بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 5 أكتوبر 2016

الماركسية و علم الجمال

On Philosophy … a section from Monroe C. Beardsley’s
Aesthetics from the Ancient Greek to Present (1)
Translated by Ahmed Khalis Shalan 

في الفلسفة ... قسم من كتاب مونرو بيدزلي الموسوم ...
علم الجمال منذ الإغريق القدامى و حتى الوقت الحاضر
 ترجمة أحمد خالص الشعلان
Monroe Beardsley 

              A. KH. Shalan                 


                                            









Marxism's Aesthetics
المـاركسية وعلـم الجمـال
على الرغم من حبهما الشامل للادب والهم الفلسفي، لم يعمل كارل ماركس Karl Marx ولا فردريك أنغلز Friedrich Engels على وضع نظرية في علم الجمال. إلا أن النظام الفلسفي الذي طوراه على نحو مشترك بينهما، و هو ما سمي فيما بعد بـ "المادية الديالكتيكية Dialectical Materialism " كان يتضمن مبادئ متفرقة تصلح اساسا لعلم الجمال، مع اقتراحات تتضمن شيئا يشير الى كيفية تأسيس علم للجمال. وحينما جرى توسيع هذا النظام الفلسفي على يد ف.آي. لينين V.I. Lenin و منظرين ماركسيين آخرين، كانت الغاية منه توحيد هذا النظام من أجل تكييف فلسفة تصلح للفن و ذات دلالة كانت ماتزال في مرحلة التطوير. وكانت هذه الفلسفة تدين بالكثير للمناقشات التي جرت في القرن التاسع عشر عن البيئة الاجتماعية للفن ووظائفه الاجتماعية التي اشير اليها سابقا، ومع ذلك فان هذه الفلسفة قد إختطت لنفسها منهجاً خاصاً للوصول الى استنتاجات ذات أهمية. لقد أضفى تفسير المادية الديالكتيكية للعالم، ومقولاتها، ومناهجها في البحث، على علم الجمال الخاص بها سمة مميزة ، قويت بسبب الظرف الذي نشأت فيه نسبياً، والذي تميز باطار سياسي يفرض مقاييساً خارجية تمليها الأيديولوجية . وبالرغم من ذلك اظهر علم الجمال نفسه قدرة على الوصول الى افكار جديدة، وعلى المساهمة في نقاش اساس يجري بين مفكريه،  ذوي الآراء المتباينة , للخوض في عدد من المواضيع.
       
L. Feurebach
لقد جرت صياغة المبدأ الاساس في علم الجمال من قبل ماركس، وهو القائل بأن الفن، مثله مثل كل النشاطات الفكرية العليا، ينتمي إلى "البناء الفوقي" super structure الثقافي او الى ايديولوجيات الطبقة المسيطرة. ويتقرر هذا البناء الفوقي (و هو مبدأ عام اوجدته نظرية لودفيغ فيورباخ Ludwig Feuerbach في الدين) بشروط اجتما- تاريخية socio-historical معينة، وبخاصة من قبل شروط اقتصادية أساسية، والمقصود هنا وسائل انتاج  موارد الثروة و توزيعها في مجتمع معين، و في حقبة تاريخية معينة. فحين يظهر النشاط الفني في سياق الانتاج عموماً فأن وجوه عديدة من الممكن أن يحملها هذا الظهور، في حين يجري التقليل من أهمية وجوه أخرى تركز عليها فلسفات أخرى. وبذا يَصب علم الجمال الماركسي جل اهتمامه على النسيج الاجتماعي الذي يعمل فيه الفنان والذي ينشأ فيه فنه، ويمثل حدود حريته من القوى الاجتماعية التي تتيحها لها الرأسمالية capitalism والاشتراكية socialism. ففي كتاباته المبكرة الموسومة "مخطوطات فلسفية واقتصادية " Economical and Philosophical Manuscripts (المكتوبة عام 1844، ولم تنشر إلا في 1932) يقوم ماركس، مثلاً، بإجراء تحليل تظاهراتي عميق لـ "اغتراب alienation" العمل و الذي، برأيه، لا بد ان يطبع الانتاج في نظام يقوم على الملكية الخاصة، ويحتوي تحليله هذا على عدة تضمينات مهمة تخص الانتاج الفني أيضا.
       
وقد جرى أيضا التوصل إلى نتيجة طبيعية، و هي اكثر تحديداً من فرضية عامة، تخص التبعية السببية للفن للشروط الاجتماعية، والقاضية دائماً بامكانية اكتشاف علاقة سببية بين عمل فني معين والشروط الخاصة بإنتاجه. إذ جرى تتبع تلك العلاقة السببية حتى تم إدراكها، وهي إن عمل الفن بذاته ليس بالامكان فهمه ولا الحكم عليه حكماً صائباً.

 إن واحدة من اصعب المهمات التي واجهت فلاسفة الجمال الماركسيين هي انهم كان عليهم تحديد طبيعة العلاقة بين العمل الفني والقوى الاجتماعية، فضلاً عن تعريف خفاياها و وجهتها . وماركس بنفسه لم يحسبها بوصفها تطابقاً تاماً ، فهو يقول في مقطع مشهور له من مقالته الموسومة "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" Contribution to the Critique of  Political Economy (1859):
        "انه لمعروف جداً ان العلاقة لم تـكن مـباشرة بين بعض حقب التطور العالية في الفن و التطور العام              للمجتمع ، و لا مع القاعدة الـمادية والبناء الهيكلي لتنظيمه . لنر مثلاً حال الإغريق قياساً بحال الأمم             الحديثة، او حتى بحال بشكسبير."
                        (انظر مختارات ماركس- إنجلز في "الادب والفن" ص18)
K. Marks
إلا أن الرأي الماركسي التقليدي جاء لينص على أن الفن، بمعنى معين، هو دائماً "انعكاس للواقع" reflection of reality، و هو استنتاج مستقى من موقف لينين من نظرية المعرفة، و الموقف القاضي بحسبان الفن صيغة من صيغ الإدراك. و في هجومه المتواصل على الفلاسفة الوضعيين positivists في القرن التاسع عشر بكونهم "مثاليين متخفين" crypto-idealists (انظر "المادية و مذهب النقد التجريبي Materialism and Empiric-criticism" 1908)، استنتج لينين بان الفكر كله لا بد ان يعكس بالضرورة الواقع الاجتماعي. ولقد جرى التأكيد، في آخر كتاب سوفيتي عن علم الجمال، و الموسوم  "مقالات ماركسية لينينية في علم الجمال"، على الرأي القائل بأن الفن هو ايضاً "صيغة خاصة من الانعكاس، ومن إدراك العالم".
لقد كان غ. ف. بليخانوف هو المفكر صاحب المساهمة الاكبر، في الفترة ما قبل ثورة اكتوبر 1917، في صياغة علم الجمال الماركسي. ولقد كان كتابه "الفن والحياة الاجتماعية Art and Social Life" (1912) هجوماً ناشطاً على مبدأ الفصل بين الفن والحياة، و هو المبدأ المتمثل بالفلسفة القائلة بنظرية "الفن للفن"، و سيجري تفسيره في هذا الفصل. وينشأ هذا المبدأ حين يوجد تنافر بين الفنان وبيئته الاجتماعية. إنه إحباط ذاتي، طالما أنه "ليس ثمة عمل فني خال تماماً من المضمون الايديولوجي" (ص65). ذلك لان مشجعي هذا العمل هم المدافعين، بوعي أو بلا وعي، عن النظام الاجتماعي الذي يستمر فيه استغلال طبقة لطبقة أخرى. وهذا يؤدي حتماً الى إنحطاط الفن، ذلك لأنه "حين يقوم عمل من اعمال الفن على فكرة مضللة ، وتناقضات كامنة فيه، فانه حتماً سيسبب انحطاطاً في نوعيته" (ص66). و يؤكد بليخانوف بالحجة ايضاً الادعاء المعكوس القائل بأن "أيَّ فنان ذي موهبة مجربة سينمي، وعلى نحو يستحق التقدير، فعالية عمله الفني بالانغماس في افكار التحرر العظيمة لزماننا هذا" (ص93).

ثمة رأى ماركسي مهم آخر، تولى بليخانوف عرضه على نحو بارع، ذلك هو المفهوم الكلي للفن بوصفه اداة أساسية متأصلة للدعاية، و الذي بدا له صالحاً للتبني بسبب دوره الضروري كنتاج للقوى الاجتماعية، ويبقى كذلك حتى في حالة ان تكون تلك القوى الاجتماعية خيرة. و كان عالم الجمال الماركسي هذا، وهو يشبه في هذا بطل مبدأ الفن للفن، يعد متمرداً ضد انحطاط الفن الى مجرد سلعة، و انحطاط قيمته الى مجرد قيمة سوقية (وهو بالضبط ما يجب ان يحصل، برأيه، في ظل الرأسمالية). إلا أن حركة الفن للفن لا تتوسل إلا باقل القليل من الفن، حين تسعى الى جعله وسيلة للاشباع الحسي. فإذا كان علينا ادراك رؤيا نبيلة للفن، فينبغي على الفن ان يغدو، عبر نشدانه الحسي، غاية لغرض اجتماعي ارفع مقاماً. إن النظرية الهيغلية عن الفكرة Idea المشعة عبر الحس، كما أن نبذ تولستوى للمتعة المجردة في تجريب الفن يلتقيان هنا سوية، بمعية التأثير الذي أحدثه واقعيو القرن التاسع عشر الروس مثل بيلنسكي Belinsky وتشيرنشيفسكي Chernyshevsky

 و لقد كان لينين هو من طبع الماركسية، على نحو حازم وبشدة، بطابع البراغماتية السياسية الصارمة، و اعني هنا الميل لجعل الاهداف الثورية الأبعد هي المحك للمقبولية العقائدية. و كان لهذا تاثير قوي ايضاً في المدى الطويل على علم الجمال. وفي بحثه الموسوم "منظمة الحزب و أدب الحزب" (1905)، أكد لينين بالبرهان الحاجة الى السيطرة السياسية على المطبوعات التعليمية و العلمية والاقتصادية.. الخ، أو بالاقل كانت هذه هي الانطلاقة الرئيسة في مناظرته. و قد حصل هذا على الرغم من ان مصطلح "أدب Literature" بامكانه ان يغطي (و في بعض السياقات، عند لينين، كان قد غطى بالفعل) الأدب التخيلي أيضا. و قد هيأ هذا الغموض الفرصة لهذه المقالة كي تغدو، في ثلاثينات القرن الماضي، التبرير النصي المناسب لاخضاع كل اعمال الأدب، و الموسيقى ، والفنون الأخرى إلى سيطرة الحزب بكل ما في الكلمة من معنى وبالنتيجة الى سيطرة الحكومة عليه.
       
و لم ليكن لينين نفسه مهتماً، حين تسلم السلطة، بفرض قيود على الفنون، على الرغم من ان بلاشفة آخرين لم يشجعوا أي نمو جدير بالملاحظة في الاعمال الابداعية في الرسم و الشعر، كانت قد وسمت فترة ما قبل الثورة في روسيا. أما في فترة ما بعد الثورة، وفي عشرينيات القرن العشرين ، فقد برز كم من التجربة الابداعية المثيرة للاعجاب وباشكال متنوعة من الفن، وبالأخص في مجال الصور المتحركة، و المسرح، و الشعر. وكانت هذه تسير بموازاة جدال حر ونشط في الامور الجمالية. و لقد كان الشكلانيون Formalists يقفون عند النهايات القصوى في موضوعي الموقف العقلي posture  و الحدة intensity على حدٍّ سواء، اللذين تميزت بهما نظرياتهم، عندما بدءوا، حوالي عام 1915، بالتشديد والبرهنة على استقلال وحرية الاعمال الأدبية، فضلاً عن الماركسيين المتزمتين (البروليتاريين)، أمثال جي. ليليفتش و المجلة الدورية الموسومة "On Guard". أما الماركسي الآخر أ.ف. لونا تشارسكي، فقد بزّ الماركسيين الضيقي الافق في سعة أفق تفكيره، و ربما كانت مجلته الفصلية "الصحافة و الثورة Press and Revolution" هي المجلة الاكثر حرية في النقاش النظري.
"أن السؤال، أو بالأحرى، الأسـئلة الصعبـة التـي واجهت الأدب الماركسي ومنظريه في الـعشرينـيات بالإمكان تفصيلها كما يلي: هل إن الادب نتاج فرعـي بحت للنزاع الاجتماعي، و هل أنه مجرد سـلاح فـي الصراع الطبقي، مهما كان كامناً او بعـيد الـمدى، أو هل له مقتضيات تخصه، ليس بالامكان استخلاص من "جذوره الطبقية class roots" و لا من مضـمونه الاجتماعـي؟
و مع ذلك فالمشهد كان يسيطر عليه مفكرون دافعوا، دون قبولهم بالشكلانية، عن نظرية مرنة للحتمية الطبقية class-determinism،  سمحت بوجود قيمة جمالية يدعو لها كتاب من غير الاشتراكيين، مع وجود اهتمام حقيقي بالشكل الفني. و لقد استنتج ليون تروتسكيLeon  Trotsky، قبل إقصائه و نفيه، بأن الفن ما هو "إلا حرفة، لتغيير الواقع و تحويله، يتوافق مع القوانين الخاصة بالفن" (الأدب والثورة 1924). إن هذه القوانين التي لا يمكن إنزالها، و لغايات افتراضية، إلى مرتبة القوانين الخاصة بالتغيير الاجتماعي، قد تكون مجالاً لدارسي الفن، الذي يجب عليهم تقييم الفن على ضوئها (ص178). لقد انتقد نيكولاي بوخارين Nikolai Bukharin (في مقالات عدة 1925-27، و ترجمت تحت عنوان "مشكلات الادب السوفيتي")، الشكلانية على أنها تحريف للفن عن سياقه الاجتماعي، و مع ذلك فهو وجد ان التحليل الشكلي يعد جانباً ضرورياً من الحرث الذي يتطلبه الفهم الامثل للعمل الفني. في حين أكد أ. فورونسكي A. Voronsky (في كتابه "البروليتاريا و الادب" 1927) على وجود مظاهر "وراء طبقية supra-class" في كل عمل فني فذ. و هو ما يفسر سبب امكانية ان ينتج كاتب لاشيوعي عملاً فنياً ربما كان افضل، من الناحيتين الجمالية والايديولوجية، من عمل ينتجه كاتب حزبي.
       
لقد عالجت النقاشات التي دارت في عشرينيات القرن العشرين المتواصلة بحدة ايضاً مسألةً داخلية لها علاقة بعلم الجمال الماركسي اللينيني. إذ واجهت الحتمية الاجتما-تاريخية تناقضاً ظاهرياً صعب الحل عند التطبيق العملي . ذلك لأن الماركسية كان قد جرى تصورها، و منذ نشأتها الاولى، كونها فلسفة براغماتية: و هذا يعني ان غايتها ليس فهم العالم فحسب، بل تغييره أيضا. إلا أن "البناء الفوقي" (الذي تنتمي إليه الفلسفات) ما لم يكن ظاهرة ثانوية مصاحبة لظاهرة جوهرية تشأ عنها، فان الفلسفة بذاتها قد تغدو عاجزة تماماً. ذلك، لان التطابق بين اعمال الفن ونسيجها الاجتماعي اذا كان مناسباً جداً (حتى إن لم يكن تاماً)، فقد تبدو اشكال السيطرة السياسية على الفن جميعها لا طائل من ورائها، وغير ضرورية على حد سواء. نقول لا طائل من ورائها، ذلك لانه طالما أن تغيير الفن غير ممكن (و إن كان بالامكان كبته)، إلا في ما بعد تغير النسيج الاجتماعي، فانه يبقى لا ضرورة له، ذلك لأنه ما أن ينتقل المجتمع من الرأسمالية الى الاشتراكية، فان فنه سيكون ملزماً بالتغيير أيضا، لان المجتمع الصحي سيعبر عن نفسه حتماً بدرجة ما من التكيف السياسي، و قد يكون من ناحية ثانية مطلباً لجعل نشاط الرسام والشاعر يسير بتوافق مقبول مع الاحتياجات الاجتماعية، وبذا قد لا يكون الفن اكثر من مرآة للتغيير، وقد يكون وسيلة من وسائل تلقين الناس وتعريفهم بدورهم الجديد في المجتمع الاشتراكي القادم.
و لقد بلغت هذه النقاشات ذروتها حوالي نهاية عقد العشرينيات حين استعملت القوة في حركة من السلطات السوفيتية لانهاء النقاش الدائر، على الرغم من انه كان نقاشاً مثمراً، غايته التقليل من شأن الاختلافات الناشبة حول المسائل الجمالية. و لقد شعر الحزب تحت قيادة ستالين بان أوان صهر المجموعات الثقافية قد أزف ، وذلك بالإصرار على وجود جبهة موحدة تقوم بتوضيح المبادئ الاساسية الماركسية الينينية في علم الجمال. ولقد جرى انجاز هذه المهمة في المؤتمر الاول لعموم الكتاب السوفيت عام  1934، الذي سميت فيه "الواقعية الاشتراكية Socialist Realism" بوصفها علم الجمال الماركسي اللينيني. و لقد جرى تعريف هذا المفهوم من قبل اندريه جدانوف Andrei Zhdanov في النظام الاساسي لإتحاد الكتاب السوفيت:
"إن الواقعية الاشتراكية هي المنهج الاساس لـلأدب السوفيتي وللنقد، فهي تطلب من الفنان تقديم تـمـثل صادق وملموس تاريخياً للواقع في تطوره الـثوري، و يجب عليه فضلاً عن ذلك المساهمة في التـحول الإيديولوجي وفي تربية العمال على روح الاشتراكية".
 و يجري هنا نطق المبدأين، مثلما هو واضح، على نحو يجعلهما عرضة للتناقض. انه ليسير على المرء التفكير في الحالتين اللتين لا بد ان تخلي احداهما مكانها للأخرى ، وهما إما طلب الحقيقة، او طلب دعاية فعالة. وفي الماركسية اللينينية يجرى التوفيق بين الافتراضات في العبارة القائلة "الواقع في تطوره الثوري". و لقد جرى وضع الاساس لهذا التوفيق، من الناحية الفعلية، على يد ماركس وانجلز. كان ماركس معجباً ببلزاك Balzac لسبب هو ان بلزاك، وعلى الرغم من استسلامه لتضليل الافكار الملكية، كان قادراً على التمييز بين القوى الاجتماعية المتحولة في المجتمع المتفسخ الذي صوره آنذاك على نحو شامل ودقيق. و بذا كان قادراً في رواياته على تصوير تنبؤي للشخصيات الطالعة للوجود في زمن لويس فيليب، ثم ازدهرت في زمن نابليون الثالث. إن نظرته الديناميكية للظرف الاجتماعي تكشف قواه الموجهة و بشائره، والمستقبل الكامن فيه. والمهمتان اللتان تكشفان هذا الهدف الضمني، إذ تساعدان في إدراكه ، فإنهما، إذن، ستتزامنان. وعلى النحو ذاته كتب إنجلز الى مارغريت هاركنيس Margret Harkens (نيسان 1888) عن روايتها "بنت المدينة City Girl"، بانه على الرغم من ان الطبقة العاملة قد تظهر بوصفها "جمهوراً سلبياً passive mass"، فان روايتها قد تكون اكثر  "نموذجية" لو انها اظهرت الجماهير على انها تحمل في داخلها بذور الفعالية الثورية. و لقد جرى في وقت لاحق توضيح المعنى الذي استعمل فيه مصطلح "نموذجي typical" من قبل احد علماء الجمال الماركسيين: "تعد الشخصية character نموذجية، بهذا المعنى التقني، عندما يتحدد الكائن الاعمق الذي فيها من قبل القوى الموضوعية الفاعلة في المجتمع".
       
و شهدت ثلاثينيات القرن العشرين بروز اعمال كتبها نقاد ماركسيون في البلدان الاوروبية الغربية و الولايات المتحدة الأمريكية. و لقد تولى اغلب هذا النقد على عاتقه، تفسير (احياناً مثيراً للإعجاب، و متكلفا احياناً) مناهج و مبادئ الماركسية الينينية، دون التوسع بها او تزويقها. و لقد كان رالف فوكس Ralf Fox في كتابه "الرواية و الناس" (1937)، وكريستوفر كودويل Christopher Caudwell في كتبه الثلاثة "الوهم و الناس" (1938)  و "دراسات في ثقافة ضحلة" (1937)، و بخاصة كتابه "دراسات أعمق في ثقافة مضمحلة" (1949)، يعدان إثنين من المنظرين الذين فسروا بعض اهم طرق التفكير الشائعة في تلك الآونة.
       
و تجلت الواقعية الاشتراكية بوصفها نظرية نقدية (الغاية منها تفسير الفن و تقييمه)، وبوصفها أيضا مرشدا للممارسة الفنية. ففي الجانب الأول، كانت تقوم بتصليب وتعيير المبادئ التي جرى تتطويرها خلال عقود عدة من السنين. وفي الجانب الثاني كانت اشبه بقانون دولة، أو محاولة، لتحديد مسار الانتاج الفني، فضلاً عن اضفائه بموجب المشيئة التي تقررها السياسة. فوصلت إلى درجات من التحديد لسنا بحاجة لذكر تفصيلاتها هنا. ففي سبيل المثال، وفي جو تنفيذ الاجراءات الصارمة المتخذة بحق المؤلفين الموسيقيين عام 1948، حين أصرت السلطة الرسمية السوفيتية على تنفيذ المزيد من البرامج الموسيقية و الالحان المغناة و الايقاعات الخفيفة، عندما اصبح  اندريه جدانوف آنذاك، وبدعم من مكسيم غوركي Maxim Gorky المتقدم بالسن، المفسر الرسمي للواقعية الاشتراكية والمسؤول عن تعميمها، إذ أدى تصريحه الذي ألقاه في مؤتمر عام 1934 هو القاعدة التي تتجسد في الابداع الفني والرقابة عليه. و لم تكن الواقعية الاشتراكية، في أفضل حالاتها، إلا تعبيراً عن روح العزم على تشجيع الالهام لانتاج فن يستجيب للمتطلبات الاجتماعية في ارقى مستوياته، مثلما قال أ. ف. لوناتشارسكي A.V.Lunacharsky في مقاله له عام  1933:             
"إن التدليل على الوجهة التي يجب ان تأخذهـا القوى الفنية، أو الاهتـمام بالفن، أو الموهـبة الفنية، هو الاستـنتاج الطبـيعي الذي يجـب ان نخرج به من فهمنا للبناء الاجتماعي، نحن نعلم جيداً بأنه بات من حقنا التدخل في  وجهة الثقافة، مبتدئين بالمكننة الموجودة  في بـلدنا، و بالكهربة بوصفها جزءاً مـنها، و مـنتهـين بوجهة الفنون بأشكالها الاكثر رفعةً."

و لقد أدت خطة كهربة البلاد الى ايجاد منهاج في التفكير الجمالي، فإذا كان التخطيط لاحدهما وتوجيهه نحو الافضل ممكناً، فلم لا يصح هذا على الآخر؟ . . لذا، إن كان بمقدور التشريعات و تنفيذها القيام بالمهمة، فانه كان على الفنون ان تكون جادة و متفائلة (و ليس على شاكله "الواقعية النقدية critical realism" التي كانت شائعة في القرن التاسع عشر)، و ملهمة، و رافعة للهمم، و بكل الوسائل المتاحة الجديرة بالمثل العليا للمجتمع الذي انتج تلك الفنون. و ذاك كان هو الأمل.
و من هنا، جرى على نحو منظم الثناء على ممارسات اخضاع الفن، مثلما جرى إخضاع الجوانب الأخرى في الحقبة الستالينية. و بما أن ما اكتبه هنا لا علاقة له بالسياسة، فاني لن احاول تتبع اشكال الحرية والسيطرة التي ظهرت فيما بعد. إذ كان يجري بين اونة و اخرى انتقاد كتاب، و رسامين، و مؤلفين موسيقيين بارزين. و السؤال البارز المثار في كل مرة كان هو: أيستلزم وجود علم الجمال الخاص بالمادية الديالكتيكية منعاً حكومياً لكل انواع الفن سوى فن الواقعية الاشتراكية؟ و على الرغم من ذلك، فان اشارات عن وجود تفكير فعال و مستقل ضمن الحركة الماركسية كانت بارزةً بوضوح.
E. Fisher
نشر الكاتب النمساوي ارنست فيشر Ernest Fischer، مثلاً، كتاباً ذا تأثير و كان عميقاً ايضاً، عنوانه "ضرورة الفن The Necessity of Art"، و هو أحد المقتربات الماركسية المهمة، إذ أكد فيه بالحجة، و بالتفصيل، إعتماد الشكل على المضمون في فنون عديدة، محتجاً بوجود نزعات فنية متنوعة (مثل الاغتراب، و الهروبية و التجرد من الانسانية..الخ)، بوصفها حتمية الحصول في ظل الرأسمالية (ف3). و بذا، توصل الى تحليل حي، لا يخلو من البلاغة احيانا، لقيم و وظائف الفن في مجتمع تسوده الاشتراكية.

اما عالم الجمال الاعظم في تلك الاونة فهو الناقد الهنغاري جورج لوكاشGeorg Lukasz. و على الرغم من انه ظل فترة خارج الاهتمام الرسمي في الكتلة السوفيتية، بسبب قبوله ان يكون وزيراً للثقافة في نظام إمرى ناجي Imre Nagy لمدة قصيرة (1956)، فانه قام و على مدى عقدين من السنين بتقديم مساهمات مستقلة و حاذقة في الماركسية اللينينية. ففي دراساته المفصلة لاعمال بعض الكتاب و الاساليب الفنية التي اتبعوها قام لوكاش بجهد كبير لتوضيح الاختلافات الموجودة بين الواقعية الاشتراكية و بين الوسائل التي "يعكس" بها الادب الواقع بموجب النظرية الماركسية. فهو يقول "في اي علم آخر للجمال لا بد ان يحتل التصوير الصادق للواقع موقعاً مركزياً مثل ذاك الذي يحتله في الماركسية" (معنى الواقعية المعاصرة ، ص 101). و مع ذلك فان "الحقيقة" هنا لا تعني ما يراه الكاتب في الظاهر او ما يريد ان يراه.
G. Lucas
و لقد جرى، من ناحية ثانية، التغافل عن المشاكل الحقيقية في كتابات الحقبة الستالينية، مثلما حصل مع النزعة الاقتصادية الذاتية economic subjectivism، إذ أصبحت صحة أية حلول معينة موضوعاً للدوغمائية  dogmatism. و كف الأدب عن القيام بدوره بوصفه مصوراً للتناقضات الحية في الحياة الاجتماعية، إذ تحول الى مجرد مفسر لـ"الحقيقة" المجردة . و لقد جرت المبالغة في ابراز مجمل النتائج الجمالية التي افرزتها وجهة نظر مثل هذه، سواء اكانت هذه "الحقيقة" صادقة حقاً، أو كانت مثلما يحصل في اغلب الاحيان، مجرد كذبة، او نصف حقيقة، حتى إن الفكرة الغامضة للادب، بوصفه تفسيراً، كانت هي الفيصل النهائي على جودة الكتابات او عدمها  )ص 119 ).

و في بولندا فقد نشر ستيفان مورافسكي Stefan Morawski، من جامعة وارسو، مقالة مهمة عنوانها "تهافتات في نظرية الواقعية الاشتراكيةVicissitudes' in the Theory of Socialist Realism" (1961)، و ابتغى فيها "نزع قشرة النظرية الواقعية الاشتراكية التي غلفها بها الاطار الجدانوفي ما ادى بالتالي الى خنقها" (ص163). و يشدد مورافسكي على اهمية العناصر الواقعية الاشتراكية التي حفلت بها الكتابات الروسية العظيمة التي ظهرت خلال عشرينيات القرن العشرين، و التي جادلت في اهمية حرية الفنان في التجريب الشكلي بوصفها شرطاً ضرورياً لقدرته على تحقيق الغاية الاجتماعية و الاخلاقية و بافضل السبل. فهو يقول "ان النظرية الواقعية الاشتراكية لا بد لها ان تكون (نظرية متفتحة)، و أنا اعني بذلك انها يجب ان تكون على استعداد لدخول مجال فن الجدل مع النظريات الاخرى المعاصرة فيما يخص المشاكل التي تتصدى لها، و عليها ايضاً ان تتصدى للمقارنة الجارية بين الظواهر الفنية الجديدة" (ص136).

و انه بالفعل، مثلما أشار مورافسكي، لقد تطور علم الجمال الماركسي اللينيني، في جميع المراحل الصعبة التي مر بها" من خلال التحاور الساخن مع اساليب اخرى مختلفة للتفكير. في البداية كان الجدال مع الهيغليين ثم آخر الامر مع الكروشيين (نسبة الى بنيديتو كروشة الناقد ألأدبي – المترجم) و الشكلانيين. إذ جرى تفسير منهج ماركس القائم على اساس "الاستيعاب من خلال الجدال assimilation by polemics" في سياق هذا التطور و في سياقات أخرى. و في عدد من المسائل المهمة التي تخص كل المهتمين بعلم الجمال، مثل مسألة اصل الفن و وظيفته و تفسير الاعمال الفنية و تقييمها، و موضوعية و ذاتية الجميل، و اتجاهات الخلق الفني المستقبلية الممكنة، و وقوع الفنان في الغربة عن مجتمعه، و الكثير من التفكير الذي يجري تداوله بين الفلاسفة الماركسيين، و فلاسفة من غير الماركسيين. فضلاً عن ان الكثير من الاستبصار قد تحقق عند كل من الجانبين، مما ساعد على ان يستفيد كل جانب، على نحو يفي بالمرام، من الجانب الآخر.

a_kh_shalan@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق