بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 13 أكتوبر 2016

حلقة نقاشية في النقد الترجمي ... هل يمكن ترجمة الشعر؟

A Seminar  on translation criticism at the Uni. of Zakho …
                Is It Possible to Translate Poetry?
By: Ahmed Khalis Shalan

حلقة نقاشية في النقد الترجمي ...
          ... هل يمكن ترجمة الشعر؟
أحمد خالص الشعلان

مثلما هو معروف و معترف به، لست و لا القراء، حسبما أظن، بحاجة هنا الى ذكر النتائج الخلافية التي تثيرها الترجمة. و قد لا يحتاج المرء هنا أيضا لقول المزيد عن لاتطابق حتمي يحصل بين النص الأصل و النص الهدف، لأنه بات هو الآخر من البديهيات. غير أني هنا، و بصدد الترجمة تطبيقا، أجد نفسي مضطرا للتطرق الى الخسارة الدلالية التي يمنى بها النص جراء الترجمة، و نوع تلك الخسارة و تأثيرها على المتلقي، بخاصة عند ترجمة ألأدب، بسبب عوامل:
-          يقع قسم منها داخل اللغة،
-         قسم آخر يقع خارج اللغة، و
-         قسم ثالث يتعلق بجنس ألأدب المترجم و فنه.
و ما يسترعي انتباهنا تحديدا هنا هي الخسارة الدلالية و الفنية الحاصلة في ترجمة الشعر. ذلك، ربما لكون الشعر هو نوع ألأدب الذي يتعرض، عند ترجمته، لأكبر خسارة دلالية على الاطلاق من بين ألأنواع ألأدبية قاطبة.

          و من هنا، قد يجد المرء مسوّغا، يحمله الى حد بعيد، الى قبول ما يقوله البعض من " . . . ان ترجمة الشعر هي أم المشاكل الترجمية . . .". و تعبير " أم المشاكل" قد يشير هنا الى، أو يعني قطعا، أن عملية ترجمة الشعر مليئة بالمطبات! و يحصل هذا ربما لأن الشعر، من بين جميع ألأنواع ألأدبية، هو الذي يتمتع بأشد الأساسيات صرامة و خصوصية، ما يجعله يختلف اختلافا حادا في هذه الأساسيات، من ثقافة الى أخرى، و من لغة الى أخرى. فالرواية مثلا نجدها، سواء في عموميات فن الرواية أو في خصوصياته، لا تختلف من لغة الى أخرى، أو من ثقافة الى أخرى، الّا اختلافا طفيفا،  لا يعيق ترجمتها، أو يعيق الاستمتاع بقراءتها منقولة الى لغة أخرى. و قد يصح قولنا هذا على المسرحية أيضا، الى حد كبير. و يصح، دون ريب، على القصة. غير أن الشعر هو، لوحده، الذي قد يلتقي في مختلف اللغات و الثقافات عند عموميات من قبيل: يجب أن يكون منظوما، و موزونا، و مقفى، غير أنه يختلف اختلافا صارخا، يكاد أن يكون مطلقا في خصوصيات التي تتعلق بهذه المفاهيم العامة.

خذ مثلا مبدأ بحور الشعر و أوزانه. الأوزان، مبدأ عاما في الشعر، موجودة في أشعار جميع ألأمم و الجماعات، و لكننا حين نأتي الى خصوصيات الأوزان، قد لا نجد  وزنا واحدا في الشعر المنظوم بالعربية يتطابق مع أي وزن من أوزان الشعر المنظوم بالانكليزية، و هما اللغتان اللتان نحن بصددهما هنا حصرا. و قد يصح قولنا هذا حتى ان تحدثنا عن شعر عربي و كردي، أو شعر عربي و تركي، أو شعر عربي و الماني، الخ. و مع أحتمال أن تكون الاختلافات أضيق قليلا، فهذه البديهة تصح أيضا، الى حد كبير، حتى على أوزان الشعر المتداولة في لغات تنتمي الى ألأسرة اللغوية الواحدة، مثل الانكليزية و الالمانية و هما من اسرة اللغات الجرمانية، أو مثل الفرنسية و الايطالية و هما من أسرة اللغات الرومانس، فما بالك، اذن، حين تكون اللغتان، المنقول منها و المنقول اليها، غريبتين عن بعضهما، مثل العربية (سامية) و الانكليزية (جرمانية)!

ففي سبيل المثال، نحن نسمع العروضيين العرب يتحدثون عن المتقارب، و المتدارك، و الوافر، و الكامل، و الهزج، و الرجز، و الرمل، و السريع، و الخفيف، و المضارع، و المقتضب، و المجتث، و الطويل، و المديد، و البسيط، و كلها بحور للشعر العربي. و نسمع العروضيين الانكليز يتحدثون، مثلا، عن تفعيلات عامة في الشعر الانكليزي، مثل: (عمبق: iamb  و هي تفعيلة شعرية ذات مقطعين واحد غير منبور يتبعه آخر منبور) و (بيون  paeon: و هي تفعيلة شعرية نادرة في الشعر الانكليزي تتكون من مقطع منبور و ثلاثة غير منبورة) و (تروشي trochee: و هي تفعيلة، عكس عمبق، تتكون من مقطع منبور يتبعه مقطع غير منبور) و (أنبسط anapaest: و هو تفعيلة تتكون من مقطعين غير منبورين يليهما مقطع منبور) و (دكتيلdactyl : و هو تفعيلة تتكون، على عكس انبسط، من مقطع منبور يليه مقطعين غير منبورين) و (سبونديspondee : و هي تفعيلة تتكون من مقطعين منبورين أو يسميان طويلين أحيانا)، و ربما توجد تفعيلات أخرى لسنا هنا بصددها. و المهم هنا، من ناحية أخرى، هو أننا لو حاولنا ايجاد تطابق، من أي نوع كان، بين العروض العربية و تلك الانكليزية، لا بد أننا سنواجه اخفاقا أكيدا! هذا، ناهيك عن تفصيلا ت لها علاقة بالعروض موجود هنا و غير موجود هناك، أو بالعكس.
 لنأخذ، في هذا السياق، مثلا، مصطلحات متداولة في كل ألأزمان، و لها دلالات تقنية محددة موجودة في الشعر العربي من قبيل: "عروض" و "ضرب" و"سبب" و "وتد" و "صدر" و "عجز" و "فاصلة" و  "حشو"، و غيرها كثير بكل تفصيلاتها الفرعية، و لو حاولنا أن نجد، لها جميعا، مقابلات هي الأخرى في الشعر الانكليزي، نظريا و تطبيقا، و ما هي ان وجدت؟
الاجابة هنا تبقى، دون ريب، مفتوحة على مجهول، قد لا يأتينا بخبر يقين!

أما اذا اردنا التحدث عن القافية العربية بأنواعها، التي قد لا تخطر تفصيلاتها التقنية ببال قارئ الشعر، في محاولة لايجاد متطابقات لها في القافية الانكليزية، فتلك مسالة أخرى فيها نظر طويل، و قد لا تفضي محاولة حلها الّا الى متاهة!

و عدا ما سلف من حقائق عن مبدأ الأوزان الشعرية و تفصيلاتها التقنية، فان المرء لا بد أن يجد من الاختلافات في أساسيات الشعر بين اللغات، المختلفة عموما، ما يتطلب حسابه حسابا متأنيا عند ترجمة الشعر. و من ذلك، مثلا لا حصرا، ما يلي:
-    الخواص الموسيقية للعبارة الشعرية و جرس الكلمات في اللغتين، و نحن نعلم جيدا أن ذلك له، فضلا عن ألأصوات الطبيعية التي تختلف باختلاف البيئتين، علاقة بسلالم الموسيقى عند ثقافتي اللغتين.

-    الثقافة؛ و أعني ما نجده ملائما هنا قد لا يلائم هناك، أو ما هو ساخن هنا قد يعد باردا هناك، و ما هو مقبول اجتماعيا هنا قد لا يجد قبولا  هناك. و يدخل ضمن هذا الخاص و العام من دلالات الأماكن و التواريخ، أياما و شهورا و سنين، و معها الرموز التاريخية و الوطنية.
-          سايكولوجيا شاعر اللغة المصدر و سايكولوجيا مترجم اللغة الهدف.
-         القدرة التخيلية للشاعر المصدر و القدرة التخيلية للمترجم الهدف.
-    بنية اللغة المصدر و بنية اللغة الهدف، و ما تحملانه من تركيبات متباينة  تتطلب المعالجة، و من اختلافات نحوية و قواعدية تتطلب المراعات و التصريف الذي يخضع لنمط الجملة عند اللغتين، و يضاف اليها اللغة الاصطلاحية المستعملة في كلا المستويين؛ لغة الحياة اليومية و اللغة القياسية.
-          أفضليات الاستعمال الاسلوبي للغة عند كليهما؛ شاعر اللغة المصدر و مترجم اللغة الهدف.
-         دلالات الأدوات الشعرية و ما تفرزه من مؤثرات صوتية، و حسية، و بنيوية، و بلاغية، و غيرها!
-    ناهيك عن صلة القربى بين اللغتين؛ أموجودة أو لا، متقاربتين أو متباعدتين؟ مثلما هو الحال هنا، فالعربية لغة سامية، و الانكليزية لغة هندوأوروبية، و هما لغتان لا يجمعهما أي جامع عدا عموميات universals و هي مشتركات اللغات جميعا بغض النظر عن أصلها. و هذا العامل لوحده قد يثير عند البعض شكوكا عن الجدوى الدلالية و الجمالية لترجمة الشعر، بالذات من الانكليزية الى العربية، أو بالعكس!
-    أخرى كثيرة، قد لا تخطر ببال المترجم، و لكنها تشخص أمامه فيحار فيها، مما يضطره لايجاد ستراتيجيات معقولة و مقبولة منطقيا أو فنيا للتغلب على اشكالاتها.

و لا بد لنا من أن نذكر هنا أيضا بأن التعقيدات التي ترافق ترجمة الشعر كانت قد ولّدت مواقف (من ناحية كونها، مثلما قلت، مليئة بالمطبات!)  من ترجمة الشعر، ليست وليدة اليوم، أو ألأمس القريب. فهذه المواقف قد تعود بنا تاريخيا و ثقافيا الى عهود بعيدة في ثقافة العديد من اللغات. فنظريا، نجد في الكلاسيكيات الثقافة العربية، مثلا، ان عمر أبو عثمان الجاحظ كان قد عبّر، قبل أكثر من اثني عشر قرنا، عن استحالة ترجمة الشعر، بقوله كونها مهمة مستحيلة، و ناهيك عما يقوله بعض الكتاب المعاصرين عن ترجمة الشعر من أنها "فن الفشل"، برأي امبرتو ايكو، ألأديب الايطالي. و موقف الشاعر ألأمريكي روبرت فروست من ترجمة الشعر يتمثل بقوله المعروف " . . . في الترجمة يتعرض الشعر الى الضياع!"، ناهيك عن اقصاء افلاطون للشعر كله، من جمهوريته الطوباوية، بسبب لامنطقية الشعراء، فكيف بنا و نحن بترجمتنا للشعر نريد أن نخضعه الى منطق الترجمة على هذا النحو أو ذاك!
* * * * *                * * * * *      * * * * *
و على الرغم من ذلك؛ و لأني، و حتى الآن، كنت قد ترجمت ما لا يقل من ثلاثمائة قصيدة من الانكليزية الى العربية، و عدد قليل منها من العربية الى الانكليزية. و لأني، من ناحية أخرى، لا أحب الحديث في النظريات، و لا الخوض فيها، فأني آخر ألأمر، عندما كنت، و ما أزال، حين أشرع بترجمة قصيدة لا تحضر في ذهني أية نظرية، لأجعل منها فنارا يوجه سفينتي الى بر سلام الترجمة (ان كان للترجمة بر سلام)!، و أنما أروح، لأدع فكري و قلمي يشتغلان سوية، بعد قراءة قد تتكرر الى عشر مرات أو عشرين، أو أكثر، للقصيدة التي أروم ترجمتها، أمرّ خلالها بمخاض لا يختلف عن مخاض شاعر قرب جذع نخلة، أو سفح جبل، أو ضفة نهر، لكي انتج ذاك النص الذي أزعم فيما بعد أنه قصيدة مترجمة. و في خضم تجربة من هذا النوع، صار بامكاني أن اصوغ نظريتي الخاصة، بمعنى رأيي الخاص، عن امكانية ترجمة الشعر.
و تطرح هذه النظرية ثلاث افتراضات عن امكانية ترجمة الشعر، هي:

1-  الافتراض ألأول يقول "نعم" بالامكان ترجمة الشعر اذا كانت عملية الترجمة مبنية على أساس المعنى، و ليس غير المعنى.
و هذا يعني اهمال الأساسيات التي بنيت عليها القصيدة جملة، عدا المعنى. و من الواضح ان هذه الامكانية مبنية أساسا على ان موضوع الترجمة هو نقل الرسالة التي تحملها القصيدة، لا غير! و لكن مع ألاعتراف بحقيقة أن النص المكتوب نظما في اللغة المصدر، يكون قد تحول، دون ريب، الى نثر في اللغة الهدف. و بذا يجري في هذه الحالة تعريض القارئ، اذا جاز لنا القول، الى احتيال من نوع ما، مبني على أساس ايهامه بأنه يقرأ شعرا، في حين أنه لا يقرأ سوى ثيمة النص الشعري المصدر مكتوب نثرا في اللغة الهدف. و هنا سيتعرض النص المصدر لخسارة، أكبرها، دون ريب، في فن نظم الشعر، و أقلها في المعنى.

2-  الافتراض الثاني، و ان كان ينطوي على تناقض منطقي صارخ، أو مفارقة لافتة، فمفاده "نعم بالامكان ترجمة الشعر"، و في الوقت نفسه، " . . . لا، ليس في الامكان ترجمة الشعر!". غير أن المرء هنا قد يكون بمقدوره أن يعزز قوله "نعم"ـا أو "لا!" بسبب تضادهما المتوازن. "نعم!"، بخاصة حين يروم المترجم بالأساس تحقيق بعض الشروط الفنية اللصيقة بفن الشعر، يسعى فيها لتزويد القارئ بانطباع أنه يقرأ شعرا منقولا من لغة غير لغته. يحصل هذا بخاصة حين يتمتع المترجم بمهارة تمكنه من استعمال أقصى قابلياته لخلق شعر مرسل باللغة الهدف يتمتع بخاصية موسيقية محسوسة، تتوفر بتلاعب ماهر من لدن المترجم بعناصر اللغة. غير أن هذا ألأمر قد لا ينجح، ما لم يكن المترجم نفسه ناظم شعر بلغته ألأم، و يتمتع في الوقت نفسه بمكنة عالية في اللغتين، بحيث لا يترك حجرا من أحجار اللغة لا يقلبّه، من أجل خلق قصيدة من نوع ما باللغة الهدف. و مع ذلك، فاننا هنا حتى لو تغاضينا عن قول ت. س. اليوت "لا يوجد شعر حر أو مرسل، و انما هناك شعر جيد و شعر ردئ" فان القارئ هنا أيضا قد يتعرض لاحتيال من نوع ما، لأن المترجم سيترك القارئ يظن بأنه يقرأ شعرا مترجما، في حين أنه في الواقع يقرأ شعرا مرسلا مكتوبا بلغة غير لغة النص المصدر، و لكن ثيمته مبنية على ثيمة النص ألأصل. و"لا!"، حين لا يتمتع المترجم بروح شاعر قادر على خلق تجانس في النص الهدف ليسوّغه شعرا مرسلا أو شيئا من هذا القبيل! و هنا ستكون الخسارة على ألأغلب في كليهما؛ الشكل و المعنى، و لكنها، دون ريب، ستكون أكبر في المعنى، بخاصة حين لا يتمتع المترجم مثلما قلت بما يسمى "بالنفس الشعري".

3-  و الافتراض الثالث يقول " . . . . أنه لمن المستحيل اطلاقا ترجمة الشعر نظما بنظم". و عبارة "نظم بنظم" هنا تعني في الغالب تحويل الكل (شكلا و مضمونا) من شعر موزون مقفى في اللغة المصدر الى شعر موزون مقفى في اللغة الهدف. و محاولة من هذا النوع، في الواقع، قد تشبه، ان جاز لنا التشبيه، النية في تحويل سيارة سباق أنيقة، و خفيفة، و جميلة، بصغرها و دقتها و انسيابيتها، الى سيارة شحن. ذلك، لأن المترجم في هذه الحالة عليه افتراضا نقل قصيدة موزونة مقفاة في اللغة المصدر، بصيغة قصيد منظوم في اللغة الهدف. و مع ذلك، لو توخينا الدقة في التعبير هنا لقلنا بأن التطابق، أو قل التماثل، أو التناظر، أو اية صفة من هذا النوع، لن تتحق قطعا، لا في المضمون، و لا في الشكل، و لا في التلقي. و من هنا، لن تكون للقصيدة المبتدعة بالقصيدة ألأصل سوى علاقة واهية، لدرجة أنها لا تصلح أن تسمى لها ظلا! ذلك، ببساطة، لأننا مهما فعلنا لن نجد اي تطابق بينهما، لا فنا و لا دلالة، بسبب ما ذكرته سابقا من الاختلاف الصارخ بين خصوصيات اساسيات الشعر الانكليزي English poetry essentials' peculiarities  و خصوصيات أساسيات الشعر العربي. و ناهيك عن الاختلاف البيّن بين أبنية اللغتين أساسا، كونهما من أسرتين لغويتين مختلفتين، و ناهيك  أيضا عن الاختلافات الثقافية و خصوصياتها، مما يقف عثرة في تحقيق اي تطابق في النظم الشعري بين اللغتين. فما بالك بالاختلافات ألأخرى العديدة المذكورة في صدر كلامنا! و من الممكن، واقعا، أن تكون الفجوة أكبر في امكانية ترجمة من هذا النوع، اذا علمنا بان قسما من الاختلافات بين اللغتين موروثة في اللغتين و قسما آخر منها يقع خارج اللغتين، و لكنه يفرض نفسه أثناء الترجمة.
و من المحتمل أن تكون الخسارة هنا مؤثرة، شكلا و مضمونا. ذلك، لأن مما يرد الى ذهن المرء فورا، هو أن لحظة خلق القصيدة ألأصل لن تتكرر على الاطلاق في داخل وعي المترجم مهما كان بارعا في التقمص الترجمي، لأن التاريخ و الزمن لن يكررا نفسيهما! و بذا، قد لا يرتقي نتاج المترجم سوى الى تكرار كاريكتيري، يصدق عليه قول ماركس معقبا على هيغل قوله أن التاريخ يكرر نفسه: " .  . . صحيح ان التاريخ يكرر نفسه، غير ان هيغل نسي أن يضيف بأنه في المرة ألأولى يكون دراماتيكيا و في الثانية يكون كاريكاتيريا!".
و هذا باختصار يعني أن القصيدة المترجمة هنا ستكون مختلفة عن القصيدة المصدر على جميع المستويات؛ سايكولوجيا، و ثقافيا، و بنيويا، و جماليا، و أسلوبيا، الخ من صفات ذات علاقة. و من المفارقة هنا هو أن القارئ، في مثل هذه الحالة، لا يتعرض للاحتيال من ناحية ايهامه بأنه يقرأ قصيدة، لأنه، في الواقع و فعلا، يقرأ قصيدة،  غير أنه يتعرض لاحتيال من مورد آخر، و هو أنه يقرأ قصيدة في اللغة الهدف، تحمل اسم شاعر من اللغة المصدر، لا علاقة له بنص القصيدة المبتدعة باللغة الهدف. و لكن عزاءنا هنا قد يكون في امكانية استنهاض قدرتنا على تلمس ظلال صور القصيدة المصدر في القصيدة الهدف، و هي تعكس للقارئ لونا باهتا من الثيمة ألأصلية.
قد يسأل أمرؤ هنا معقبا: لم هذا الاصرار، يا ترى، من كاتب هذه السطور على ترجمة الشعر؟
و الجواب هنا له بعدان: عام و خاص.
-     العام: هو أننا بحاجة لترجمة الشعر لضرورات ثقافية، ما دام الشعر يشكل جانبا مهما من جوانب اللغة التي ندرسها، لأنه جزء من الأدب، و الأدب يشكل مصدرا مهما من مصادر التغذية الراجعة للغة؛ و
-    الخاص: هو أن ترجمة الشعر، عند كاتب هذه السطور حصرا، (و ربما عند كل المترجمين الواعين!) هي نوع من أنواع التسلية، التي لا تخلو من غاية عقلية ادراكية. و طالما كان الشعر في بنيته السطحية و العميقة، على حد سواء، هو نوع من رسالة مشفّرة coded message  غير مباشرة لمشاعر المتحدث speaker في القصيدة، فليس ثمة شئ أشد اغراء عند دارس لغة، اذا كان مترجما محترفا، من فك شفرات decode ألأفكار من لغة ما و تحويلها trans-code بعملية عقلية ادراكية بالغة التعقيد، و ربما غير محسوسة حتى في مجرى تفكير المترجم، الى فكرة عامةnotion  محايدة قبل أن يعيد تشكيلها بشفرات encode لغة أخرى. و الشعر، حسبما يظن فنيا، هو أكثر نتاجات اللغة ألأدبية تشفيرا على الاطلاق. و أجدني هنا أذكر مثال ادوارد فتزجيرالد Edward Fitzgerald، مترجم رباعيات الخيام من الفارسية الى الانكليزية في القرن التاسع عشر مثالا. اذ لم يلتفت، لا الجمهور الانكليزي آنذاك، بل و لا حتى النقاد عموما، الى موضوع مدى التماثل، أو التطابق، أو التشابه بين الرباعيات بنصها الانكليزي و نصها الفارسي، قدر احتفائهم جميعا، نقادا و قراء، بما خلقته قدرة فتزجيرالد الخلّاقة من شعر مكتوب بالانكليزية مستوحى من مناخ الرباعيات و جوها الروحي الآسر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق