مع طيب الذكر . . فاضل غلام . . إبن خادم الحسينية على إرتقائها لرؤية عالم البلدة من علياء المنارة . . و كانت ليلة، كي نثبت فيها شقاوتنا، نمنا فيها في تابوت في مخزن الحسينية، نمزح مع الموت، و نسخر منه برعونة الفتية المراهقين، و صعدنا على درجها الملتوي الضيق، لنتفرج على وداعة بلدتنا . . فيا لك من بلدة، من فوق وجدناك مثل حَمَلٍ للناظر إليك من فوق يا سفح الفردقال!  . . وهذه . . المنارة الشاهدة . . شهدتنا لأيام وليالٍ نقرأ بكتب من على رفوف مكتبة الحسينية . . و قرأنا آنذاك . . سُئل علي بن أبي طالب مرة عن أقوى شئ في الوجود، فقال هي الجبال الشم الرواسي، غير أن الحديد يفل الصخر، إذن فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد، إذن النار أقوى، بيد أن الماء يطفئ النار، فالماء أقوى، و الريح تحمل الماء، إذن الريح أقوى، و الريح يتحكم بها الإنسان، فالإنسان أقوى، بيد أن الخمرة تأخذ عقل الإنسان، فالخمر أقوى، و النوم يذهب مفعول الخمر، فالنوم أقوى، بيد ان الهمّ يذهب النوم، ولا شئ يفل الهمّ، فالهم أقوى شئ في الوجود!

يا علي يا إمام الزاهدين . . فكيف يا ترى سنعالج همّنا، و قد تحولت هذه . . المنارة الشاهدة . . الى  . . منارة شهيدة . . وحيدة في برية الخرائب على يد مغول القاعدة و فرسان الظلام . . تحولت الى شهيدة، و لكن على ديدن الشهداء، دون ريب، رافعة رأسها و شاخصة في السماء! . . و صدق القائل . . أصلها في الأرض و فرعها في السماء!

و تمرّ . . صباح الخير . . على  . . دارة السيد عبد الكريم . . نفسه موئل الرحمة والنصيحة السديدة و الخلق الكريم! . . و تمرّ . . صباح الخير . . على مرقى . . أبو ناظم . . الذي يظل يقظا حتى يفارق مرقاه آخر مثقف مخمور في البلدة! . . و على تمر . . صباح الخير . . على . . السراي . . مقر حكومة البلدة قديما، و موئل الأدباء هذه الأيام. و تم على مرقد . . الشريف المرتضى . . الساكن مرقده على ضفة نهر ديالى بما تطويه أرضه من بشر رحلوا شهداء وقتلى، كل على طريقته! . . و تمرّ على السجن الذي كان يصدح فيه كل صباح ذات زمان صوت السجناء ينشدون . . سنمضي سنمضي الى ما نريد.. وطن حر وشعب سعيد . . فيجتاح صباحات البلدة، ويغمرها بالنور و الأمل بعد أن يحممها بأثير شفاف زلال فجرا الصوت الرخيم للسيد عبد الكريم المدني! . . يا للأبهة! . . نور على نور!
و تمر . . صباح الخير على . . المحطة . . التي كان يمر بها قطار الفجر ينقل زوار  . . أبي الجوادين . . و يمر بها قطار الساعة السابعة مساء يعود بالآتين للبلدة، و قد ذهبوا به صباحا زواراً الى بغداد القريبة . . و تـُصبّح القصيدة على . . مشكاة مؤيد سامي . . ذاك الكتبي النبيل الذي ما كفّ في زمن الدكتاتورية عن تزويدنا بالثقافة المحرمة عند السلطة. و بعد سقوط البلد بيد محتلين شتى أمريكان و أيرانيين و أتراك و سعوديين، سقط مؤيد شهيدا بإمتياز . . و كان أول شهيد يسقط في بهرز المنكوبة التي كانت يوما . . بهرز ذات العماد!

          و ما نسيت . . صباح الخير . . أن تمر على محلة . . أم النوى . . و ما فيها من حكايات و صراعات قديمة، بخاصة و فيها سقط  بعد الإحتلال أول شهيد . . نجاح حمدوش أبو ولاء . . شهيدا شيوعيا بامتياز!  . . و يمر قطار . . صباح الخير على . . شفته . . الضيعة المستلقية على نهر ديالى، المشهورة بأهلها الطيبين، زرق العيون وخضرها وشقر الوجوه، موطن شهداء لا يحصون إختطفتهم طغمة الدكتاتورية يوما، وظلت زوجاتهم وأمهاتهم بإنتظارهم الى يوم لا قرار له، يرين أرواحهم ترفرف فوق المكان، يترقبن عودة الغائب الذي لا يعود! . . و في مقاهيها يجلس . . أبو أسد . . ذاك الكومساري العصامي، راكب الدراجة الهوائية الأبدي، يتحدث لعاشور ولأبي عباس مهدي مراد و لعطا و لحيدر  و... و...! . . هذه الضيعة هي شيعية حقاً و بامتياز، و هي من تربى أهلها على ذاك القبس الذي يقول . . من لم يكن أخاك في الدين فهو نظيرك في الخلق . . و بهدي ذاك القبس أبت ان تنزل الى هاوية الطائفية الشيعية، حين أرادت فئة لها أن تتردى في تلك الهاوية . . و مع ذلك لم تسلم   . . شفتة  العيون الزرق و الخضر  . .  من غدر الإرهاب، و دفعت صفا من الشهداء يصلون في مسجدها!

هذا عن الأماكن! . . أما عن الأزمان، فتمر . . صباح الخير . . السجل على  . . الصبح . . بل على الأصباح التي كان فيها . . غلوبي أبو المعلا . . يشوي لحومه، فيتضمخ برائحتها السوق قبل أن يتنفس اليوم نوره!  . .و تمر . . صباح الخير . . على   . . الأسرار النائمة . . زمنا، بل أزمانا، في منعطفات البلدة حبا ومكائد و إنحسارات و فيوض مشاعر حبيسة.

 و تمر . . صباح الخير . . على  . . الجنة والجحيم . . و ما بينهما من خيط رفيع ينقلب فيه الزمن رخوا، فلا يدري المرء أهو في رضى أم في هوى! . . و تمر على زمن الصيف، و وقت الخريف، يأتي بعده بـعطر . . الشبوي . . الحاد، تغمر أنفاسه شوارع البلدة القديمة من البساتين المحيطة بها، و من دور أكابرها، قبل أن تغرق البلدة بآسن القتل والدم الذي اساحه فرسان الظلام!
          و تعرج . . صباح الخير . . على الصباحات و على  . . ما تحلم به العدسات والمآقي . . من ولائم الرؤيا يخلقها سراب الوهم بـ  . . أقمار مخبوءة في عباءات . . تحرض الأحاسيس! . . و على تنسى القصيدة أن تصبِّح على . . النخل المثقف . . الذي يلهث الآن عطشا مهما إمتدت به الجذور! . . و على  . . قنطرة الغائبين . . مقابل . . مقهى مجيد محسن . . العتيقة الجديدة، تستحضر قوام كل من غاب عنا في ليل بهيم أو ليل يملؤه نور الشمس! . . و على . . الكورنيش . . الممتد على  . . الشاخة . . الذي شهد مئات، بل آلاف حلبات النقاشات المحتدمة في السياسة، و الهامسة في الحب! و على  . . المقر . . الصامد لحزب يطل من علياء مقامه يضج بالوعي الحزين الحريف!

 و على الأرواح تخطر . . صباح الخير . . الذكرى في قصيدة تلملم ثنياتها من وجود ينشخص ببحران لحظاته في ذاكرة البلدة، لأناس رحلوا و لأنبياء قادمين، كانوا و سيكونون علامات فارقة في تاريخ البلدة . . حيوات كانت تضخ في شرايين البلدة سماتها، حيوات كانت لها هوية، أناس صنعوا للبلدة نسيجها في الزمان! . . فتمر . . صباح الخير . . أول ما تمر من تلك الحيوات على . . الملاية مائدة . . تلك المرأة الفريدة من نوعها، بحكاياتها عن الأفراح و الأحزان، تطهر نفوس المثاكيل هنا، و تروح هناك لتشيع دفء الفرح بأناشيد متعة حريفة و مدهشة . . يا لها من جدلية هذه التي تحييها هذه . . الملاية   . . الرحالة في البلدة طولا و عرضا، لهوا و عيشا!

          و بتصبيحها تذكرنا القصيدة بـ . . ماهي العربنجي . . والد الفنان التشكيلي الفكه المحبوب . . وحيد ماهي . . و ماهي، مع أنه عربنــي، إلا أنه كان سيمياء ثقافية قائمة بذاتها في البلدة قبل أكثر من نصف قرن . . يطوف كل يوم في أزقة البلدة بإعلان كبير عما تعرضه دار السينما في البلدة، يقلد الممثل بطل الفلم أيا كان، و تكون مكافأته أول المساء تذاكر مجانية لدخول العرض في الموقع الثاني هو و زوجته خالتنا . . صديقة . . تلك الشقراء الطيبة القصيرة القامة، البسيطة و العفوية الحديث . . في زمن كانت مقاعد غير قليلة في الموقع الأول تحتلها نساء كثيرات في ذاك الزمان . . يا للمفارقة! . . بلدة صغيرة كان فيها قبل ستين عاما دارين للعرض السينمائي و نساء يذهبن مع أسرهن الى دار السينما! . . ليس في الإمكان الآن أبدع مما كان!

 و تصبح القصيدة على . . علي المحروك . . القائد الشيوعي، إبن البلدة الأثير، الذي لا ندري ماذا سقاه أزلام الدكتاتور في السبعينات فسبب عنده لوثة . . يا للخسارة! . . كم ستبلغ خسائرنا بعد؟ . . و على رأي القائل . . أين نختبئ من أعدائنا؟

و تذكرّنا . . صباح الخير . . بـ . . فوزية . . المتعنفصة، المكنية بـإسم الدربونة التي تسكن فيها . . أم الدجاج . . و حكايتها مع المحافظ، بل حكاياتها التي لا تحصى، التي لا تخرج عن حدود . . التعنفص! . . و تذكرنا . . صباح الخير . . بالشهيد . . ياسين دقيقة . . المثقف العصامي البسيط، الضئيل الجسم، الذي راح ضحية بساطته و طيبته، و هو يسير معتمرا بيريته على جرف . . الشاخة . . و كان قد أمن للوحوش وهو يتهادى في مشيته، ناسيا المثل العراقي السائر . . كل مأمِّن خسران!

و آخر زمن تمر عليه . . صباح الخير . . هو زمن . . الرحيق المختوم . . و هو زمن آت، زمن ما يزال في طي الأزمان المقبلات، زمن لم تـُفض بكارته بعد . . و من ذا يا ترى سيفضّ تلك البكارة؟ . . رحيق مختوم . . ظل يرافقنا في كل الأزمان، و منها زمن خـُيـّر فيه، من أجل أجمل ما فيه، يوما ما ذاك . . المعلم الجميل . . الشاعر خليل المعاضيدي، بين موت في الوطن في عز النهار، وموت آخر في الوطن في قلب الليل و السجن الرهيب، فإختار النوع الثاني من الموت . . يا للبطولة! . . موت يهب فيه الفرصة، بعد ثلاثين عاما، لشاعر من طراز . . إبراهيم الخياط . . كي يحدثنا عن . . رحيق مختوم بكر . . نراه في زمن آت!

 فهل سنظل نحن ندور في دوامة . . الرحيق المختوم . . طول الدهر، يذكرنا به مرة أخرى، بل مرات، في أزمان قادمات شعراء غير إبراهيم الخياط؟ . . أو لأضعها بعبارة أخرى، هل تركنا زمننا السعيد وراءنا، أم أنه أمامنا، ونسعى إليه، محكوم علينا مثل سيزيف نرتقي الى . . الرحيق المختوم . . و ما نكاد نصل إليه حتى نتدحرج منكفئين الى السفح ويظل هو . . مختوما!

في قصيدة . . صباح الخير بعقوبة . . حاول  الشاعر أن يخلق على طول القصيدة معادلات نفسية و موضوعية للقارئ، بتكراره لعبارة . . صباح الخير . . هذا ربما لكي يعوّضنا لا شعوريا عن كل تلك الخسارات التي مرت عليها صباح الخير، فهل نجح في ذلك؟ . . لا أدري، مع أن القصيدة هزتني رغم بساطتها.

صباح الخير . . . بعقوبة!
شعر إبراهيم الخياط
صباح الخير على الشاخة
                على الصبحِ
                على الأحبة
                على شارع "الأطبة"
                على المساطر المكتظة
                بالفج و العمال و العبوات
                على "العنافصة"
               على الملاية "مائدة"
               على ماهي
               على المقاهي
               على السوق ما شاء الله
               على المنارة الشاهدة
               على المنارة الشهيدة
               على اسرارنا النائمة
               على مرقى "أبي ناظم" اليقظان
                على الجيران
                على العميد البلدي 
                على "السراي" العظيم
               على دارة السيد عبد الكريم
               على "المحرو" الذي لا يرحل
               و لا يقيم
               على "الشريف" و ما طوى
              على الجنة و الجحيم
              على السجن و الحمامة
              على المحافظ و فوزية
              على الشهداء و القتلى
              على المحطة و المسفرين
              على قطار الساعة السابعة
              على "السفينة الموارة
              على الشبوي
              على مشكاة "مؤيد سامي"
              على "ياسين" الدقيقة و الحقيقة
                                       و الرؤى
              عليك يا "أم النوى"
             على جرف الملح و جرف الحلو
                                 و جرف الهوى
          على القلق الشمسي     
           عند الفوتو "حسن"
           على بنات الحسن
           على البنات
           على "شفتة" العيون التي
                   تحلم بها العدسات
           على القمار المخبؤة بالعباءات
           على النخل المثقف و النبقِ
                             و الفردقال
           على قنطرة الغائبين
           على الحالمين
           علينا
           على الكورنيش الذي عاد إلينا
           على "المقر" العالي
           على الليالي
           على الرحيق المختوم
           و على المعلم الجميل
                             خليل
صباح الخير . . صباح الخير        
ـــــــــــــ  
الفردقال: البرتقال بلهجة ضواحي مدينة بعقوبة.



      





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق