بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 15 أكتوبر 2016

مقالة في مراجعة ذكرياتنا العائدة ... تقليب صفحات الماضي:عرفانا بالجميل لمن علـَّمونا

An essay on memories coming flooding back …
Turning pages of the Past with Gratitude to the Professors Who Taught Us

By: Ahmed Khalis Shalan
(issued in Al-Zamaan Jourjal Jan. 2008)
مقالة في مراجعة  ذكرياتنا العائدة ...
                      تقليب صفحات الماضي . . عرفانا بالجميل لمن علـَّمونا
 احمد خالص الشعلان
(منشورة في جريدة الزمان-كانون ثاني 2008)
Prof. Dr. Abdulwaheed Mohammed
Ahmed Kh. Al-Shalan
مع أن الأمر قد يبدو سهلا للبعض منا . . إلا أن الكتابة عن أناس عرفناهم و عشنا معهم و صاروا لنا قدوة هو شئ  ليس بالهين. فاستحضار الكلمات المناسبة لمثل هذا الأمر لا يأتي هنا إعتباطا، و إنما يأتي من القلب والفكر معا . . شئ ما يجيش به الصدر، ثم يزدحم به الذهن قبل أن تتلبسه الكلمات.
          و نحن ليس في كل يوم، و لا في كل شهر، بل و لا في  كل سنة نصادف من يمنحنا الفرصة لإيجاد نقطة نتناغم بها مع الكون. و عرفانا مني بالجميل، أقول هنا، بما يشبه الإعتراف بأن أستاذتي الفاضلين، و يأتي في أولهم البروفسور د. عبد الواحد محمد، كانوا خير عون لي في مسيرة العلم . . و د. عبد الواحد محمد كان هو بالذات من وفر لي هذه الفرصة، فتلقفتها، و لم أخيب ظنه أو أمله بي . . فتحولت من مترجم مغمور الى مترجم معروف تنفتح أمامه مجالات النشر أينما ذهب. و لكن بقيت في حضوره، أو في حضور الأساتذة الذين من طرازه، ذاك المترجم المبتدئ الذي يتلهف لإكتساب المزيد من العلم من أعلام الترجمة.

كان دعمه لي معنويا خالصا، لا تشوب كرمه شائبة.

عرفت الأستاذ عبد الواحد محمد منذ سبعينيات القرن العشرين من خلال ما كنت أقرأ له من كتب و مقالات منشورة. و لم أتعرف عليه إلا في منتصف التسعينيات من القرن الماضي. قرأت له الكثير، من الروايات و القصص المترجمة، ثم قرأت له في النقد الأدبي المترجم، و في النقد الترجمي . . و لا أحد ينسى في هذا المجال تلك القصة الجميلة "كلب الصيد الأبيض ذو الأذن السوداء" للكاتب ترويبولسكي، و لا "الغرانيق المبكرة"  للشاعر إيتماتوف، و لا "الكوخ المغطى بالمتسلقات" تلك القصص الصينية الجميلة، و لا قصص مجموعة "ضفة النهر الثالث" من أمريكا اللاتينية، و غيرها الكثير مما لا تسعفني الذاكرة على تذكره، فضلا عن الزاد النقدي المترجم الذ ي وهبنا إياه في العديد من الكتب و المقالات.

كان تعرفي على الأستاذ عبد الواحد محمد واحدة من الصدف السعيدة، و إن لم أكن مبالغا، التي كانت قد غيرت لي مجرى حياتي إلى حد لم أندم عليه يوما . . ففي منتصف تسعينيات القرن الماضي، التي كانت إضافة الى الى الفقر المادي، كانت أعوام خراب و جدب روحيين، صادف إني كنت في بداية صيف 1995 مع صديق لي في طريقي إلى بغداد، قادما من بعقوبة، و كان هذا الصديق هو المرحوم "محمود علي"  قد إلتحق بالدراسة المسائية في كلية اللغات، فحدثني عن دورة للترجمة أمدها شهران تنظمها الكلية فإقترح عليّ الإلتحاق بتلك الدورة، للإنشغال في شئ مثمر على الأقل، تعويضا معنويا عن إنهيار مصالحنا آنذاك بسبب الحصار الدولي الجائر المفروض من أمريكا و حلفائها على الشعب العراقي . . و لأني أساسا كنت أمارس الترجمة منذ زمن طويل يمتد الى مطلع سبعينيات القرن العشرين، و لكن دون دراسة لأصولها، وافقت على إقتراح صديقي محمود علي فورا وذهبت معه لألتحق بتلك الدورة التي إبتدأت بعد أسبوع.

كانت المفاجأة الكبرى لي هو أن يكون المدرسان اللذان حاضرا في تلك الدورة هما ألأستاذ عبد الواحد محمد و المرحوم د. سلمان لعقيدي مترجم رواية "حبة قمح" رواية الكاتب واثونغو المشهورة . . كانت محاضرات المرحوم العقيدي في ترجمة القصة و الرواية، و محاضرات أستاذنا عبد الواحد محمد في ترجمة الشعر . . و من هنا بدأت آنذاك و منذ تلك اللحظة رحلتي الجديدة مع المعرفة، فوضعتني في مسار ذكرني بأشعار لشاعر روسيا بوشكين يقول فيها:
                                          "ملك أنت
                                           فإمضِ بحرية
                                           على الدرب الفسيح
                                          أينما يقودك عقلك الملكي"          
صارت الترجمة . . منذ ذاك الزمان مملكتي، التي تأتيني بالسعادة بمختلف ألوانها، و منها سعادة الحب، حب في زمان الخراب! . . ما ذكرني بالحب في زمن الكوليرا الذي كتب عنه ماركيز.

كان صفنا آنذاك . . في دورة الترجمة تلك، مكتظا، متخرجون من أقسام اللغة الإنكليزية من مختلف الكليات يبحثون عن طريق للترجمة . . موظفون رشحتهم دوائرهم لتستفيد منهم في علاقاتها الخارجية . . و أناس ضاقت بهم السبل و ضاقوا ذرعا بالظروف من أمثالي جاؤوا لمجرد تزجية وقت الفراغ او للبحث عن فرص لعلاقات جديدة . . و غيرهم نساء و رجال . . أذكر ان الأستاذ عبد الواحد محمد أعطانا مرة واجبا بيتيا يتكون من مقطعين من قصيدة ت. س. اليوت الشهيرة "الأرض اليباب" . . عدنا في المحاضرة التالية بترجماتنا التي سلمناها للأستاذ . . و عاد بها إلينا في اليوم الذي بعده مختارا واحدة من ترجمات المتدربين في الصف، دون أن يقول لهم أنها ترجمة لزميلهم و معها ترجمة للمقطعين نفسهما لمترجم و أستاذ أكاديمي معروف، و ذلك لإجراء المقارنة بين الترجمتين! . . و بعد مناقشة و جدال إتفق رأي الأستاذ عبد الواحد محمد و أكثرية الطلبة في الصف على أن ترجمة الطالب أفضل من الترجمة الأخرى . . و هنا جاءت المفاجأة من الأستاذ ليعلن للطلاب بأن الترجمة المختارة من بين الإثنين كونها الأفضل هي لزميل لهم و أشار نحوي، فإستدار الصف كله إليَّ ليرى الطالب ذي الحظ السعيد الذي أحمر و عرق و طار قلبه و حلق! . . و إزداد وجهي توهجا و تألقا و قلبي خفقانا، حين  أضاف الأستاذ عبد الواحد قائلا "بإمكانكم أن تعدوا ترجمة زميلكم لهذين المقطعين ترجمة عراقية معتمدة تضاف للترجمات الأخرى . .  و ما أزال أتذكر أن أحد زملائي، و كان خريجا من كلية ألآداب و أحد الأوائل الشباب على دفعته، و كنت قد تجاوزت الخمسين عمرا، قال معلقا:
-          لم يقل لنا زميلنا من أين تخرج!
 قالها حسبما أتذكر بطريقة إستفزازية تنضح بالحسد، فرددت عليه قائلا:
-          من مدرسة الحياة و من مدرسة مواهبي الشخصية!
 فرد معلقا :
-          . . . هممممم!
فعلق الأستاذ عبد الواحد محمد مشيرا نحوي:
-     و لكنه بإمكانه أن يدخل الدراسة المسائية و بعد أربع سنين قد تمضي مثلما تمضي أربعة أيام سيكون لديه شهادة مثلك!
ثم توجه نحوي مضيفا:
-          فما رأيك؟

كان ما قاله الأستاذ عبد الواحد محمد شيئا مذهلا . . يقترح عليّ رحلة سحرية لم تخطر يوما ببالي قط! . . و ما كان الأستاذ عبد الواحد يدري أنه بعبارته تلك السحرية تلك قد فتح لي باب جنة أرضية، و باب ملكوت معرفي يعوضني عن خسارتي المادية و الروحية و العاطفية، و كأني به في تلك الأيام العجاف يدلني على ما أريده، و لم أكن لأعرفه لولاه!

إلتحقت في نهاية ذاك الصيف بكلية التربية (إبن رشد)، و بذلك خطوت أولى خطواتي في مملكة المعرفة المنظمة و نعيمها. و رحت أسكر فيها بخمر لم أذقها في حياتي السابقة قط. أتذكر أني بعد إنقضاء أول يوم لي في الكلية، إني إستدرت تجاه كلية اللغات، و قلت بصوت هامس:
-    شكرا لك أستاذ عبد الواحد محمد، فلولا كلماتك السحرية تلك، ما كنت هنا اليوم بين هذا الحشد من الناس من مختلف الأعمار . . كهولا و شبابا من النساء و الرجال . . كل يسعى إلى مملكة تعوضه عن خسارته . . التي سببها له ضبع أزلي أسمه الزمن!

و تذكرت أبيات بوشكين تلك عن الملوكية و الحرية مرة أخرى، و القمر ينشر ضياؤه الفضي في تلك الليلة الخريفية . . كنت ملكا بحق ينتظر ملكة مجهولة تظهر له من بين هذا الحشد تبحث هي أيضا عن ملك مجهول! . . كان في الواقع إحساس بالنشوة لم أكن قد جربته قط لعقدين خليا من السنين!

هناك في كلية إبن رشد، لم أكن أرى أستاذ عبد الواحد، و لكنه كان حاضرا معي في كل لحظة . . أحكي دون أن أمِّلَّ، و من فرط سعادتي، حكايتي مع أستاذ عبد الواحد لكل زميل يجلس معي، عرفانا مني بالجميل . . و زادت هناك معرفتي باللغة، فإنفتحت أمام إمكانياتي العقلية أبوابا لم تكن تخطر ببالي من قبل قط. و تهذبت ترجمتي على ضوء ما عرفته من أسرار عن اللغة. و واظبت على الترجمة . . و كان أفضل ما أنتجته اثناء وجودي في الكلية، هو ترجمة قصيدة إليوت الطويلة "قصة حب جي. آلفرد بروفروك"، التي كانت من مواد مقرر الشعر . . و صارت ترجمتي تلك لإليوت عونا لزملائي في تفسير القصيدة و دراستها، فضلا عن إعجاب مدرس الشعر آنذاك بها أيما إعجاب، فنصحني بنشرها . . و هنا أيضا لم أتردد في أن أسرد له حكايتي  مع أستاذ عبد الواحد، لأنه وفر لي فرصة الإستمتاع بلحظات سعادة غامرة مثل تلك.

إنقضت أعوامي الأربعة في كلية التربية، مثلما تنبأ الرجل أستاذي، و كأنها أربعة أيام، لدرجة إني حزنت لأنها أنقضت بتلك السرعة الهائلة، لأني تعودت على جو الدرس، و إنتهاء الدراسة عندي كان يعني العودة إلى أيام الجدب.

و لكن حزني تبدد، حين قبلت، لأنني من أوائل دفعتي (ثالثا)، في الدراسات العليا في كلية اللغات في دراسة الدبلوم العالي المعادل للماجستير في الترجمة عام 1999. . و هذا يعني أن أبوابا أوسع لا تحصى ستنفتح أمام موهبتي مترجما. و أهم من ذلك كله سأعود، بمعنى أكاديمي، من جديد إلى كنف الأستاذ الذي كان وراء إنطلاقتي في الدرب اللامتناهي  للترجمة، و لكن الملئ بالصعاب، دون ريب . . ما يعني أيضا الوقوف على شواطئ المعرفة الأشمل و الأصعب. . فمن أين يا ترى سيأتيني الشراع الذي يساعدني على أن تمخر سفينتي في هذا العباب . . ما يعني ربما الوقوف على حافة برية لا حدود لها، فمن يا ترى يجرؤ و يضع للبرية بابا يدخل منه إلى مجهولها!

 أجمل ما في تجربة الدراسة العليا في كلية اللغات تلك كانت مهنيتها العالية بفضل أساتذة كان في مقدمتهم الأستاذ عبد الواحد محمد، و آخرين معه يشاركونه همه الأكاديمي، لدرجة أن ذاك الحرص الأكاديمي قد أدى فيما بعد إلى إن لا يصمد من مجموع عدد دفعتنا البالغة أربعة عشر دارسا ذاك العام سوى أربعة فقط امرأتان و رجلان كنت أحدهما . . كان الأستاذ عبد الواحد يدرسنا تطبيقات الترجمة من الإنكليزية إلى العربية و بالعكس. فكان يختار لنا من النصوص أصعبها و أنفعها، مما يزيد في ذخيرة خبرتنا الترجمية، و من صنوف و مستويات شتى . . ترجمات علمية و أدبية . . شعر . . خاطرة  . . قصة . . مقاطع من روايات . . نصوص تاريخية و جغرافية و علمية . . و كان هذا الجهد المنوع، بما يحمله من إغناء روحي و لغوي و معرفي عام يذكرني دائما بمقولة إبن رشد، المطلقة الصحة و الخالدة في آن، إذ قال: "ما علمت أكثر إلا و إزددت علما بجهلي!" . . و حصل أن كلفنا مرة بترجمة نص من العربية إلى الإنكليزية، فاطلع على ما أنجزت، و أعجب بالوصف الإنكليزي الذي أنجزته لمناخ النص العربي الأصل. فسألته:
-          هل تظن أن البذرة التي زرعتها في قبل أكثر من أربعة أعوام قد أثمرت؟
رد على قائلا :
-          بالتأكيد  . . و قطافها دانيات!

كنا أحيانا تتلبسنا الحيرة واقفين . . أنا و الطالب الرجل الذي معي، و معنا البنتين الدارستين و كانتا أصغر من عمرينا بكثير، اللتين أصبحت أحداهما فيما بعد زوجتي! . . كنا نحن الدارسون نقف حائرين أمام نصوص التطبيق التي يأتينا بها الأستاذ عبد الواحد، لا لصعوبتها فحسب، و إنما أيضا لما تحمله من تحد و إغراء على الأقل، بخاصة لي أنا، و كأن أي من تلك النصوص هو التفاحة التي أغري بها آدم، فأنزلته من جنة وهمية إلى واقع فيه الجنة و النار معا! . . و كانت أعظم  نوبات تلك الحيرة تنتابنا  في قاعة الإمتحان، سواء أكان إمتحان نهاية المنهج المقرر أو إمتحان التنشيط المعرفي الأسبوعي القصير quiz. أتذكر أنه في أحد إمتحانات نهاية المنهج المقرر أنه أتانا بأبيات شهيرة لشاعر أندلسي طالما سمعناها تنشد في الموشحات:
جادك الغيث إذا الغيث هما                 يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما في                 الكرى أو خلسة المختلس   
..........إلى آخر ألأبيات

هذا شعر فيه من مواطن الجمال ما يجعل مترجمين فطاحل  ينحنون إجلالا للجمال الذي فيه لدرجة أنهم  قد يأخذون، قبل ترجمته، وقتا كافيا لتأمل الجمال الذي فيه أولا و إستيعابه قبل الشروع بترجمته، لأن العبث بمثل هذا الجمال و تشويهه عند نقله الى لغة أخرى قد يكون فيه إساءة للنفس و للنص . . فما بالك و قد سُئل طالب في قاعة إمتحان لترجمته! . . أذكر أن زميلي الطالب الآخر في حينها قرر ألا يجيب على السؤال، فيخسر الدرجات المخصصة له . . و أضطر لإعادة الإمتحان . . و هكذا قضي الأمر!

 أكبر نوبات الإثارة عندي . . أتتني حين أصبح الأستاذ عبد الواحد محمد مشرفا على مشروعي الترجمي لنيل درجة الدبلوم العالي في الترجمة . . لقد كان مشروعي الترجمي هو ترجمة كتاب الناقدة الإنكليزية  "هذر ديوبرو" الموسوم "الجنس ألأدبي" . . أمد إنجاز المشروع هو سنة كاملة، مثلما هو الحال في كتابة رسالة الماجستير، و لهذا السبب كانت شهادتنا الدبلوم معادلة للماجستير . . و مع ذلك، فقد أنجزت المشروع في فترة قياسية هي ثلاثة أشهر بمساعدة الأستاذ عبد الواحد محمد، الذي كان يقرأ لي العمل كلمة كلمة أثناء جلوسنا سوية، فيصوب لي الكلمة و يصحح لي بناء الجملة لتكون الأوفى بالمعنى بروح عالم يندر وجوده . . و أجمل ما فيه أثناء ما كنا نجلس ليناقش معي عملي هو أنه، و بروح أكاديمي شفاف، يناقش معي المفردات و المصطلحات غير المطروقة إلى أن نتوصل إلى ما هو أنسب . . و كان يقول لي في مثل هذه الحالات:
-    علينا التريث و التفكير، لأن هذا سيعد تأسيسا نتحمل مسؤوليته نحن أنا و أنت، الطالب و الأستاذ سوية . . و من سيأتي بعدنا سينحو نحونا في هذا المجال.

عرفت الأستاذ عبد الواحد محمد كاتبا، و عرفته مترجما، من خلال ما نشر، ثم تعرفت عليه مدرسا، ثم أستاذا لي و مشرفا على بحثي لا يبخل بعلم أو مشورة، و أهمها جميعا أني تعرفت  عليه "إنسانا" بكل ما في المعنى من وصف، دافئا و متعاونا، و ناصحا و موجها و حازما و مازحا . . و بسبب دماثة خلقه، أنه حين كان يغضب لا يتعدى غضبه الكرسي الذي يجلس عليه . . و هل ثمة أجمل من هذا! . . ألم يقل مرة "أن للصفة أخوات . . إذا كانت مناقبا!".
(منشورة في جردة الزمان)

(published in Al-Zamman Journal)











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق